"الحرب على الإرهاب"... وسياسة ترويج الخوف "الحرب على الإرهاب" عبارة مكونة من ثلاث كلمات فقط لا غير، لكنها أوجدت ثقافة خوف عامة في الولايات المتحدة الأميركية. وتلك الكلمات التي جعلت منها إدارة بوش شعاراً وطنياً منذ أحداث 11/9، كان لها تأثير بالغ الضرر على الديمقراطية في أميركا، وعلى الحالة النفسية لشعبها، بل وعلى وضعها في العالم. فاستخدام هذه الكلمات قوّض بشكل فعلي قدرتنا على مواجهة التحديات الحقيقية التي يمثلها المتعصبون الذين، قد يستخدمون الإرهاب ضدنا. والضرر الذي ألحقته بنا تلك الكلمات لم يكن يخطر بالتأكيد على بال هؤلاء المتعصبين الذين خططوا ونفذوا أحداث الحادي عشر من سبتمبر من داخل كهوفهم في أفغانستان. والغريب هو أننا لو أمعنا النظر إلى تلك العبارة، فسنجد أنها خالية من المعنى حيث لا تحدد سياقاً جغرافياً معيناً، كما لا تعرف على وجه الدقة من هم أعداؤنا المفترضون الذين نشن عليهم هذه الحرب. فالإرهاب –تعريفاً- ليس عدواً وإنما هو أسلوب من أساليب الحرب يعتمد على الإرهاب السياسي، من خلال قتل أفراد غير مقاتلين وغير مسلحين. ولكن السر الذي قد لا يعرفه الكثيرون هنا هو أن الغموض الذي تتسم به هذه العبارة، كان مقصوداً من قبل من أطلقوا هذه العبارة. فالإشارة المستمرة للحرب على الإرهاب تحقق -بل حققت بالفعل- هدفاً مهماً بالنسبة لتلك الإدارة ألا وهو زرع ثقافة الخوف. ومن المعروف أن الخوف يغشى العقل، فيجعل الأشياء تبدو أمامه غامضة وغير واضحة المعالم، كما أنه يضخّم من العواطف ويكثفها، ويجعل منها أداة طيّعة في أيدي السياسيين الديماغوجيين، الذين يمكنهم استخدامها من أجل حشد الرأي العام وراء السياسات التي يريدون اتباعها. فالحرب التي خضناها في العراق ما كان لها أن تحصل على الدعم الذي حصلت عليه من الكونجرس، دون ذلك الربط السيكولوجي بين صدمة الحادي عشر من سبتمبر والوجود المُسلَّم به لأسلحة الدمار الشامل العراقية. فضلاً عن ذلك، فإن الدعم الذي حصل عليه الرئيس بوش في انتخابات 2004 يرجع جزئياً إلى فكرة أن الأمة الأميركية "في حالة حرب"، وأن الأمة التي تكون في تلك الحالة لا يفترض أن تغير القائد العام، الذي هو الرئيس، أو تحول دون انتخابه لولاية ثانية. ولتبرير الحرب على الإرهاب، اخترعت إدارة بوش في الآونة الأخيرة رواية تاريخية زائفة، تقوم على الإيحاء بأن هذه الحرب تشبه الحروب السابقة، التي خاضتها أميركا ضد النازية والستالينية، متجاهلة بذلك نقطة في غاية الأهمية، وهي أن النازية والستالينية كانتا تمتلكان قوة عسكرية من الدرجة الأولى، وهو وضع لا ينطبق على "القاعدة" الآن، ولا يمكن أن ينطبق عليها في المستقبل أيضاً. والإدارة عندما تشبّه الحرب، التي تخوضها ضد "القاعدة" بأنها تشبه الحرب التي خاضتها أميركا ضد النازية وضد الستالينية تحقق هدفاً آخر، هو تجهيز ملف قضية شن الحرب على إيران، وهي حرب لو قدر لها الاندلاع، فإنها ستشمل ليس إيران فقط، ولكن العراق وأفغانستان بل وربما باكستان أيضاً. وثقافة الخوف تشبه الجني، الذي يتم إطلاقه من قمقمه، حيث تكتسب هذه الثقافة زخمها الخاص بعد فترة من الوقت، بحيث تؤدي في النهاية إلى تأثير بالغ السوء على الحالة المعنوية للشعب. فلا يستطيع أحد اليوم أن يقول إن أميركا، هي ذاتها أميركا الواثقة من نفسها، ذات العزم التي استجابت لهجوم "بيرل هاربر"... ولا هي أميركا التي أرهفت أذانها ذات يوم لقائدها، وهو يخاطبها في لحظة من لحظات الخطر قائلاً لها: "إن الشيء الوحيد الذي يجب أن نخاف منه هو الخوف نفسه"، ولا هي أيضاً أميركا رابطة الجأش، التي خاضت الحرب الباردة بأسلوب المثابرة الهادئة على رغم أنها كانت تعرف جيداً أن الحرب بينها وبين عدوها، يمكن أن تنشب فجأة خلال دقائق معدودات، وأنها يمكن أن تؤدي إلى مصرع 100 مليون أميركي خلال ساعات من اندلاعها. أميركا اليوم ليست هي أميركا الأمس، فأميركا اليوم مُنقسمة على نفسها وغير واثقة من شيء، ومصابة بحالة من الهلع من احتمال حدوث هجوم إرهابي آخر على أرضها. إن الحالة التي تجد أميركا نفسها عليها اليوم، هي النتيجة الحتمية لخمس سنوات كاملة من غسيل المخ بشأن موضوع الإرهاب، والتي وصلت إلى حد أننا رأينا الرئيس بوش يذهب مؤخراً في معرض تبريره للحرب على العراق للقول إنه سيستمر في تلك الحرب خوفاً من أن يقوم تنظيم "القاعدة" بشن هجوم -من وراء الأطلسي- على الأراضي الأميركية ذاتها. هذا الترويج للخوف يستمد زخمه في الواقع من قبل مجموعة من المقاولين الأمنيين، ومن وسائل الإعلام الجماهيرية، وصناعة الترفيه. نعم فهناك مجموعة من مقاولي الإرهاب يطلقون على أنفسهم اسم خبراء في الإرهاب ويتنافسون فيما بينهم على ترويج بضاعتهم التي يبررون بها وجودهم وهي إقناع الشعب الأميركي بأن بلاده تواجه تهديدات جديدة. وما يقومون به في هذا السياق يضفي أهمية خاصة على تقديم سيناريوهات موثوق بها لأعمال عنف أكثر هولاً يذهبون فيها أحياناً إلى حد إرفاق مخططات كاملة بتلك السيناريوهات تبين الكيفية التي سيتم بها تنفيذها. وحقيقة أن أميركا لا تعد تشعر بالاطمئنان لم تعد تحتاج إلى جدل من أجل التدليل عليها. فهناك إجراءات أمنية سخيفة يتم الآن تطبيقها ليس في المطارات والمواقع الحساسة بل -يا للسخرية- في كل برج من أبراج المكاتب المملوكة ملكية خاصة في العاصمة الأميركية ، حيث يطلب رجال الأمن من كل زائر لتلك المكاتب أن يقوم بتعبئة استمارة يبين فيها هدفه من زيارة ذلك المبنى (وكأن الإرهابي الذي سيفجر هذا المبنى سيوضح غرضه هذا في ذلك النموذج). تلك الإجراءات التي تعددت أشكالها وأصبحت روتيناً عادياً في العديد من الأماكن تكلف الدولة مئات الملايين من الدولارات، كما تساهم في ترسيخ ذهنية الحصار في النهاية. والحكومة ليست هي التي تقوم بذلك بمفردها بل إننا رأينا أجهزة الإعلام المرئية والمطبوعة تُدلي بدلوها هي الأخرى، فبعد أن اكتشفت محطات التلفزيون أن سيناريوهات الرعب تجتذب الجمهور، عمدت إلى استضافة مستشارين أو "خبراء" إرهاب يقومون بتأكيد تلك المخاوف وترسيخها في أذهان الجمهور الأميركي. ولم تغبْ صناعة الترفيه بدورها عن الساحة حيث تقوم بإنتاج مسلسلات وأفلام يحمل فيها الأشرار عادة ملامح عربية، بل وتضفي عليهم بعض الرموز التي تحمل بعداً دينياً، وذلك لاستغلال القلق الذي يعاني منه الجمهور، بسبب ثقافة الخوف التي زرعتها الحكومة في زيادة درجة الخوف من الإسلام فيما أصبح يعرف بظاهرة "الإسلاموفوببا". كذلك تقوم الصحف والمجلات باستخدام نماذج لوجوه عربية، تقوم بتكرارها في رسوم كرتونية تتخذ أحياناً شكل حملات تذكر على نحو يدعو للحزن بالحملات النازية ضد السامية. وقد نتجت عن ذلك كله زيادة حالات التمييز العنصري، وانتهاك الحقوق المدنية، وهو شيء طبيعي لأنه من المعروف أن ثقافة الخوف تعمل على تغذية مشاعر عدم التسامح والشك والارتياب في الأجانب، واتخاذ إجراءات قانونية ضدهم تُقوض فكرة العدالة القائمة على أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. وقد قامت الحكومة الأميركية في سياق تلك الثقافة بالقبض على أشخاص دون دليل -وبينهم أميركيون- وسجنهم لمدد طويلة، دون أن تتيح لهم فرصة الحصول على حقوقهم التي يكفلها لهم القانون. والشيء الذي يدعو للأسى أكثر أنه ليس هناك من دليل معروف أو مؤكد على أن أياً من تلك التجاوزات التي مارستها الحكومة الأميركية ضد الأفراد، قد حال دون وقوع هجمات إرهابية، علاوة على أن أحكام الإدانة الفعلية التي صدرت بشأن بعض الأشخاص الذين يفترض أنهم إرهابيون كانت قليلة وعبر فترات زمنية متباعدة. والحقيقة أن الأميركيين سيجدون أنفسهم يوماً ما يشعرون بالخجل والعار من سجل بلادهم الحالي، مثلما يشعرون بالخجل والعار الآن من حالات سابقة في التاريخ كانت فيها مشاعر الخوف والهلع الجماعي سبباً في اتباع سياسات غير متسامحة تجاه الأقليات. * مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر - وجهات نظر |