القمة العربية بالرياض: القضايا والتوقُّعات بدأت توقعات المراقبين العرب والأجانب بشأن القمة تتضارب وتضطرب. فهناك من يريد رفع التوقعات بالنظر لتحسُّن ظروف الأمة، وشروط المعالجات والحلول. وهؤلاء يذكرون انكسار الهجمة الأميركية على دول المشرق، وارتفاع أسعار البترول أعواماً متوالية، وازدياد الالتفاف العربي من حول القضايا والمشكلات، وظهور الإرادة العربية والقيادة العربية، وتحسُّن نِسَب النمو في سائر دول المنطقة. أمّا المتشائمون فينبّهون إلى أنّ الاحتلال الإسرائيليَّ ما يزال جاثماً بفلسطين دونما توجُّه نحو السلام حتى الآن، كما أنّ الوضع العراقيَّ يزدادُ تفاقُماً ومأساوية؛ في حين تعودُ حالةُ التأزُّم والانقسام إلى لبنان، وتستمر الأزماتُ الكبرى في السودان والصومال. والواقع أنّ كلا الطرفين مُحقٌّ في حدود وجْهَي العُملة الواحدة. ومع ذلك فقد يكون من المفيد التنبُّه إلى أمرٍ إيجابيٍ واضح هو انتظامُ انعقاد القمم العربية في السنوات الأخيرة، كما التنبُّه إلى أنَّ القمم العربية تنوعتْ منذ البدء في عقدها من ضمن العمل العربي المشترك عام 1964. ويمكن في هذا الصدد تمييز ثلاثة أنواع من القمم: القمة العربية التي يكون المقصود بها الإعلان عن ظهور زعامةٍ عربيةٍ جديدة؛ وهو الأَمْرُ الذي أُعلن عنه في انعقاد القمة الأولى بالإسكندرية عام 1964. وما عنى ذلك وقتها أنه ما كانت هناك مشكلات إذ الواقع أنه بُحثت يومها ثلاثة أمور: مشروع بناء سدود على نهر الأردنُ، وقضية عودة النشاط الذاتي للفلسطينيين (منظمة التحرير فيما بعد)، والقيادة العربية المشتركة (في مواجهة إسرائيل). لكنّ المقصود بالإعلان عن الزعامة أنّ مصر قدّمت تلك الرؤى، وأسهمت الإسهامَ الأكبر للسير فيها، وكانت تمتلك الإرادة والرغبة في ذلك. أمّا النوعُ الآخَرُ من أنواع القمم، فهو ذلك الذي يمكن التعبير عنه بأنه قمةُ الأزمة؛ وذلك حين تتفاقم المشكلات، ولا تكونُ هناك إرادةٌ ولا قُدرةٌ على المعالجات والحلول. وهذا النوعُ من القمم ساد فيما بين السبعينيات وأواسط التسعينيات. وهما عقدا الانقسام العربي (1975-1995). صحيح أنّ العرب كانوا وقتها قد أنجزوا نصر حرب أكتوبر، وظهروا للعالم في جبهةٍ موحَّدةٍ من خلال قطع النفط عن الخارج. لكنّ الملك فيصل قُتل عام 1975، وبدأ غيابُ مصر التدريجي دوراً وتأثيراً عن الصراع العربي/ الإسرائيلي، وعن المشرق، وساد الصراعُ على الزعامة بين العراق وسوريا. وكان التعبير الأوضح عن أزمة القرار العربي انفجار الحرب الأهلية بلبنان واستمرارها قبل الاجتياح الإسرائيلي وبعده، والاتجاه لضرب منظمة التحرير الفلسطينية في كلّ مكانٍ دونما ممانعةٍ عربية قوية، وزيادة التدخل الأجنبي الدبلوماسي والعسكري في الشؤون العربية الداخلية، واندلاع الحرب العراقية/ الإيرانية المدمِّرة. وفي ظروف التأزُّم تلك وإلى ما بعد غزو الكويت، ضعُف العمل العربي المشترك من خلال الجامعة العربية التي خرجت منها مصر، وبرز مجلس التعاوُن الخليجي، ومجلس التعاوُن العربي، وقد لجأت الجهات العربيةُ التي تريد استيعاب المشكلات إلى القمم المصغَّرة لبحث مشكلةٍ واحدةٍ ومعالجتها؛ حتى كادت تلك الآلية تحلُّ محلَّ الجامعة، ومحلَّ مؤتمرات القمة. أما النوع الثالث من أنواع القمم لدى العرب، فهو قمة أو قمم المبادرات والمعالجات والحلول. والذي أراه أنّ قمة الرياض الآتية هي من هذا النوع؛ وذلك للأسباب التالية: غياب الانقسامات العربية الحادّة وبخاصةٍ بين الدول العربية الكبرى والأُخرى الفاعلة. ووجود قيادة عربية صاحبة مبادرة عليها إجماع. واتجاه الأجواء الدولية للانفراج. وتفاقُم المشكلات وبؤر التوتُّر مع عدم وجود مصلحةٍ لأكثر الدول العربية في استمرار تلك البؤر وتفاقُمها؛ وذلك كلُّه فضلاً عن تبلور قُدُرات جديدة يمكن وضعُها بالإرادة والمسؤولية في موضع وموقع الفعل. إنّ هذه العواملَ الملحوظةَ جميعاً تُعطي القمة العربية بالرياض نكهةً وإمكانياتٍ لا ينبغي الاستهانةُ بها من جهة، ولا المبالغة من جهةٍ أُخرى. لا ينبغي الاستهانةُ بالقُدرات، لأنّ المملكة العربية السعودية تحركت طوالَ العامين الماضيين بدأَبٍ وثباتٍ وباتجاهين: اتجاه فكّ الحصار الذي فرضه الأميركيون على المشرق العربي بخاصة، والعالمين العربي والإسلامي بعامة. واتّجاه استعادة الملفّات وبلورة رؤى وسياسات من حولها، ليس في المحيط الثنائي أو المشرق العربي وحسْب؛ بل وفي النطاق الإقليمي والإسلامي والدولي. وقد أثمرت تلك الحركيةُ الهادفة تعاوُناً وشراكاتٍ في ملفّاتٍ كثيرةٍ لجهة المعالجة أو لجهة الاستيعاب. لكنْ من جهةٍ ثانية، لا ينبغي التسرُّعُ في اعتبار الأمور منتهية. وذلك ليس لقصور القدرات أو الإرادة؛ بل للتحول في طبيعة التحديات. وما أقصدُهُ أنّ البؤَر التي تحدثْتُ عنها متغيرة الطبيعة. فهناك نوعان من البؤر بالمشرق العربي: البؤر التي يمكنُ تسميتُها أو اعتبارُها قضايا وأبرزُ شاهدٍ عليها قضية فلسطين، والأمر واضحٌ فيها مع الغزو والاستيطان والتشريد. أما النوعُ الآخَرُ فالبؤر التي تُعتبر مشكلات، وهي التي يشترك فيها أو يتشابك العاملان الداخلي والخارجي. والمثالُ الأوضح على ذلك الوضع اللبناني، الذي يولّد فيه التدخل الخارجي ليس انقلاباتٍ كما يحدث في بعض الدول العربية؛ بل انقسامات، فتُصبح المشكلات مزدوجة، ويتعسَّر الحلّ. وحتى غزو العراق، ما كانت هناك بالمشرق العربي غير قضيةٍ واحدة هي فلسطين، وغير مشكلةٍ واحدةٍ هي لبنان. أمّا اليوم فلدينا قضيةٌ ومشكلةٌ بفلسطين، وقضيةٌ ومشكلةٌ بالعراق، بالإضافة إلى المشكلة المتجددة بلبنان بعد زوال القضية بخروج الاحتلال الإسرائيلي. وهذا يعني أنّ الحلول -إن كانت- فستتطلب وجوهاً من التعاون والاشتراك المحلي والإقليمي والدولي. ففي فلسطين لابد من التوفيق أولاً بين "فتح" و"حماس"، والمحاولة ثانياً مع المجتمع الدولي على العودة إلى طاولة المفاوضات من أجل بلوغ السلام الشامل. وفي العراق لابد من الإقناع والاقتناع بالمسالمة والتعايُش، وإقناع دول الجوار بالفائدة من وراء بقاء العراق موحَّداً وعودته إلى الاستقرار، ثم الطلب إلى الولايات المتحدة أن تغادر قواتها البلاد. وفي لبنان، رغم أنه مشكلةٌ وليس قضية؛ لابد من انفكاكاتٍ عربية وإقليمية ودولية، لكي يمكن العودة إلى سدّ الهوة بين الطوائف والمذاهب؛ وسيطرة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها. لقد أقبلت المملكة العربية السعودية على الدعوة إلى مؤتمر قمةٍ عربي، ليس من أجل انتظام الانعقاد فقط؛ بل ومن أجل البلوغ بالمساعي الذروة. فقد أنجزت اتفاق مكة لتحريم الدم العراقي، ثم اتفاق مكة لتشكيل حكومة الوحدة والعمل على فكّ الحصار، وأخيراً جلب اللبنانيين إلى الحوار من جديد. وتُظهر دول الجوار الإسلامي(تركيا وإيران) إرادةً للتسوية والحلّ، وهي تدعمُ جهود المملكة في هذا الصدد. ومع أنه لا ينبغي أن يغيب عن البال، التوتر الأميركي/ الإيراني المتصاعد؛ فإنّ القيادة العربية ذات الرؤية استطاعت وتستطيع جلْبَ الأطراف المحلية والإقليمية إلى المَدَيات المشتركة. وبسبب الطبيعة سالفة الذكر للمشكلات (ذات الأبعاد البنيوية) فلا ينُتظرُ أن ينتهي كلُّ شيء في البؤر الثلاث خلال وقتٍ قصير. لكنّ النزوع الاستيعابيَّ كفيلٌ بتغليب منطقٍ آخَرَ في التعامُل بين الأطراف المحلية، ومنطق المصلحة والوقاية لدى الأطراف الإقليمية. لقد سلكت الولايات المتحدة في السنوات الماضية مسلك دعم "الفوضى البناءة" بحجة مكافحة الإرهاب، والتغيير الديمقراطي. بيد أنّ احتلال العراق زاد من الإرهاب والتطرف. وحتى المواطِن التي انسحبت منها إسرائيل منفردةً وبدون سلامٍ أو مفاوضات؛ حلَّت محلَّها فيها تنظيماتٌ معاديةٌ لها. ولذلك، فإنَّ التسوية من طريق التفاوُض، هي التي تضع الأمور في نصابها، وتحفظ مصالح سائر الأطراف. وهذا ما تقولُهُ وترمي إليه المبادرة العربية. في الرياض يتحدد الاتجاه، وبالمشاركة والشراكة والمثابرة والجدية قد تتطور الحلول المؤقتة إلى حلولٍ دائمةٍ افتقرنا إليها في العقد المنقضي، بالمسؤولية الذاتية، وبالتدخلات الخارجية . وجهات نظر |