المؤتمر نت - باتريك سيل
باتريك سيل -
من حرض الولايات المتحدة على حرب العراق؟
خلية في البنتاغون، تعمل في الظل، هي «مكتب المخططات الخاصة» التي يرأسها دوغلاس فايث، مساعد وزير الدفاع السابق للشؤون السياسية، هي التي اختلقت، وعن سابق تصور وتصميم، معلومات مخابراتية تثبت وجود علاقة بين نظام صدام حسين ومنظمة القاعدة، بهدف تحريض الولايات المتحدة على شن الحرب على العراق.

هذا الاستنتاج الذي طالما طرحه معظم المراقبين السياسيين في الشرق الأوسط، قد أثبت صحته توماس ف. غينيبل، المفتش العام لوزارة الدفاع الأميركية، في تقرير خاص، أميط اللثام عنه، بطلب من كارل. م. لوفين، رئيس لجنة الشؤون العسكرية، في مجلس الشيوخ الأميركي.

كان دوغلاس فايث، الذي عمل مع بول ولفوتينز، نائب وزير الدفاع الأميركي آنئذ، عضوا في جماعة من المحافظين الجدد، الموالين لاسرائيل، ومبثوثين في ادارة الرئيس بوش، وينشطون من أجل استثمار الهجوم الارهابي على الولايات المتحدة في أيلول (سبتمبر) 2001، بهدف اثارة الحملات وحبك المؤامرات لاسقاط صدام حسين.

لقد اختلق دوغلاس فايث - حسب تقرير المفتش العام – معلومات مخابراتية، تزعم ان هناك علاقات «ناضجة ومتكاملة» بين العراق ومنظمة القاعدة، في ما لا يقل عن عشرة ميادين محددة، تشمل التدريب، والتمويل، والتعاون اللوجيستي، كما اختلق تفاصيل عن اجتماع مزعوم، عقد في براغ، في نيسان (ابريل) 2001، بين محمد عطا أحد المتهمين باختطاف طائرة استخدمت في هجوم 11 أيلول، وضابط مخابرات عراقي، هو أحمد العاني، بهدف تدعيم ادعاءاته واعطائها المزيد من المصداقية.

وقام دوغلاس فايث، لتعبئة الجمهور الأميركي من أجل اقناعه بضرورة الحرب على العراق، بتسريب معلوماته الملفقة الى مجلة «ويكلي ستاندرد» التي كانت تطالب «دون كلل»، وبقلم رئيس تحريرها وليم كريستول، «بقلب نظام الحكم في العراق، منذ أواخر عام 1990، وهي اليوم تعبئ الجماهير لتقبل على حرب ضد ايران.

وقد توصلت وكالة الاستخبارات الأميركية C.I.A، ووكالة مخابرات وزارة الدفاع D.I.A معا، الى اثبات خطأ دوغلاس فايث، اذ لم تعثرا على أية أدلة مقنعة عن وجود علاقة بين العراق والقاعدة، ولا على شواهد على قيام تعاون مباشر بينهما. لكن دوغلاس فايث لم يرتدع، بل على العكس، سعى، بكل طاقته، لتكذيب النتائج التي توصلت اليها وكالة الاستخبارات الأميركية ومخابرات وزارة الدفاع، وعمد الى عرض معلوماته المختلقة على أحد كبار المحافظين البارزين، مدير مكتب نائب رئيس الجمهورية ديك تشيني، وعلى نائب مدير مكتب الأمن القومي ستيفن هادلي، في محاولة خبيثة منه لتجاوز أجهزة المخابرات. ولم يمض وقت طويل حتى أمكن «تمرير» أدلة فايث المختلقة، الى الرئيس بوش بالذات، عن طريق القنوات المعقدة في الادارة الأميركية، كما تم تمريرها الى نائب الرئيس، ديك تشيني، اللذين اعتمدا عليها في الخطب التي كانا يتوجهان فيها الى الرأي العام، لتهيئته لشن الحرب على العراق في آذار (مارس) 2003. هكذا نجحت المؤامرة!

قال السناتور كارل لوفين، في شهادة مكتوبة، في الأسبوع المنصرم، ان تقرير وزارة الدفاع قد أظهر بوضوح تام، الأسباب التي دفعت المفتش العام الى الاستنتاج بأن دوغلاس فايث قد قدم معلومات مخابراتية «غير موثوقة» قبل آذار 2003، تزعم وجود علاقة بين العراق ومنظمة القاعدة. ويلاحظ ان وصف المعلومات بأنها «غير موثوقة أوغير مناسبة» هو وصف غير دقيق لسلوك دوغلاس فايث الاجرامي.

يبدو واضحا الآن ان الحرب كانت كارثة فادحة للولايات المتحدة يصعب الاستخفاف بنتائجها المدمرة، كما كانت كارثة للعراق، والشرق الأوسط بأسره. ولكن لم يكشف الا الآن، وبعد أربع سنوات من سقوط بغداد، وفي تقرير رسمي، عن هوية المسؤولين عن هذه الكارثة، وتوجيه الاتهام اليهم.

والسؤال المطروح : لماذا فعل دوغلاس فايث وشركاؤه من المحافظين الجدد مافعلوه، وكيف تدبروا ليخرجوا من الفضيحة سالمين؟

من الواضح ان الشاغل الأكبر الذي كان يقلقهم، ويدفعهم الى التحريض على الحرب هو الحرص على تعزيز أمن اسرائيل، وتدمير دولة عربية لها وزنها، وازالة كل تهديد لاسرائيل يأتي من الشرق. لقد خططوا لتحويل المنطقة بكاملها، بالاعتماد على القوة العسكرية الأميركية، الى منطقة عازلة، كما خططوا لتصفية كل اعداء اسرائيل – القوميين العرب، والراديكاليين الاسلاميين، الناشطين الفلسطينيين، بضربة واحدة، ولم تكن الاطاحة بصدام حسين الا خطوة أولى في عملية كبيرة تستهدف تحويل المنطقة بكاملها الى ساحة تخدم المصالح الاسرائيلية والأميركية.

لكن الشيء الذي حدث هو ان الولايات المتحدة قد تلقت ضربة موجعة أودت بنفوذها السياسي، وبهيبتها المعنوية كما طالت الضربة مصالحها المالية، وقدرات قواتها القتالية، في حين أصبحت اسرائيل أقل أمانا، بعد أن برزت ايران على الساحة.

كان من الممكن أن لا تحقق المغامرة الطائشة التي خطط لها دوغلاس فايث وحلفاؤه من المحافظين الجدد كل هذا النجاح لو لم يتحمس لها ويقتنع بها مسؤولون كبار مثل ديك تشيني، نائب الرئيس الأميركي، ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع اللذين كانا مسحورين بفكرة السيطرة على مخزون النفط العراقي الذي يشكل ثاني أكبر مخزون بعد المملكة العربية السعودية، وبفكرة تحويل العراق الثري الى قاعدة عسكرية لحماية الوجود الأميركي في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.

لقد «اشترى» الرئيس بوش مخططهم، ولكنه اليوم يتمزق حسرة وندما، ويحاول، يائسا، أن يجد مخرجا من «المستنقع العراقي». ويؤكد القاء نظرة على تطور الأحداث ان الحملة التي قامت بها اسرائيل وأصدقاؤها من الأميركيين، لجر الولايات المتحدة الى حرب العراق هي من أكبر العمليات التخريبية التي شهدها العالم العربي. ولاسرائيل تاريخ طويل وحافل بالسعي الى زعزعة استقرار الدول المجاورة لها، لقناعتها ان ابقاء العالم العربي ضعيفا، ومقسما هو لمصلحتها. ولا يجهل أحد ان اسرائيل ظلت ترسل المعونات المالية، والأسلحة والمدربين العسكريين لمساندة ثوار جنوب السودان في حربهم الطويلة ضد الخرطوم على امتداد سنوات، كما لا يجهل أحد المساعدات التي كانت تقدمها، وبكميات أكبر، الى الأكراد المتمردين في العراق.

ثم ان غزوات اسرائيل للبنان المتكررة في 1978 و1983 و1993 و1996 و2001 كانت تستهدف بالدرجة الأولى، اخراج سورية منه، وتنصيب حكومة موالية في بيروت تنفذ الاملاءات الاسرائيلية. اما في الأراضي المحتلة، فقد سعت اسرائيل دوما الى تدمير المقاومة الفلسطينية مستخدمة كل الأساليب كالمقاطعة، والضربات العسكرية والاغتيالات المستمرة للناشطين الفلسطينيين، وتأليب الفصائل الفلسطينية بعضها على بعض الآخر وتعميق الصراعات بينها، خاصة تحريض الاسلاميين ضد القوميين.

ويمكن مقارنة المؤامرة التي دفعت الولايات المتحدة الى حرب العراق، ولو من باب التجرؤ، بفضيحة ايران – كونترا. فالجميع يذكر ان اسرئيل بدأت بارسال أسلحة أميركية الى ايران سرا، منذ بدء الحرب العراقية – الايرانية عام 1980، حتى أثناء احتجاز الرهائن الأميركيين في طهران، مخالفة قرار حظر بيع الأسلحة الى ايران، الذي اتخذه الرئيسان كارتر وريغان، ولكن كان من مصلحة اسرائيل تغذية الحرب واطالتها، لاستبعاد أي احتمال بأن يغير العراق توجهه، وأن يتحرك غربا ليوحد قواه العسكرية مع القوات السورية. كان بيع الأسلحة الى الجمهورية الاسلامية الايرانية التي كانت تحارب من أجل بقائها، هو الطريق المنشود لتحقيق اضعاف عدوين: العراق وايران، بالاضافة الى أن بيع الأسلحة كان مصدر أرباح طائلة لتجار الأسلحة الاسرائيليين.

لقد طرحت اسرائيل – لكي تقنع الولايات المتحدة بأن تغض الطرف عن تجارة الأسلحة مع ايران- فكرة ذكية وخبيثة: اقترحت أن ترفع اسعار الاسلحة الأميركية المباعة الى ايران، وأن ترسل فائض الأرباح سرا الى الكونترا في نيكاراغوا، وقد سقطت الولايات المتحدة في الفخ الذي نصب لها، اذ كانت تفتش عن طرق لدعم الكونترا بعد أن قرر الكونغرس وقف الاعانات المالية عنها.

وفي 17 كانون ثاني (يناير) 1986، وقع الرئيس رونالد ريغان على توجيه «خاص» أجاز بموجبه اعادة العمل ببرامج الأسلحة السرية رسميا، وهكذا تملص المسؤولون عن صفقة الأسلحة الاسرائيلية الى ايران من كل الضغوطات والعراقيل، الا ان الكشف عن هذه الفضيحة التي عرفت فيما بعد بـ «ايران غيت» شل السنوات الأخيرة لادارة ريغان، تماما كما تشل الحرب على العراق السنوات الأخيرة من ادارة بوش.

هل يمكن اقناع اسرائيل الآن بأن الأمن الذي طالما انتظرته لايتوفر لها عن طريق زرع الاضطرابات والنزاعات مع الدول المجاورة، وانما عن طريق اقامة علاقات جيدة مع العرب؟

ان مبادرة السلام العربية لعام 2002 التي أعيد طرحها في مؤتمر القمة في الرياض، والتي تمنح اسرائيل السلام والعلاقات الطبيعية مع 22 دولة في الجامعة العربية مقابل انسحابها الى حدود 1967 هي دعوة لها كي تلعب دورا ايجابيا بناء في المنطقة، عوضا عن دورها التخريبي المدمر.

ويمكن تلخيص رسالة العرب الى اسرائيل على النحو التالي: «توقفي عن لعب دور الولد الشرير في المنطقة، ولنضع الحرب وراءنا، ولنتعاون من أجل مستقبل أفضل». لكن غرائز اسرائيل التوسعية مغروسة بعمق داخلها، ويتطلب اقناعها باغتنام هذه الفرصة التي سنحت لها الآن، احداث ثورة في عقيدتها العسكرية والأمنية.


* أخصائي بريطاني في شؤون الشرق الأوسط.. الحياة
تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 27-نوفمبر-2024 الساعة: 09:51 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/42750.htm