الفتاوى «الغريبة».. من المسؤول عنها؟! تخرج علينا عبر الفضائيات فتاوى مثيرة وغريبة تشعل الخلاف في الشارع. ويتساءل البعض ماذا يمكن للمسلم اليوم أن يستفيد من فتوى تخص بول النبي، صلى الله عليه وسلم؟ وما هي الحاجة للحديث عن التطيب بعرقه الشريف؟ أو الكلام عن إرضاع الكبير؟ ومن المسؤول عن مثل هذه الفتاوى؟ رجال الدين بفتاويهم أم رجال الإعلام في ظل عدم وجود ضوابط تحكم عملهم في الفضائيات. من جانبه، قال الشيخ عبد الله مجاور رئيس قطاع مكتب شيخ الأزهر والأمين السابق للجنة الفتوى بالأزهر، إن توقيت إثارة مثل هذه الفتاوى يدعو للدهشة والاستغراب. ويذكر مجاور أن هناك عدة عوامل أدت لانتشارها منها الفضائيات التي يمكن اعتبارها «إعلام قطاع خاص»، فمنذ عشر سنوات مثلا، لم يكن هناك مثل هذه التوجهات. ويشير إلى أنه وسط المنافسة الفضائية المحتدمة، تبحث كل قناة عما يرفع من أرصدتها ونسبة الإقبال عليها، وللأسف لا يكون ذلك إلا من خلال البحث عن الغريب والمستغرب. ويرجع مجاور ذلك إلى استضافة أشخاص غير مؤهلين للفتوى، فماذا لا يذهبون إلى علماء الأزهر أو العلماء الأتقياء الورعين فعلا وقولا، الأمناء في فتواهم، العالمين بالكتاب والسنة وعلوم القرآن وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه ومعرفة وجوه القراءات إلى غير ذلك مما تجب معرفته لمن يتصدى للفتوى، حتى لا يضل فيرى الحلال حراما والحرام حلالا. وأضاف: أن طبقة المفتين الجدد الذين يعاصرون الانفتاح التكنولوجي الجديد، يرون في الظهور في الفضائيات فرصة جيدة للشهرة وتحقيق المكاسب، فيبحثون عن فتاوى غريبة تلفت الأنظار إليهم. وقال مجاور إن المقصود من تداول هذه الفتاوى على هذا النحو، يدخل في إطار إثارة البلبلة وزرع الشقاق بين جسد الأمة الواحد، وهذه أمور لا تخفى على أحد، مشيرا إلى أن رجال الإعلام في حقيقة الأمر أول من يتحمل مسؤولية مثل هذه الفوضى الإفتائية، وذلك عبر استضافتهم لمن هو غير مؤهل للتصدي للفتوى الذين يطلقون بدورهم فتاوى لا تناسب العصر. ويتهم مجاور تيارات إعلامية ترى في الدين سببا لتأخر العالم العربي، وترغب في تهميش دور الدين في حياة الشعوب المسلمة، بوصفه خطوة أولى نحو التنوير، ومن ثم نراها تفتش عن كل ما هو غريب، وتعمل على تزكية حدة الخلاف والشقاق. ويضيف لكنهم «يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون». وأتهم مجاور جهات إعلامية بتصيد الأخطاء التي يقع فيها بعض العلماء، كما أنهم يركزون على بعض الأحاديث المصنفة بأنها ضعيفة أو غريبة، وذلك لدفع دعاواهم المتكررة بضرورة تغيير الخطاب الديني، لكن إذا لا يوجد هناك داع ـ في الواقع ـ لذكر أحاديث معينة، فلماذا الإصرار عليها. ومن ثم فعلى أهل الفتوى أيضا مراعاة البعد العصري للواقع الذي يحياه الناس، فلا يأتون بالغريب أو الذي انتفى بزوال عصره. من جانبه قال الإعلامي جمال سلطان إن المسؤولية في الترويج لمثل هذا النوع من الفتاوى هي مسؤولية مشتركة افتقد كل أطرافها إدراك حساسية الحالة الدينية، وعدم جواز أو صحة اتخاذها مادة للإثارة. ويضيف أن الإعلامي يبحث دوما عن الشيء المدهش والجديد، وفي المقابل هناك بعض الشيوخ استهوتهم فكرة الحضور الإعلامي والجاذبية المحيطة به، وأن هذا لا يتحقق إلا بهذا الترويج لمثل هذه الفتاوى الغريبة. وأشار سلطان إلى أنه رغم هيمنة التيار العلماني على الإعلام وحضوره الدائم به، إلا أنه ليس السبب في إيصالنا إلى مثل الوضع، لكن هناك حالة من الفراغ العلمي في المجال الديني، هي التي أدت بنا إلى ذلك. ويوضح أن مساحة الممنوع في الفتوى اتسعت وزادت المحظورات أمام الفقيه، فإذا تعرض للقضايا السياسية واجه عواقب وتبعات لا يرغب في مواجهتها، وإذا أفتى في الشأن الاقتصادي مع المساحة الكبيرة والمؤثرة للغاية لـ«البيزنس» في هذه الأيام، فقد يواجه مشاكل أيضا، وإذا تكلم حول قضايا ثقافية، فالتهمة جاهزة من أنصار التيار العلماني بأنه كهنوت جديد وظلامي ومحاكم تفتيش حديثة واستحضار للعصور الوسطى. ويضيف سلطان، أن النتيجة كانت انحسار مساحة المتاح في الفتوى، الأمر الذي خلق حالة من الفراغ الديني، فأصبح المفتي اليوم يتكلم في القضايا الفارغة، التي لا علاقة لها بالواقع أو روح العصر الذي تعيش فيه الأمة. وأشار سلطان إلى أن الكلام عن الضوابط الآن، من شأنه تعزيز الاضطراب، إذ أن الظاهرة الآن تتميز بالسيولة ومن الصعب ضبطها، فهناك مراكز للفتوى عابرة للقارات يصعب السيطرة عليها، مفيدا بأن المناخ المعاصر يحتاج لإعادة النظر، وضرورة إيجاد قدر من الحرية وإشاعة الإحساس بالمسؤولية، ووضع الشارع أمام التحديات الحقيقية والطموح الوطني، وإذا ترسخت مثل هذه المعاني ستؤدي إلى انتشار الثقافة الجادة والمسؤولة التي تخدم الأمة وأشواقها إلى النهضة. من ناحيته قال ماجد يوسف مدير قناة التنوير عضو اللجنة الدينية لاتحاد الإذاعة والتلفزيون، التي يترأسها مفتي مصر الدكتور على جمعة، إنه سأل المفتي شخصيا عن لجوئه لنشر مثل هذه الفتاوى الملغومة، التي لا تخدم الإسلام ولا المسلمين في شيء، أجاب المفتي بأنه يرد إليه في العام الواحد ما يقرب من 1.3 مليون فتوى للرد عليها. ويضيف المفتي ـ بحسب يوسف ـ في حالة عدم الرد على واحدة منها، ترفع عليه دعاوى قضائية في المحاكم تتهمه بأنه ممتنع عن أداء وظيفته، وهناك من يتربص لرفع مثل هذه القضايا، والغريب أنهم يكسبونها في حالة عدم إجابة المفتي على فتوى واحدة. وأضاف يوسف، أن هذه الفتاوى لم تكن لتنتعش لولا أن لها سوقا رائجة بين الناس، فالشارع الآن يشجع مثل هذه التوجهات بإقباله عليها، الأمر الذي يعكس حالة من الخواء الروحي والسياسي والثقافي على مستوى الأمة. وأكد أن هذا النوع من الفتاوى يشبه غناء المطربين الشعبيين، فهذا النوع من الغناء يماثل هذا النوع من الفهم القاصر للدين، الذي هو دين العقل والفكر والتقدم. وحمل يوسف بشدة على رجال الدين كونهم المسؤولون عن مثل هذه الفوضى، قائلا إنه ليس متخصصا في الدين، والإعلامي يذهب إلى رجل الدين في المؤسسات الدينية مثل الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية ووزارة الأوقاف، وعندما يأتي المشايخ أمام الكاميرا يعرضون هذه البضاعة الفاسدة، وعندما يحاول الإعلامي مراجعة رجل الدين، يتهموننا بالجهل ويعرضون بنا. ويضيف أن هناك فضائيات كثيرة، لا يمكنها التعبير عن قضايا كثيرة تخص الشارع لأسباب لا تخفى على أحد، فيكون المقابل عرض القشور والأفكار الجامدة التي لا تناسب العصر ضمن سياسة تجهيل متعمدة تعرض أول ما تعرض التفاهات وسط معدل كبير من الأمية تعيشه الشعوب العربية. ويؤكد الدكتور حسين أمين رئيس قسم الإعلام بالجامعة الأميركية بالقاهرة، أن هذه الفتاوى ليس لها ضابط ولا تشريع، ولا أي نوع من الأكواد الخاصة بالإعلام الديني، وهي بالتالي تخلق نوعا من البلبلة والتشويش في العالم الإسلامي. وأشار أمين الى أن هناك توجها غريبا في الإفتاء الآن، يرتكز على عودة المفتي في فتواه مرة ليراجعها ويصححها، وهذا يخلق بدوره قدرا كبيرا من الاضطراب، فضلا عن أن هذه الفتاوى تكون في إطار الموضوعات غير المطروقة ومحتواها لن يزيد الأمة الإسلامية شيئا من التقدم العلمي أو الإنجاز، بقدر ما يخلق نوعا من التغييب، وبالتالي نهدر وقتنا في مسائل لا تجدي نفعا. وأضاف أمين أن ما يحدث بالدرجة الأولى هو مسؤولية الجهل الذي نعيشه، عندما يطل علينا من يرغب في الظهور والانتشار وسط صراع وتنافس شديد بين القنوات الفضائية التي بالمئات الآن على استقطاب المشاهدين. ولا يستطيع هؤلاء استقطاب المشاهدين، إلا من خلال استخدام موضوعات السحر والشعوذة والخزعبلات والآراء التي تحمل في طياتها دوافع تحريض وكراهية، فيأتي شيخ مجهول، ويطلق فتوى صاروخية موجهة تشعل فتنة في الأمة، ثم يعتذر بعد ذلك، ولا أحد يراجعه. وتساءل أمين عن مصير الإسلام وشكله بعد 20 عاما من الآن، إذا استمر الحال على ما هو عليه. وحول الاتهامات التي تطول التيار الإعلامي العلماني بضلوعه في التركيز على مثل هذه الفتاوى والترويج لها. استبعد أمين هذه الفكرة، معتبرا إياها تكلفة باهظة وطريقا غير مباشر ومنعطفا خطيرا في حال انكشافه لا ترغب العلمانية العربية في ولوجه، وأنها تعبر عن وجهة نظرها بمنتهى الوضوح والصراحة. ولا يجب ترك الأسباب الرئيسية المسؤولة عن هذه المهزلة خاصة الجهل وتمييز الذات والتعصب ثم نهرع إلى العلمانية باتهامها. وتابع أمين أنه حتى لو كانت هناك جهات تقف وراء ذلك كله ضمن إطار نظرية المؤامرة، فيجب أولا أن نعترف بخطئنا ونصححه، ثم بعد ذلك نبحث عن الأسباب الأخرى، لكن في النهاية كل هذه الفتاوى الغريبة عن إرضاع الكبير والبول والتطيب بالعرق نتاجنا نحن، وليس لغيرنا ذنب فيها. وطالب أمين بضرورة وضع تشريعات وضوابط عن طريق اللجنة الإعلامية بجامعة الدول العربية، واتحاد الإذاعات والتلفزيونات العربية، إذ ان هذه الضوابط ليست بدعة، بل سبقت إليها دول متقدمة كثيرة مثل الولايات المتحدة ودول في أمريكا اللاتينية. وقال أمين انه عندما خرج المطربون الأمريكيون عن الإطار الأخلاقي في اختيار كلمات أغانيهم، تحركت الجمعيات النسائية الأهلية، ورفعت دعاوى قضائية وحصلت على حكم قضائي بتصنيف الأغاني ومنع بيع بعضها لمن هم أقل من 18 عاما. وأضاف أمين إن الشعوب العربية اعتادت الضوابط، ولا تستسيغ التعامل بانفتاح مع مسائل كثيرة من أمور الدين والدنيا، فلا بد من الإعلام المسؤول، فضلا عن دور أساسي للمؤسسات الدينية ومنظمات المجتمع المدني، ومن خلال مثل هذا التكاتف يمكن إيقاف هذا السيل المحزن من الفتاوى والمواد التي تنشر ثقافة التغييب، في وقت نحن في أمس الحاجة فيه إلى التقدم وإيقاف معدلات الفجوة المعرفية الرهيبة، بيننا وبين العالم من حولنا. واقترح أمين أن يكون هناك مجلس من المختصين، يناقش المفتي في فتواه ويراجعه فيها قبل عرضها على جمهور المشاهدين حتى تتوقف مسألة التراجع عن الفتاوى بعد إصدارها، الأمر الذي يعكس حالة من التخبط وعدم وضوح الرؤية. وقال أمين أن الفضائيات في مصر تحولت إلى طرف مؤثر على واقع الناس وطريقة تفكيرهم، خاصة إذا علمنا أن هناك 8 ملايين مصري، يملكون أطباقا لاقطة، فضلا عن 10 ملايين آخرين لديهم وصلات تمكنهم من مشاهدة القنوات الفضائية. هذه النسبة مؤثرة للغاية، وتتأثر بدورها بما يدور على شاشة هذه الفضائيات من حوارات وبرامج قد تؤدي إلى زيادة التغييب والتعصب والكراهية، وهذه أشياء خطيرة يجب التعاطي معها بجدية. * الشرق الاوسط |