وقوع النَّسخ... انعدام الدليل القرآني نقطة البداية في إثبات وجود أو عدم وجود النسخ في القرآن هي تحديد معنى "الآية"، ذلك أن القائلين بالنسخ، كالمنكرين له، يصفون بعض الآيات بأنها ناسخة أو منسوخة، أو ينزعون عنها هذه الصفة. فلنتعرَّف أولاً على معنى الآية؟ اختلف اللغويون في تحديد الأصل اللغوي لكلمة آية: هل هو أيَّة على وزن فعْلَة، أم أَيَيَة على وزن فَعَلَة، أم أوَيَة، أم أن أصلها على وزن فاعٍلة، وهم جميعاً متفقون على أن معناها: العلامة، والعبرة، والمعجزة. هذا عن المعنى اللغوي. أما عن المعنى الاصطلاحي الخاص بـ"الآية من القرآن" فقد اشتهر بين المفسرين تعريف الجعبرى الذي ورد فيه "حد الآية: قرآن مركب من جمل، ولو تقديراً، ذو مبدأ ومقطع، مندرج في سورة". وهناك تعريف أقصر من هذا هو قول القائل: "الآية قطعة من القرآن". والواقع أنه من شبه المستحيل تعريف "الآية من القرآن"، ذلك لأن هناك آيات تتألف من كلمة واحدة، وأخرى من بضع كلمات ولكن دون أن ترقى إلى الجملة المفيدة باصطلاح النحويين، وفي المقابل هناك آيات تتألف من عدة جمل نحوية وتستغرق نصف صفحة أو أكثر. وإذا نحن رجعنا إلى القرآن الكريم فإننا سنجد أن لفظ "آية"، في جميع الصيغ التي ورد فيها (آية، آيات، آياتي، آياتنا) ينصرف معناه إلى العلامة (أو المعجزة التي تثبت وجود الله وقدرته... الخ). من ذلك قوله تعالى: "وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً (انشقاق القمر) يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ" (القمر 2)، وقوله: "وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا (سفينة نوح) آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ" (القمر 15). وقوله: "قَالَ (فرعون) إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ (العصا) فَأْتِِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ" (الأعراف 106). وقوله: "وَيَقُولُونَ لَولا أُنْزِلَ عَلَيْهِ (على محمد) آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ" –معجزة- (يونس 20). وتتكرر عبارة "تِلْكَ آيَـاٰتُ الكِتَـٰبِ" وما في معناها، للإشارة إلى "ما يُحتاج إِليه من الدليل على التوحيد والنبوّة والبعث وغيرها" مثل قوله تعالى: "وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً" (الإسراء 12)... الخ. وعلى هذا فلا معنى للقول بالنسخ في القرآن إلا بمعنى أن الله ينسخ معجزة نبي سابق بمعجزة أخرى لنبي لاحق، دليلاً على صحة وصدق نبوة كل منهما، أو ينسخ ظاهرة طبيعية مثل الليل بظاهرة طبيعية أخرى مثل النهار... الخ، دليلاً على قدرته. والنسخ بهذا المعنى هو إحلال شيء مكان آخر. وليس في القرآن قط ذكر لما اصطلح على تسميته "آية" بمعنى "قطعة من القرآن"، وذلك على خلاف لفظ "السورة"، الذي ورد في القرآن مفردا "قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ" (يونس 38) وجمعاً "قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ" (هود 13). أما لفظ "آية" الذي تكرر فيه كثيراً بمعنى العلامة والحجة والمعجزة... الخ، فلم يرد قط بالمعنى الاصطلاحي (آية من القرآن)، لا مفرداً ولا جمعاً. من هنا ضرورة طرح السؤال التالي: إذا كان القرآن لا يسمي، أي لفظ ولا أية مجموعة ألفاظ من ألفاظه، باسم "آية"، فمن أين جاءت هذه التسمية؟ لم نعثر في مصادرنا على جواب قطعي عن هذا السؤال. وكل ما تفيده الروايات هو أن الأمر يتعلق باصطلاح وضع للإشارة إلى "القطعة" التي كان يقف عندها الرسول عليه الصلاة والسلام أثناء تلاوة القرآن. فقد ورد في الحديث عن أم سلمة أنها قالت: "كَانَ رَسُولُ الله يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ، يَقْرَأُ: الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالِمِينَ. ثُمَّ يَقِفُ. الرَّحمنِ الرَّحِيمِ. ثُمَّ يقِفُ. ..." (الترمذي. لم يرد هذا الحديث في غيره من الكتب التسعة، وقد ذكر في مراجع أخرى هكذا: "كان النبي يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آية آية"، وواضح أن عبارة "آية آية" إضافة من الراوي). وكل ما يدل عليه هذا أن معنى "آية" من القرآن هو اللفظ أو الألفاظ التي تقع بين وقفة ووقفة في تلاوة النبي عليه الصلاة والسلام للقرآن، سواء كانت جملة مفيدة أو أقل من جملة أو أكثر، وبالتالي فلا معنى للقول عنها إنها ناسخة أو منسوخة. أما متى اصطلح على هذا، أو متى تم ترقيم الآيات بهذا المعنى في المصحف فذلك ما لم نعثر فيه على خبر! والظاهر أن ذلك حدث بعد النبي عليه الصلاة والسلام. يؤيد ذلك ما ذكرته أم سلمة من حيث إنه كان –في الماضي- طريقة قراءة النبي، أضف إلى ذلك اختلاف أهل المدينة والبصرة والكوفة... الخ في عدد آيات بعض السور كما في عدد آيات القرآن ككل. أما ما يذكرونه بصدد قوله تعالى مخاطباً رسوله الكريم "وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ" (الحجر 87) من أن المقصود بـ"السبع المثاني" هو الفاتحة بدليل كونها "سبع آيات"، فليس هناك ما يدل على أن "المثاني" هي "الآيات"، بالتحديد. فكل ما يفيده النص هو أن الأمر يتعلق "بسبعة أشياء من جنس الأشياء التي تثنَّى" (الرازي). وإذا عرفنا أن علماء الإسلام قد اختلفوا حول عدد آيات الفاتحة هل هي سبع أم ست أم ثمان أم تسع، صار القول بأن "السبع المثاني" هي الفاتحة، لكونها "سبع آيات"، قولاً لا يصمد أمام الفحص النقدي. هذا فضلاً عن صعوبة فهم السبب الذي من أجله تم التمييز بينها وبين "القرآن العظيم" في الآية السابقة، خصوصاً والرأي السائد أن الفاتحة هي من القرآن وليست مجرد "دعاء" كما قال بعضهم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى هناك قوله تعالى: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ..." (الزمر 23)، أي يشبه بعضه بعضاً، يُثَـنَّى فيه (يتكرر) كثير من الأمور، مثل القصص وأخبار الجنة والنار... الخ. والملاحظ أنه تعالى استعمل هنا لفظ "الكتاب" كبيان لـ"أحسن الحديث"، بينما استعمل لفظ "القرآن" في قوله "وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ" (الحجر 87)، مما يشعر بأن السبع المثاني تتميز بـ"شيء ما" يجعل في الإمكان عطف "القرآن العظيم" عليها، ولو أنها جزء منه. وإذا نحن عمدنا إلى ربط نزول القرآن بالسيرة النبوية فإننا سنهتدي إلى ما قد يفسر تميز "السبع المثاني" بما يجعلها قابلة لأن يفصل بينها وبين "القرآن العظيم" بواو العطف. ذلك أن القرآن كان ينزل منجماً فيقرؤه عليه الصلاة والسلام على من حضر من الصحابة فيحفظونه في صدورهم، وكان هناك من تخصص في كتابته. وعلى هذا، فالمقروء من الوحي حين نزوله هو الذي سمي قرآناً: "وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ" (الإسراء 106). أما الوحي الذي قد يكون نزل في ظروف خاصة كظروف الحصار الذي فرضته قريش على النبي عليه الصلاة والسلام في شِعب أبي طالب لمدة سنتين حيث لم يكن معه مِن الصحابة مَن يقرأ عليهم القرآن ولا من يكتبه، فإن ما نزل منه في تلك الظروف يتميز بهذه الميزة وهو أنه لم يقرأ ولم يكتب -أول ما نزل- وإنما بقي محفوظاً في صدر النبي، ولم يخرج إلى العلن خارج مكان الحصار حتى نهاية ذلك الحصار. وبما أن عدد سبعة في "السبع المثاني" هو نفس عدد السور الحواميم فإننا نرجح أن يكون المقصود بـ"السبع المثاني" هو هذه السور السبع التي نزلت أثناء الحصار. وهي مثانٍ بالمعنى السابق للكلمة لأنها تثنى، وأيضاً لأنها يتكرر فيها استهلال واحد يؤكد، بألفاظ متشابهة، أن القرآن تنزيل من الله، يلي ذلك الرد على المكذبين إما بكون الله خلق الكون ورتب نظامه، وإما بالتذكير بأخبار الأنبياء والرسل... الخ. وأول الحواميم (أو آل حميم) هو سورة غافر، ومقدمتها الاستهلالية كما يلي: "حم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ، مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ" (1- 4)، وما تجب ملاحظته هو أن المقدمات الاستهلالية في الحواميم الست الأخرى هي من هذا النمط تماماً. ومما يعضد رأينا هذا كون هذه السور السبع قد وردت متتابعة سواء في ترتيب المصحف أو في ترتيب النزول، وأن ما ورد في شأن بعضها من أخبار يشير إلى أن الصحابة تعرفوا عليها مباشرة بعد فترة الحصار، (السنة التاسعة والعاشرة للنبوة). وعليه يمكن القول إن لفظ "القرآن"- بمعنى المقروء الذي أشرنا إليه- لا يشمل "السبع المثاني" في قوله تعالى "وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ"، لأنها لم تقرأ على الناس حين النزول، أما لفظ "الكتاب" في قوله "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ..." فهو يشملهما معاً. * الاتحاد الامارتية |