العرب والتحديات في فلسطين ولبنان تُعاني الأمة العربية من محنةٍ كبرى ذات معنى وجودي ومصيري هي محنة مواجهة الأصولية الإسلامية، التي قسّمت مجتمعاتنا، وأضعفت دُوَلَنا، وصارت عاملاً أساسياً بين عوامل الهشاشة والعجز وجَلْد الذات والضلال في الأولويات. فالذي جرى في غزّة ، ويجري في فلسطين وخارجها منذ عقود، يحتاج لأكثر من مؤتمر، ولأكثر من تشاور، ولأكثر من نداءٍٍ وعهدٍ وميثاقٍ واتفاق. وقد كنتُ أعرفُ ومنذ قتل الشيخ الذهبي بالقاهرة عام 1977، أنّ كلَّ المسلمين غير الحزبيين لدى هؤلاء المتشددين هم بين مرتدٍّ وخائن. وقد سمعتُ ذلك من بعض كوادر "حماس" عام 1994 بمرج الزهور؛ لكنّ المعرفةَ غير الوعي، وقد كنّا غير واعين نذهب إلى أنّ منظمة "حماس" على رغم أصوليتها هي غير المتشددين الآخرين لأنها إنما تقاتل إسرائيل فقط. وانصرف اهتمامُنا عن تصرفات كوادرها بعد نجاحها في الانتخابات لسببين؛ الأول أنها رضيت بالمشاركة في الانتخابات، وهذا يعني استعدادها للخضوع لإرادة الناس، والسبب الثاني أنها حوصرت عربياً ودولياً بعد الانتخابات، وما انفكّ الحصارُ عنها حتى بعد دخولها في حكومة الوحدة الوطنية. وكنتُ وما أزال من أنصار التصالح مع الظاهرة الإسلامية لأمرين؛ الأول أنّ جماهيريتها تعطيها شرعية، والثاني أنه يمكن تحمُّل مصائبها ما دامت لا تُمارسُ العنف بالداخل ولا تدعو إليه. بيد أنّ الوعي وليس المعرفة وحسْب أدَّيا بي قبل حوالى العام (ونتيجة قراءة متأنية في خطاب "حماس" خلال الانتخابات، وأحاديثي مع كوادر وقادةٍ منها بعدها)، إلى اليقين أنها ستقوم بعمل عنيفٍ في إحدى البلدات الفلسطينية للإرعاب أو للاستيلاء، فترضي عناصرها المتشددة، ويستطيع القادةُ الاستنادَ إلى ذلك في التفاوض، أي بمعنى أن يقولوا للوسطاء العرب بينهم وبين "فتح": انظروا ماذا يمكن أن يحصل إن سيطر المتطرفون أو التنظيمات الصغيرة على يميننا؛ لذلك ساعدونا على الانتصاف من "فتح" وتطوير المشروع الوطني بحيث يصبح وطنياً/ إسلامياً! وقد ظننتُ لأيامٍ أنني كنتُ مخطئاً في هذا التقدير عندما اجتمع الطرفان بمكة، وبدا أنهم حصلوا على ما يريدون، وأنهم قد يؤجلون استيلاءهم لسنةٍ أو سنتين. إنّ إسرائيل الحاضرة في أساس قيام المشروع الوطني الفلسطيني والكفاح المسلَّح من أجل التحرير؛ ليست حاضرةً بهذا المعنى في الأصولية الإسلامية، وليس على سبيل التآمُر؛ بل لأنَّ الأَولوية في مشروع الأصوليين إقامة الدولة الإسلامية التي تُطبّقُ الشريعة. ومن أجل ذلك ينبغي تغيير المجتمع، وإعادة تربية الناس أو إدخالهم في الإسلام بشتى الوسائل. والغربُ عدوٌّ وحاضر، والصهيونية عدوٌّ وحاضر. بيد أنّ حضورَهما إنما حصل ضررُهُ الأشدّ من خلال التغلغل داخل المسلمين في التفكير والتربية والوعي والتوقُّعات. ولهذا فالمهمة الأولى أو الأولوية إنما هي إعادةُ أسلمة المجتمع الإسلامي. وهذا أمرٌ لا تسوية فيه ولا تنازُل بشأنه. أما الغرب وأما إسرائيل فيمكن بعد إخراجهما من مجتمعاتنا عقد هُدن طويلة الأمد معهم، والتعامل من بُعْدٍ، وباقتدارٍ وندّيّة. وهذا الوعي الخاصّ (حتى لا نقول القاصر) هو الذي يمكّن أنظمةً مثل إيران وسوريا (وحتى الولايات المتحدة) من استخدام الأصوليين والأصوليات. وهذا ليس لأنَّ هؤلاء أغبياء؛ بل لأنهم يريدون الخروجَ من الحصار، واستغلال إمكانيات تلك الأنظمة لتحقيق غرضهم في مدىً متطاول. وفي نطاق هذا الابتزاز أو الاستغلال المتبادَل يقع الطرفان في الخطأ: القادة الأصوليون الذين يأتون بالمال والسلاح من حلفاء المصلحة، يتحولون بالتدريج إلى ثوارٍ محترفين مثلما كان عليه الأمر في الحرب الباردة، والبلدان المستخدِمة لهم تُخضعُهم لضرورات الصفقات التي تُجريها، وحتى إن لم تحصل الصفقة فالأصولي ميتٌ لأنه أداةُ الصراع وضحيته في حاليْ الحرب والسلم. لقد أضرَّت الأصوليةُ الإسلامية بالعرب من خمس جهات؛ لجهة تقسيم المجتمعات، والاصطدام بالسلطات والمؤسسات وإضعافها؛ ولجهة فرض أجندة وهمية مثل الأسلمة وتطبيق الشريعة كأنما مشكلة المسلمين أنهم غير مسلمين، والأَولوية لإعادة أسلمتهم؛ ولجهة استخدامهم واختراقهم لتنفيذ أهداف ظاهرُها مقارعة العدوّ وباطنُها الفتنةُ والشرذمة؛ ولجهة منع التغيير السياسي، خوفاً وتخويفاً من وصولهم للسلطة في الانتخابات؛ وأخيراً وليس آخِراً لجهة التسبُّب في سوء العلاقة بالعالم والعصر بسبب التشاؤمية الثقافية، والعدمية الرمزية اللتين تشكّلان استراتيجيةً لهم! ويجتمعُ مجلس وزراء الخارجية العرب بالقاهرة ليناقش الأوضاع المتردية في غزة. وقد تبين من الأنفاق التي حفرتْها "حماس"، ومن الخطة المحكمة، أنّ كل شيءٍ كان جاهزاً للاستيلاء على غزة منذ شهورٍ وشهور. وما نفعت اتصالاتُ القاهرة، ولا وساطة المملكة العربية السعودية، إلاّ في تأخير تنفيذ الخطة. ولا يبعُدُ أن تكون لكلٍ من إيران وسوريا يدٌ فيها. لكنْ ماذا بوسع العرب أن يفعلوا؟ يستطيعون طبعاً أن يصارحوا "حماس" بالعداء، وما من أحدٍ منهم كان شديد البشاشة على أي حال معها، باستثناء دولتين أو ثلاث. بيد أن ذلك قد يجلب كوارث على الشعب الفلسطيني باستمرار التصفيات وانتهاء القضية الفلسطينية. ولذلك سيختار الوزراء في الأرجح جانب التهدئة والتسوية، ويُنتظر أن تستجيب "حماس" ظاهراً لذلك لطمأنة الأمزجة المهتاجة بعد المذابح التي نفذتْها في غزة. ثم تعود لسابق عهدها وتحاول هذه المرة في الضفة الغربية حيث يقال إنها قويةٌ بنابلس وجنين. ففي الحقيقة كلُّ ما يستطيعُهُ العربُ محاولة إيقاف العنف مقابل التسليم بالأمر الواقع. وقد انتقل الملفّ بكامله الآن إلى إسرائيل وهي التي تقرر الإبقاء على دويلة "حماس" أو إزالتها. وأحسب أنها ستُبقي عليها في المدى القصير لزيادة الانقسام، وللاستمرار في القول إنه ليس هناك شريك فلسطيني للعودة للمفاوضات. ولا يختلفُ الوضعُ كثيراً في لبنان عنه في فلسطين من جهتين: الفاعلون في لبنان اضطراباً واستقطاباً هم السوريون والإيرانيون- والمستخدَمون في إثارة الاضطراب شراذمُ من الأصوليين السُّنة مثل تلك التي في العراق أو فلسطين. بيد أنّ العرب يستطيعون في لبنان أكثر مما يستطيعون في فلسطين. فالحكومةً اللبنانيةُ ما تزالُ قائمة، وهي تقودُ جيشاً وطنياً يقاتلُ الأصوليين المُرسلين من سوريا. وبوسع العرب الضغط على سوريا، ودعم الجيش اللبناني بالعتاد، والمساعدة في ضبط الحدود. كما أنّ بوسعهم الإعانة في حلّ مشكلات المخيمات الفلسطينية، وفيها شبكاتٌ إسلاميةٌ تابعةٌ للجهات ذاتها، أو أنها تأتمر بأمر "حزب الله" وقياداته. لقد قلتُ دائماً إنّ الثوران الإسلاميَّ كان ذا شقين: سُني وشيعي. وقد توسَّل الحركة الجماهيرية لجرف الدولة الوطنية. وتمكَّن الثوران الشيعي من الوصول لذلك؛ في حين لم يستطع الثوران السُّني أن يستولي على السلطة في دولة عربيةٍ أو إسلاميةٍ كبرى أو وُسطى. المصالح الوطنية الإيرانية، والآلياتُ الفقهية ضبطت الثوران الشيعيَّ، ووضعتْهُ في قنواتها الخاصة التي تستخدمها ساعة تشاء. بينما ظلَّ الثوران السُّني خارج نظام الدولة الوطنية، أي بدون غطاء من جهة، وهو باعتباره تنظيماً ثورياً لا يعترف بأية قيودٍ أو حدودٍ أو عقودٍ مع المجتمع الدولي أو الأُمم المتحدة. وبذلك فإنّ حيويته الفائضة أدت إلى صداماتٍ مع الدولة الوطنية، ومع المؤسسة الدينية السُّنية التقليدية، ومع العالم. وهناك أطرافٌ رئيسيةٌ فيه تُعلن نَبْذَ العنف والإرهاب منذ أكثر من عقدين؛ لكنّ صدقيتَها ما وُضعتْ على المحكّ، وستُرغمُ جماهيريتُها وشعبويتها على الاعتراف بحقّها في المشاركة. لكنّ، أياً يكن الأمر؛ فنحن في محنةٍ كبرى بين تطرفٍ يقدّم اعتبارات الاعتقاد الخاصّ على مصالح الناس، وجمودٍ وعجزٍ من جانب السلطات القائمة منذ عقود، واستباحة لقضايانا الكبرى من جانب الأصدقاء والأعداء على حدٍ سواء. * وجهات نظر |