المؤتمر نت -
د. عبد الإله بلقزيز -
فظائع غزة وأحكام الطوارئ
بدأت حركتا “فتح” و”حماس” تاريخهما السياسي والوطني بإطلاق مشروع تحرري للوطن، لا يساوم على شبر واحد من ترابه الممتد من النهر إلى البحر. وحين أجبرتهما حقائق ميزان القوى على الجنوح للواقعية السياسية والأخذ بفكرة المرحلية في العمل الوطني، تمسكتا ببرنامج وطني مرحلي يقضي بالاستقلال الوطني، وقيام دولة على المناطق الفلسطينية المحتلة في حرب ،67 عاصمتها القدس مع تطبيق حق العودة للاجئين إلى أراضيهم. أما اليوم، فما لبثتا أن قبلتا بما دون الاستقلال المنقوص: بسلطة شوهاء لا سلطان لها على الأرض والحدود والمعابر والأجواء والمياه، بل تقاتلتا عليها أشرس قتال وأحقره وأزهقتا من أرواح مقاتليهما والمدنيين ما لم تفعلاه مع “الإسرائيليين”: فقط، وفقط من أجل تلك السلطة الشوهاء التي فضحت أخيراً معنى المشروع الوطني لدى كل من الحركتين.

إذا تحرينا الدقة، ووزعنا المسؤوليات توزيعاً عادلاً، نقول: إن الأمر يتعلق “بفتحين” (لا ب “فتح” واحدة) و”بحماسين” (لا ب “حماس” واحدة): “فتح” و”حماس” التاريخيتين الأصيلتين و”فتح” و”حماس” الراهنتين اللتين تعملان تحت هذين العنوانين من دون صلة تشدهما إلى الرصيد الكفاحي للحركتين الأصل وإلى الأخلاق الثورية التي تحلى بها رجالاتهما السابقون. “فتح” الأولى هي “فتح” الشهداء والرموز الكبار: “فتح” ياسر عرفات وأبوجهاد وأبو إياد وأبو السعيد وأبو الهول وكمال عدوان وأبو الوليد..! و”حماس” الأولى هي “حماس” الشهداء الكبار: الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وإسماعيل أبو شنب. أما “فتح” و”حماس” هذا الزمان، فمسرح “تنظيمي” مفتوح للفوضى والتسيب وتخريج القتلة و”الزعران”، من كوادر ومقاتلي الفتنة والحرب الأهلية، بلا قيادات حقيقية في مستوى المسؤولية.

كان ل “فتح” و”حماس” الأصيلتين مشروع سياسي، هو المشروع الوطني الفلسطيني قاتلتا من أجله بوعي وشجاعة، وقدمتا في سبيل ذلك قوافل من الشهداء وأفواجاً من آلاف الأسرى والمعتقلين. وكانت سيرة قادتهما ومناضليهما مما صنع لهما صدقية وهيبة في جماهير الشعب فحولهما إلى أكبر تنظيمات الحركة الوطنية الفلسطينية بسبب شدة الإقبال الشعبي على الانتساب إليهما. أما “فتح” و”حماس” هذا الزمان، فليس لهما من مشروع سياسي “تناضلان” من أجله سوى سلطة “أوسلو” و”النضال” من أجل احتكار تلك السلطة. ولهذا المشروع السياسي اليوم اسم رسمي دقيق هو الفتنة والحرب الأهلية.

كيف تحولت حركة تحرر وطني “فجأة” إلى حركة فتنة وحرب أهلية. وكيف تحولت بعض فصائل الثورة والمقاومة إلى ميليشيات والبندقية الوطنية إلى سلاح عصابات إجرامية تعيث في الأرض فساداً؟

سببان رئيسيان يفسران اليوم هذا الانحرف الخطير الذي دخلته الحركة الوطنية الفلسطينية: غياب المشروع السياسي (ومعه الأفق السياسي)، وسيطرة الأجنحة العسكرية والأمنية على القرار السياسي.

فأما المشروع السياسي الغائب، فهو المشروع الوطني الفلسطيني الذي أطلقته الثورة منذ ما يزيد على أربعين عاماً وأخذ في ما بعد صورة مشروع الاستقلال الوطني وبناء الدولة. أنهى “اتفاق أوسلو” هذا المشروع وزوره وتحايل عليه. وبدا لفترة كما لو أن “حماس” تستأنفه في حقبة التسوية المغشوشة. ثم لم تلبث هي الأخرى أن ازورت عنه ازوراراً حين أعرضت عن المقاومة وانصرفت بهمة إلى السلطة. لا مشروع اليوم لدى الفصائل خاصة ““فتح” و”حماس” سوى “أوسلو” وسلطتها الفاسدة المفسدة. وعلى هذا المشروع يتقاتل قادتها وكوادرها ومقاتلوها قتالاً عقائدياً ما شهدنا له مثالاً في أية موقعة مع العدو! انتقلنا من تحرير الوطن (كل الوطن) إلى اقامة الدولة (على جزء من الوطن) إلى بناء سلطة (على جزء من ذلك الجزء). وها هو قتال اليوم، وقرار محمود عباس بإعلان الطوارىء وحل الحكومة، ورد فعل “حماس” المتحدي، والاحتقان المرتفع حدة في كل الأرجاء، “يعدنا” بأن ننتقل من سلطة إلى سلطتين.. وما خفي أعظم.

وأما سيطرة الأجنحة العسكرية والأمنية على القرار السياسي، فهي أوضح من هلال رمضان في يومه الثاني.

من يجادل في أن قرار “فتح” اليوم ليس في يد محمود عباس أو اللجنة المركزية أو المجلس الثوري للحركة، وانما في يد الأمن الوقائي والاستخبارات وأمن الرئاسة و”كتائب شهداء الأقصى” ومستشاري “الرئيس” الأمنيين؟ ومن يجادل في أن قرار “حماس” اليوم ليس في يد اسماعيل هنية أو المكتب السياسي للحركة، وانما في يد “كتائب عز الدين القسام” و”القوة التنفيذية”؟ المسلحون وحدهم اليوم يحكمون ويفرضون شريعتهم ولا اعتبار أدنى اعتبار لقادتهم السياسيين! كم مرة اتفق محمود عباس وإسماعيل هنية، أو محمود عباس وخالد مشعل وبرعاية مصرية على وقف الاقتتال: فهل توقف؟ ماذا لذلك أن يعني غير أن كلمة السياسيين لم تعد مسموعة لدى ميليشيات من الموتورين الخارجين على تقاليد الحركة الوطنية وأخلاق الفدائيين والمجاهدين؟ لكن ذلك يعني ثانية أن هؤلاء السياسيين مسؤولون عن تمكين هذه الميليشيات من كل أسباب القوة التي تأكلهم اليوم!

مخجل هذا الذي يقع اليوم في الأراضي الفلسطينية المحتلة وعار علينا جميعاً وعلى السياسيين الفلسطينيين بصورة خاصة الذين سلموا مصير قضيتهم ووطنهم لجمهور من الطائشين الموتورين وقدموا للعدو أمثل خدمة يمكنه انتظارها منهم. لقد سقطوا جميعاً في أوحال غزة وسقطت شرعيتهم، وإن أي أحد في العالم قد يحق له أن يتساءل عما إذا كانت هذه الطبقة السياسية الفلسطينية تستطيع أن تدير دولة!
الخليج

تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 27-نوفمبر-2024 الساعة: 09:46 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/45500.htm