المؤتمر نت - ويليام فاف
ويليام فاف -
الفيدرالية الأوروبية... حلمٌ تبدَّد في بروكسل
لقد عصف اجتماع الاتحاد الأوروبي الأخير الذي عقد بمقر مفوضية الاتحاد في بروكسل عطلة نهاية الأسبوع الماضي، بأوهام كثيرة ظلت رائجة في ربوع القارة العجوز. وهناك من وصف ذلك الاجتماع بأنه كان مؤشراً على نهاية القارة نفسها، بمعنى ما. غير أن هذا الوصف ليس سوى محض هراء. والحقيقة أن التحولات التي طرأت على تركيبة الاتحاد الأوروبي خلال الستة عقود الماضية، قد أحدثت تغييراً جوهرياً في طبيعة العلاقات القومية بين دول القارة، واضعة إياها بذلك في منحى تاريخي جديد تماماً. وليس هناك من سبيل لاقتلاع هذا الواقع الذي تشكل ورسخ عميقاً في تربة القارة على مر السنين والعقود. وهناك من وصف الاجتماع نفسه بأنه وضع حداً لأي طموحات لأن تلعب أوروبا دوراً كبيراً يليق بها في المسرح الدولي، يمكن مقارنته بذلك الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة الأميركية. ومع هذا، فإن في وسع المرء أن يعتبر هذا الوصف الأخير هراءً أيضاً. والشاهد أنه لم يتأتَّ مطلقاً للاتحاد أن يتطلع لأداء دور كهذا، منذ بدء توسعه خلال عقد السبعينيات، وتجاوزه لعضوية الدول الست الرئيسية المؤسسة له، خاصة إذا ما كان المقصود بالدور هذا، أن تكون له سيادته واستقلاليته التامة عن السياسات الأميركية، بحيث يستطيع أن يبرز كندٍّ لأميركا أو أن يتساوى معها كتفاً بكتف. غير أنه لا يزال في وسع بعض الدول الأوروبية، منفردة وليست مجتمعة، أداء هذا الدور العالمي الذي يتطلع إليه الاتحاد، على نحو ما حدث في غزو العراق مثلاً. ولكن ما أشق على الاتحاد المؤلف حالياً من 27 دولة عبء اتخاذ موقف جماعي موحد، على النحو الذي فعلته بعض دوله قبيل وإبان الغزو.

وكان الوهم الأوروبي الأول الذي ساد بعيد نهاية الحرب العالمية الثانية، هو الاعتقاد بإمكانية بناء اتحاد فيدرالي أوروبي، أي بناء "ولايات متحدة أوروبية". وقد بدت هذه الفكرة ساحرة وآسرة للكثيرين، لكونها تنطوي على رغبة في تحقيق ضرب من الندية في نهاية المطاف، بين ضفتي المحيط الأطلسي. وقد راقت هذه الفكرة جداً لأبناء "العم سام" على وجه الخصوص، لكونها تنمُّ عن تقليد الأوروبيين لنموذجهم، مع العلم بأن ذلك النموذج سيبنى تحت عين وإشراف واشنطن. غير أن الذي حدث هو أن الأوروبيين لم يأخذوا حينها، ولا في أي مرحلة لاحقة أخرى من مراحل ذلك الوهم الأوروبي، بطبيعة وتاريخ الاتحاد الفيدرالي الأميركي. وقد ساد الاعتقاد لحظة تشكل ذلك الوهم الأوروبي بالاتحاد الفيدرالي، أنه ليس ثمة فارق يذكر بين توحيد كل من ولايتي فرجينيا وكونيكتيكت الأميركيتين -على أساس الوحدة الجغرافية السياسية للمواطنين الإنجليز البروتستانت في الأساس- والجمع بين سكان أهالي جزيرة صقلية الإيطالية وإقليم بافاريا الألماني والمواطنين البلجيك. وبما أن الأمر بكل تلك السهولة المتصورة، فما الذي يمنع لاحقاً ضم البولنديين والبلغار والرومانيين وغيرهم إلى السلة نفسها؟ ولنذكر بهذه المناسبة أنه لم يكن يروق لمسؤولي الاتحاد الأوروبي في سنوات التشكل الأولى، تذكيرهم بحقيقة أن الوحدة الفيدرالية التي حققتها الولايات المتحدة الأميركية، قد كلفتها ثمناً باهظاً من الدماء التي ضرجت الأرض إبان سنوات الحرب الأهلية الأميركية.

هذا ولا تزال مسودة معاهدة الدستور الأوروبي الجديد، التي رفضتها كل من فرنسا وهولندا قبل عامين، تحمل بذرة وهْم الوحدة الأوروبية الفيدرالية هذه، وهو الوهم الذي يتطلع إلى أن يكون للاتحاد رئيس واحد، وكذلك وزير خارجية واحد... إلى آخره. وقد تم عرض البضاعة نفسها في نصوص المعاهدة التي تمت مناقشتها في اجتماع عطلة نهاية الأسبوع الماضي. والمعلوم أن الوحدة الفيدرالية تقتضي امتثال الدول الأوروبية ذات السيادة، لسلطة فيدرالية موحدة هي سلطة الاتحاد. وربما ينجح تطبيق هذه الفكرة مع الدول الأصغر، لكونها تعود على هذه الدول بالمكاسب أكثر مما تجلب لها من المضار. إذ لاشك مطلقاً في المكاسب الاقتصادية لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي، إلا أنه ما من دولة من هذه الدول، بحاجة إلى وحدة فيدرالية سياسية، كي تحافظ على بقائها السيادي. لكن مع ذلك، فإنه يروق للدول الأوروبية الصغيرة، أن تبقى في كنف الشعور بالأمن والطمأنينة الأوروبية المشتركة، كما تبدي حماساً واضحاً لأن تظل في إطار النفوذ الأوروبي المشترك. ولدى هذه الدول كذلك شعور بأن استيعابها في خضم الوحدة الأوروبية المشتركة، يساعدها على امتصاص الصدمات والمعضلات التي تبدو عصية على الحل، على المستوى القومي الداخلي المحدود. غير أن الإمكانية الفعلية لحل هذا النوع الأخير من المشكلات في إطار الوحدة الأوروبية لا يزال محل سجال ممتد. ويدور السجال حول أسئلة بعينها من نوع: هل من سبيل لحل التناحرات اللغوية الثقافية داخل بلجيكا مثلاً، وكذلك عجز إيطاليا عن ردم الهوة الثقافية السياسية الفاصلة بين شطريها الشمالي والجنوبي، بعد مسيرة قرن ونصف القرن من تاريخها الحديث، بأدوات الاتحاد الفيدرالي الأوروبي؟ وهل في الإمكان حل مشكلة الانفصاليين الباسك الإسبان، والانقسامات العرقية في كل من وسط وشرقي أوروبا بالأداة الفيدرالية ذاتها؟!

ومهما يكن، فإن التطلع إلى خضوع الدول الأوروبية العظمى لسلطة الاتحاد الفيدرالي، إنما هو وهْم معشعش في المخيلة السياسية الأوروبية، لم يتأت إلا لديجول وحده مناهضته والتمرد عليه. ولذلك فإنني أعني حرفياً هنا استخدامي لعبارة "الدول العظمى" في القارة. والمعلوم أن فرنسا وإنجلترا وإسبانيا وألمانيا والنمسا، هي الدول الوريثة المعاصرة للإمبراطورية الرومانية المقدسة، وهي صانعة أمجاد الحضارة الغربية، مضافة إليها إيطاليا الحديثة. وهذه الدول مجتمعة، هي الوريث الشرعي لكل من الحضارتين اليونانية والرومانية القديمتين.

بقي أن نضيف أخيراً، أن هذه الدول ظلت دائماً على استقلاليتها وسيادتها الوطنية. ولنضرب لهذا مثالاً بفرنسا التي لم تواجهها في يوم من الأيام مشكلة سيادة وطنية قط، لكونها ظلت محافظة على وضعها القيادي داخل الاتحاد، باعتبارها مؤسسة له. وبالنتيجة فقد أضحى الاتحاد الأوروبي مجرد امتداد للدور العالمي الذي تلعبه باريس، متى ما اقتضت الحاجة للاستعانة به.

ومثلما حدث أثناء الغزو الأخير للعراق، وربما ما سيحدث في كل من أفغانستان وحل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، فإن السبيل الوحيد للعب دور أوروبي دولي، هو أن تقوم به الدول الأوروبية العظمى بمفردها.

كاتب ومحلل سياسي أميركي
وجهات نظر


تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 27-نوفمبر-2024 الساعة: 10:32 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/46065.htm