تشكلات المكان.. المسافة بين الواقع والعبارة (*) • قبل أعوام – وقعت باصرتي على نص سردي منشور في إحدى المجلات اليمنية يحمل عنوان " قنديل الزقاق"، ولم يمنعني اندهاشي بهذا النص المميّز – آنذاك – أن أمسك باليراع لتسجيل، وتحبير بعض الملاحظات النقدية عليه. وكان النص حقيقاً بالتوقف عنده، لما يتميز به من رؤية صاعدة بالسردي، والحداثي، ووعي تشكيلي للأنساق المكانية، والبصرية بأبعادهما اللغوية الموحية بجماليات التأثير وبتداعياتهما الارتدادية إلى الذات المستقبلة، وقدرة القاص الكبيرة على فعل الكتابة الإبداعية، بما أعطى مؤشراً أولياًَ على إمكانية سطوع اسم جديد ينتقل من الحالة الكمونية إلى الحالة الحركية المشاركة، لتأسيس كيانه السردي بين أقرانه من شباب القصة الحداثية الجديدة. ولما كان الأمر كذلك فقد وعى القاص هذه الآلية، وهو يتقدم به للمشاركة في جائزة رئيس الجمهورية للشباب، لم يخب أمله وهو يحوز المرتبة الأولى، متوجاً بهذا النص انتصاراً لذيذاً، دفع به إلى أن يقول: هأنذا(1). * و"محمد المقطري" هو ابن هذا الحراك الحداثي الجديد في اليمن، الذي وصلت فيه القصة القصيرة إلى أفق شساعي من التوظيف السردي للتعالق، والاكتشاف، والتخيل، والانجذاب إلى الضرورة اللغوية التي أتاحت للكاتب آفاقاً من الحرية: تركيباً، وتخيلاً، وبُعداً فلسفياً، وهو ما جعل من النص الحديث غير استنفادي لأول قراءة عابرة، بسبب من عوالمه المتجددة، والمتناقضة. عوالم تقع ما بين الوعي والحلم، وما بين الكشف، وصدام الغموض الفني الذي يتولد عن التخلق، والتشظي، عن التوهج، والانطفاء. المدرك، واللا مدرك، الحلم والرغبة. وبذلك كله تنتقل القصة الحداثية من لعبة الخطاب التوصيلي (الموضوعي)، إلى اللعبة اللغوية بسردها المكثف، ومن الكليات إلى الجزئيات، ومن الطولية إلى العرضية، ومن الإيقاعية الهادئة، إلى الإيقاعية السريعة، ومن المواقف المتعددة إلى الموقف الواحد "وأضحت تضم كل أنواع الأشياء: الموقف، الحدث، أو الحالة. الوصف والتصوير(2)"، واهتمت كثيراً بالمكان الإيحائي، منتقلةً بالمكان الهندسي من مجرد الوصف العام، أو الوصف الكلي، إلى الوصف الجزئي، والتفصيلي على نحو تصويري بالغ الدقة. وصارت القصة القصيرة – الحداثية – تؤدي مهمة شعرية، وبصرية ( معاً) بتحولها من القصة الفكرة، إلى القصة الصورة، وهو الأمر الذي جعل من عملية البحث عن الموضوع مهمة شاقة لا بد فيها من إعمال كبير للذهن، أو العقل، والفكر، للوصول إليه، بسبب من الوجود اللغوي، أو التشكيل السردي القائم على غموض الوقائع على نحو مجهد للقارئ العادي. ويعتقد كاتب نحو "براندر ماتيوس" بـ( أن القصة القصيرة نوع أعلى، وأصعب من الرواية لأنها – أي القصة القصيرة – لا تقوم بغير الابتكار في المعنى، وفي الفكرة، والخيال". (3). * وقاص نحو " محمد المقطري" يكتب القصة القصيرة التي تعتمد أساساً على اللون النفسي،الإيحائي معاً. وفي مجموعته "قنديل الزقاق" نراه يحقق هذين البعدين من خلال تجليات عدّة أهمها: الفضاء المكاني، والفضاء التصوري بأبعاده الشعرية، والفلسفية، والبصرية، التشكيلية والذي نجده لدى المقطري، يتحرك وفق أنواع ثلاثة، وليكن مثالنا على ذلك الفضاء المكاني أولها: المكان الإيحائي: وهو ذلك المنقول إلينا من خلال تشكلات بصرية ( سينمائية) يلعب فيها الإيحاء دوراً رئيسياً، وحالٌّ محل الظاهرة الهندسية، وأهم النصوص التي تجسد ذلك؛ صنعاء تلك الرائحة، قنديل الزقاق، مئذنة.. وغيرها). وإذا كانت " صنعاء" في نحو هذه النصوص هي المكان الكلي، فإن " صنعاء القديمة" برائحتها هي المكان الجزئي، بينما تأتي عناصر من نحو "الزقاق، المحلات، البيوت، الطينية، الستائر البيضاء، الضوء، القنديل، الأحجار الملساء، المشربيات، النوافذ، المآذن، الشرفات الأرضية، الغرفة" تأتي عناصر صغرى تفصيلية للمكان الجزئي، وهي عناصر ترتبط وثيقاً بيوميات القاص: يسكنها، وتسكنه، ويرتبط هذا المكان –بعناصره -ببحث دائب عن الأنثى، ورائحتها، وتتعدد دلالات هذه الرائحة الأنثوية مثيرة طقوساً ( أيروتيكية) تارة، وطقوساً حلولية ( صوفية) تارة أخرى. فصنعاء ليست سوى " أنثى رائعة النحت. على لدانة جسدها تجلت أفانين الحناء صوراً عاشقة. وعلى أظافر يديها، وقدميها وتوت ثغرها خضاب من منقوع القرميد الأحمر، وبين ذوائبها من لون النيلة ما أراقته أنامل فنان مرهف".. وهي كذلك ليست سوى "غادة ترتدي عباءة إغوائها الصنعانية طمعاً في مغازلة الشمس المحتجبة، وجسد يتضوع ببخور الإثارة كلما أحس بغابة من العيون تحاصره". وهو لا يكتفي بمجرد الوصف من الخارج، بل قد يقتحم المكان فيدخل من النوافذ "المفتوحة على النسمات" وعلى تلك المغلقة على أشجان العشاق، وعلى نساء بجمال العيد...". وبتأملنا لوصف المكان، أو عناصره سنجد بأن القاص في نحو هذه النصوص يتعدّى الظاهرة الهندسية للمكان، ليحل محلها السياق الحلمي المجسد بالإيحاء، وذهنية التمازج النفسي، وهو ما يجعل من المكان – هنا – ليس أكثر من ظاهرة ذهنية مجردة تتنازعها رغبات ( حسية – روحية )، وحتى يظل المكان مفعماً برائحة الأنثى، فإنها قد تقتحم – أحياناً – أصغر الجزئيات النصية، فتأتي مجسدة على هيئة طقس حلمي، مشار إليه من خلال جزئية الكف أو الأظافر – على الأقل – كيما يظل الرباط الحسي متسلسلاً ويشكل فيه حراكاً متوالياً " أي باب هو، وقد فتحت سريرته للعشق كف فتاة لن تعود" ( سبع درجات). • أما المكان ببعده "الحلولي" (الصوفي) فلعل نص "القنديل.." هو أكثر النصوص التي جسدت ذلك؛ حيث استطاع القاص من خلاله أن يبعث الحياة في المرئيات وإعادة خلقها شعرياً، مازجاً بينها والنظرة الفلسفية. وبسيطرة البصمة النفسية على المسرودات النصية نجد نوعاً من التبادل المكاني بين الناص والأشياء: ( كانت تحلو لي المقارنة دوماً بينه وبين شمعة الفيلسوف القديم، والتي رماها يائساً من البحث وراء مطلبه المستحيل.. يمتد الزقاق كصندوق طويل مفتوح الجانبين وسط المباني الياجورية ليربط بين نقطتين هامتين.. كنت أحفظ كل شيء هنا عن ظهر قلب: الأحجار المرصوفة، وغير المتساوية القطع، عدد الكلاب، كمية الضوء العائمة في الأثير... كان المكان خالياً إلا من نباحات واهنة لكلب جائع، وقنديل يتدلى في السماء، وفراغ هائل..." (القنديل). وعندما يصل المرء إلى هذه المرحلة الحلولية في المكان لا شك أنه يتلاشى فيه، فيحدث الاتحاد (النرفاني)، وهو ما يحدث مع القاص الذي كان المكان هو النص المتستِّر خلفه فأمده بما يريد. وتتميز نحو هذه النصوص بميلها إلى السرد الذاتي (الضمير المفرد) ، وتغييب بنائية الحوار. وثانيها: المكان الموضوعي المتحرك بيومياته: وفيه تتعدد الشخوص، وتبرز بنائية الحوار. ومثالنا على ذلك نص "باب السباح" الذي يحاول به القاص توظيف اليومي ما استطاع، من خلال إعمال الرؤية البصرية لتصوير قطاع كبير من الحياة في " باب السباح"، ليبرز للقارئ جواً مأخوذاً من البيئة اليمنية، وصورة من الحياة المكتظة بالبشر في منطقة الباب، واصفاً نماذج محددة من البشر: عمال ، طلاب، جامعيون، مجانين، نساء، بائعات الملوج.. أراد الكاتب بذلك أن "يتنسم رائحة المكان بناسه، وبضوضاه، وبعبثيته.." ( باب السباح). وتجسيداً لهذه الرؤية بفوضاها كان لا بد من نقل بعض المشاهد الكلامية، وكما تسمعها الآذان بعيداً عن لعبة التزويق السردي. " هيا أخطو يا جماعة.. أو عانُقيِّل هانا.. هيا" فنحو هذا الحوار يجسد البعد الواقعي الذي يعد أهم مميزات القص الحديث الذي يسعى في جانب منه إلى وصف الحياة الاجتماعية في تفاصيلها اليومية.. مع وجوب الإشارة إلى أن القصة القصيرة والحداثية منها – على وجه الخصوص – وإن كانت تسعى في جانب منها إلى التفاصيل اليومية إلا أن بنائية الحوار يجب أن تتلاشى ( تضعف ) إلى أقصى مداها، لأن هذه البنائية تتنافى مع مفهوم الوجود اللغوي الذي يسيطر على القص الحديث برمته. وثالثها: المكان الهندسي الثابت: ونعني به المكان بدلالاته البصرية الحسية الذي يتشكل بمبعد عن الخيال، أو الظلال النفسي كما في نحو هذا الوصف" غرفة صغيرة مربعة، تنفتح على زقاق جانبي متفرع من شارع طويل، وضيق: زقاق مرصع بالحجارة كغيره من أزقة مدينة صنعاء القديمة ( من أحاكي). فالمكان الموصوف، أو الأجزاء المكانية ليس أو ليست أكثر من ظاهرة هندسية منزوعة من الظلال، والجوانب والدرجات الترميزية، أو الإيحائية.. ونحو هذا الوصف الاستنساخي للوصوف إنما يأتي لغرض رباطي، أو فاتحي ينطلق منه القاص إلى الصورة الأساسية، أو الوقائع الكبرى التي ينضوي المكان بتفاصيله الاستساخية البصرية تحت سياقها؛ لوقوع المكان -كمؤثر -في رتبة أدنى من رتبة الموضوع المكاني، بدليل أنه قد ينحسر إلى مدى ضيق، فلا يظهر في السرد إلا قرائياً، وحسب، فلا نكاد نرى تفاصيله البتة، إلا من خلال النظام السردي العام كما في قصة " لن أنام" فالمكان هو "غرفة" في يناية.. لكن هذه الغرفة غير مدركة الأبعاد ( بصرياً ) من خلال السرد، وكذلك البناية، فلا نكاد نلمح أبعادها البتة، وإنما يشار إليها من خلال ملفوظ " الدرج". وبإقصاء التفصيل المكاني يتجه الوصف إلى التركيز على أبعاد الشخصية المصورة، وتحليل نوازعها، وكوامنها درامياً، لذلك أُغفل المكان لِهاَمِشِيّتهُُ، وعدم مشاركته شخوص القصص على نحو وجداني، وعاطفي. وعلى ذلك نقول: إن تموقع المكان وجدانياً، وإيحائياً يساعد من بروزه على نحو تفصيلي: "نوافذ أربع، بمساحات متساوية، تنضح ضوءاً شفيفاً هادئاً من إناء رباعي الزوايا، وتغسل به سواد ليل المكان، تلوح وراء كل منها ستارة بيضاء تسترخي بفتور.." ( نوافذ مضاءة) أما إذا تموقع المكان في حدث مركب، فإنه ينتقل إلى رتبة الهامش الذي يساعد، ولا يؤثر. إحالات: (*) مقدمة المجموعة القصصية الصادرة عام 2006م. (1) مُنح المقطري جائزة رئيس الجمهورية للقصة القصيرة عام 2000م (2) سيد حامد ،كتابة القصة القصيرة ، دار المعارف، مصر 1997م. (3) المصدر السابق. |