قراءة تحليلية في:

المؤتمر نت-بقلم: نزار العبادي -
اتفاقية الحدود البحرية بين اليمن وعُمان

تأتي اتفاقية الحدود البحرية بين اليمن وعمان مثيرة لتساؤلات عدة حول مدى الأهمية التي تحتلها في الاستراتيجيات الأمنية للطرفين، وطبيعة توقيتها، وحجم تأثيرها على متغير النشاط البحري الدولي في مياه البحر العربي التي تشكل – بالنسبة لليمن- امتداداً طبيعياً لخطوط سيادتها في البحر الأحمر.
فقد شغلت مسألة الأمن الملاحي للبحر العربي مساحات عريضة من هموم القيادة اليمنية منذ عهد ليس بالقريب، يمتد بجذوره التاريخية إلى أواسط الثمانينات- أي- بعد بضع سنوات من توقيع مذكرة التفاهم بين اليمن وعمان عام 1982م بعد وساطة كويتية لإعادة مياه علاقات البلدين إلى مجاريها، وأنهاء قطيعة ما يقارب العقدين من الزمن.. ويومها كان اليمن جاداً في بحثه عن نسب استقرار إقليمية معقولة تعكس ظروفها على الساحة الداخلية، وتُأمنها من أي اختراقات خارجية متوقعة قد تتسبب بضغط، أو تدخّل بالشأن الداخلي اليمني، أو تقود إلى اضطرابات نوعية تؤثر في مجرى المسار الحكومي السياسي للدولة.
وربما كان الهاجس الأمني القلق من التطورات التي آلت إليها ساحة الحرب الباردة بين القطبين العالميين، وما يمكن توقع صيرورته على صعيد الحدث المستقبلي، حافزاً كبيراً لليمن للالتفات إلى تأمين سيادتها البحرية – خاصة –مع انقسامها إلى شطرين، ينقاد الجنوبي منهما خلف ركب المعسكر الاشتراكي.. وهو الامر الذي يعزز من احتماليات سعي قطبي الحرب الباردة الى نقل معركتهما إلى المنطقة تحت ذرائع، ومسميات شتى كان إحداها نزول قوات أجنبية إلى البحر الأحمر بحجة البحث عن الألغام، وتطهير خطوط الملاحة الدولية من أخطارها.
لكن بعد إعادة تحقيق الوحدة اليمنية ، ثم حرب الخليج الثانية، وما ترتب عليها من تعزيز القواعد العسكرية الأجنبية على أراضي عربية قريبة، وفي عدة مناطق بحرية، تغيرت معادلة القوى، وباتت سياسة القطب الواحد تفرض نفسها بقوة البوارج، والأساطيل، والمصالح الاقتصادية، حتى تطور الهاجس الأمني اليمني القلق إلى هاجس مخيف يحتل أولويات هموم اليمن الوطنية.
ومما ساعد على غرس مثل ذلك الخوف هو التوتر الكبير في علاقات اليمن الخارجية –إقليمياً، ودولياً- الناجم عن الفهم الخاطئ للموقف اليمني من الغزو العراقي للكويت الذي حفز بعض الدول إلى محاولة عزل اليمن، وربما تربص السوء بدوائرها إذا ما سنحت الفرصة للبعض.
وعلى الرغم من أن اليمن ألقت بكل ثقلها السياسي، والديبلوماسي لتبديد غمام ما عكر صفو سمائها؛ لكن كان في الوقت نفسه جهد يمني خالص للموازنة بين خطوطها الديبلوماسية، وخطوطها الأمنية- كي لا يتحول النأي عن طاولة الحوار الخاص بالملفات الحدودية، مدعاة تصريح بنشوب الفتن، أو منفذاً آمناً لعبور الخطر.
لقد قوبل القلق اليمني بتفهم عماني كبير قاد المفاوضات إلى اتفاق سريع لم يستغرق من الوقت سوى بضعة أسابيع، حُسمت في نهايتها الملفات الحدودية البرية بين البلدين بكل قناعة ورضا.. فكان ذلك النجاح أن أسس لعمل مشترك كبير، ومد جسور مصالح متشابكة لا حصر لها، وباتت قيادتي البلدين يتطلعان إلى ما هو أكبر وأعظم.
والحقيقة أن صيغة العمل المشترك التي التقى عليها كلا البلدين لم تكن أحادية النفع بقدر ما كانت تستوعب ظروفها، وتواكب موجبات عصرها المشحون بالأحداث والتطورات السياسية الدولية المختلفة. فسلطنة عمان بحكم وضعها الجيوبوليتيكي، وكثافتها السكانية المنخفظة جداً تجد في اليمن عمقاً استراتيجياً يفوق ما يمكن أن تمثله المملكة العربية السعودية، أو غيرها من دول الجوار بسبب الكثافة البشرية اليمنية العالية. ولعل الأخذ بهذا التفكير من قبل القيادة السياسية العمانية يمكن أن يُفهم على أنه منحى حكيماً وإدراكاً ذكياً لمسئوليات ما يقتضيه الظرف الدولي العصيب للمنطقة.
علاوة على أن هذا اللون من المشابكة بالمصالح من شأنه تأمين سلام واستقرار الطرفين ومضاعفة فرص الالتفات للتنمية الوطنية الشاملة، والدفع بالقرار السياسي لكل طرف إلى واقع أقوى وأكبر ثقة بالنفس.
ومع أن الحدود البحرية ظلت عالقة منذ توقيع اتفاقية الحدود البرية عام 1992م، لكن صيغ التعاون بشأن الملاحة الدولية في البحر العربي وإستراتيجياتها الأمنية كانت تسير على قدم وساق إلى درجة اشتراك قيادات القوات البحرية في العديد من الفعاليات والدراسات وحلقات النقاش، وتبادل المعلومات الأمنية وغيرها.
وتمر عبره سفن وناقلات دول أوروبا وأمريكا إلى المنطقة التي تمتلك ما يقارب 65% من الاحتياطات البترولية للعالم. وهو ايضاً يربط ثلاث قارات "آسيا، أفريقيا، أوروبا"، ويتحكم بأهم مدخلين بحريين "مضيق باب المندب، ومضيق هرمز"، ويقترب الخط الملاحي الدولي من السواحل اليمنية بحوالي (45) كيلو متر وتنفرد اليمن وعمان بالساحل الآسيوي من البحر العربي. إضافة إلى كون مياهة تصنف ضمن "المياه الدافئة" وهي عميقة وتخلو من الشعاب المرجانية إلى حد ما.. وفي البحر العربي الكثير من الثروات التي يمكن استغلالها اقتصادياً. كما إشارات الدراسات الأخيرة إلى أن قاعة غنية بالمعادن ويجري الآن التخطيط لاستثمارها تجارياً.
كل تلك العوامل وجهت أنظار البلدين على أهمية تعاونهما، وضرورة إيجاد الصيغ الفاعلة التي تحمي أمنه وتحفظ ثرواته، وتمنع كل ما من شأنه أن يصبح ذريعة لتدخلات أجنبية وتواجدات عسكرية في ماهية.. وحتماً إن إلاق الملفات الحدودية تحتل أولويات ذلك.
أما من حيث حسم ملفات الحدود البحرية في هذه الأيام بالذات، فاعتقد أن بعض ذلك يعود إلى أنه توافق صدفي لثمرة جهود سابقة تعود على عدة سنوات خلت. لكن تبقى هناك عوامل استثنائية ذات حملة بكثافة الوجود العسكري الأجنبي في المحيط الهندي، والخليج العربي، والبحر الأحمر، وطبيعة ما يشكله ذلك من تهديد مباشر لدول المنطقة.
ومن جهة أخرى يمكن القول: إن الحملة الدولية على الإرهاب كان لها أثر ملموس ايضاً في تسريع العمل بهذا الاتجاه خاصة بعد ما أشيع الكثير عن الطريقة التي نجحت فيها فصائل إرهابية لتنظيم القاعدة من تفجير المدمرة الأمريكية "يو. إس. إس. كول" بالقرن من عدن، مما استدعى دون تكرار مثل تلك الاختراقات الأمنية التي أخذت بالمصالح الدولية اليمنية كثيراً جداً.
لاشك أن اتفاقية الحدودية البحرية بين اليمن وعمان ستفتح آفاق مستقبلية في غاية الأهمية لعلاقات البلدين أولاً، وللسلام والاستقرار الإقليمي والدولي ثانياً، وتقطع الطريق على المتربصين بالبلدين والشعبين والأمة العربية سوءً.. وهي من شأنها أيضاً أن توثق عرى استراتيجيات الأمن القومي للأمة.. وتسجيل تجربة عظمية تستحق الأقتداء بها في سبل إدارة الحوارات وحل الإشكاليات بين الأشقاء، ورص الصفوف في زمن عصيب.
تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 27-نوفمبر-2024 الساعة: 09:56 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/4876.htm