هذا هو الإسلام ... جوانب إنسانية من حياة الرسول الأعظم لا نبالغ لو قلنا إن أحداً من البشر لم ينل من الحب والإعجاب ما ناله محمد صلى الله عليه وسلم، فالمسلمون يحبونه ويعظمونه إلى درجة التعلق والوجد، وغير المسلمين وإن هاجمه أكثرهم، إلا أنهم لا يملكون أنفسهم من شدة الإعجاب به والتقدير له. كانت علاقته صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين تماثل علاقة الأب بأفراد أسرته، فاستطاع أن يكتسب ثقتهم وقلوبهم بالصفح والتسامح من جهة، وبالرعاية والمحبة من جهة أخرى، ومن جهة ثالثة كان عظيم الفهم للنفس الإنسانية وما يختلج فيها من مشاعر وحاجات، ومن خوف وضعف، مكنه من الحكم الشمولي المنصف على الإنسان، بعيداً عن إغفال حميد صفاته والتركيز على إظهار زلاته. ففي لحظة ضعف كتب الصحابي حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، يخبرها نية رسول الله فتح مكة، ليسدي معروفاً إليها علها تحمي من عندها من أقاربه، فلما انكشف أمره أراد عمر قتله، فقال صلى الله عليه وسلم له “إنه قد شهد بدراً، يا عمر وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم” (رواه البخاري). هذا مثال الصفح والغفران، وأما الرعاية والإشفاق من الأب الحاني فأمثلتها عديدة: لما استشهد قادة مؤتة، أتى صلى الله عليه وسلم آل جعفر فقال: “لا تبكوا على أخي بعد اليوم ثم قال ادعوا لي بني أخي، فجيء بهم كأنهم أفرخ فقال: ادعوا لي الحلاق فأمره فحلق رؤوسهم” (رواه أبو داود). ثم قال صلى الله عليه وسلم مداعباً الصغار “أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي ثم أخذ بيد عبد الله وقال: اللهم اخلف جعفراً في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه قالها ثلاث مرات” وجاءت أمهم فذكرت له يتمهم وجعلت تثير حزنه عليهم فقال: “العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة” (رواه أحمد). علاقة الرعاية هذه لم تقف عند ذوي قرابته فقط، بل تناولت الأمة جميعاً، قال صلى الله عليه وسلم “والذي نفس محمد بيده ما على الأرض من مؤمن إلا أنا أولى الناس به فأيكم ترك ديناً أو ضياعاً فأنا مولاه وأيكم ترك مالا فإلى العصبة من كان” (رواه مسلم). وللطفولة عند الرسول صلى الله عليه وسلم عناية ورعاية “فقد قبل الحسن بن علي يوماً وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم ثم قال “من لا يرحم لا يرحم” (رواه البخاري). وكم جعل من ظهره مطية لأحفاده “فكان يصلي وهو حامل أمامة بنت ابنته زينب فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها” رواه البخاري. وكان “إذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا رفع رأسه أخذهما بيده من خلفه أخذاً رفيقاً ويضعهما على الأرض فإذا عاد عادا حتى إذا قضى صلاته أقعدهما على فخذيه” (رواه أحمد). قال أنس بن مالك “أرسلني صلى الله عليه وسلم يوماً لحاجة فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائي فنظرت إليه وهو يضحك فقال: “يا أنس اذهب حيث أمرتك. قلت نعم أنا أذهب يا رسول الله” رواه أبو داود. وقال أنس أيضاً “خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط وما قال لشيء صنعته لم صنعته ولا لشيء تركته لم تركته وكان من أحسن الناس خلقاً” (رواه الترمذي). وتجيش عاطفته الحرى عند موت العزيز على نفسه وقلبه “فلما رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة أحد جعلت نساء الأنصار يبكين على من قتل من أزواجهن، فقال لكن حمزة لا بواكي له، ثم نام فجئن نساء الأنصار يبكين على حمزة عنده، فاستيقظ وهن يبكين فقال أنتن ها هنا تبكين حتى الآن” (رواه أحمد). ويتلمس الناحية الإنسانية لدى أزواجه، فقد بلغ أم المؤمنين صفية بنت حيي أن أم المؤمنين حفصة قالت عنها بنت يهودي فبكت صفية “فقال لها صلى الله عليه وسلم إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي وإنك لتحت نبي ففيم تفخر عليك، ثم قال اتقي الله يا حفصة” (رواه الترمذي). احترم صلى الله عليه وسلم علاقة الحب الطاهر بين قلبين، ودعا إلى تتويجها بالزواج فقال “لم نر للمتحابين مثل النكاح” (رواه ابن ماجه)، ولما انفصلت بريرة عن زوجها مغيث، رآه صلى الله عليه وسلم يطوف خلفها يبكي حباً وهياماً بها، ودموعه تسيل على لحيته، فقال لعمه العباس “ألا تعجب من حب مغيثٍ بريرةَ ومن بغض بريرةَ مغيثاً” فأشفق على حاله وحاول إقناع بريرة بالعودة إلى زوجها فقال لها “لو راجعْتِهِ” فقالت يا رسول الله أتأمرني ؟ قال “إنما أنا أشفع” فقالت لا حاجة لي فيه، (رواه البخاري). * قاضي قضاة فلسطين عن الخليج |