انشر كتابك عن طريق الشبكة العنكبوتية لم يعد الكتّاب الشباب بحاجة لرضا الناشر أو لجنة القراءة التي تفلتر النصوص، كي ترى كتبهم النور. فقد أصبح النشر ممكناً، بالتواصل مع مواقع خاصة عبر الانترنت، نادرا ما ترفض نصاً او ترد صاحبه خائباً، لا بل هي تترك لصاحب الكتاب حرية اختيار نوعية الحرف، وحجمه، ولون الغلاف وشكله، وقد يختار المؤلف الصور المصاحبة لنصه بأرخص الأسعار. ولو اراد الكاتب فإن بمقدور موقع النشر ان يقوم بحملات إعلانية للترويج لكتابه. كل هذا وسط ما يمكن ان يسمى قريباً بانفجار في نشر الكتب. حتى ان أحد الناشرين قال «ان كثرة الكتب ستقتل الكتب مستقبلا». تغيرت ديناميكية النشر والتوزيع كلياً حتى صار الكتاب يطبع بعد شرائه ويوزع إلكترونياً، لو أحببت قراءته على الشاشة. فماذا يحدث عملياً في عالم نشر الكتب؟ وكيف ستؤثر هذه الانقلابات في مستقبل الكلمة المطبوعة؟ لن تصادف كاتباً ناشئاً إلا واشتكى من كمّ الصعوبات التي تعترض طريقه، وهو يسعى نحو نشر مؤلفاته. تصفيات صعبة ولجان قراءة ترمي في سلة المهملات أكثر مما تقرأ، ومصاريف لا أول لها ولا آخر، تشمل ثمن طبع النسخ وأحيانا أتعاب الوسيط الأدبي والدعاية..الخ. هذه العراقيل أصبحت كلها لا تعني شيئاً للكتاب المبتدئين، بعد ظهور دور نشر من نوع جديد تعرض خدماتها عبر شبكة الإنترنت. العملية كلها باتت تتّم عبر الشبكة. وهي أحدث ما عرفه عالم الكِتاب منذ اختراع نوتمبرغ للطباعة سنة 1454. مبدئياً تحافظ هذه الدور على نفس مناهج العمل التقليدية. فهي تعتمد على لجان القراءة، مراجعة الأعمال، تحرير عقود مكتوبة واتباع حملة دعائية.. إلخ. الاختلاف يكمن في الانخفاض الشديد الذي أصبحت عليه تكاليف النشر، والليونة الكبيرة التي يتّم بها اختيار الأعمال، بالإضافة لتلك العلاقة الافتراضية الجديدة التي أصبحت تربط القّراء بـ"الكتاب الرقمي" حتى انه بات يهدد وجود الكتاب التقليدي. فقد انتقلت في السنوات الأخيرة أحداث الساحة الأدبية من المكتبات والصالونات الأدبية إلى مواقع الانترنت ومنتديات الدردشة. الانتعاش الذي يميز سوق الكتاب في أميركا وفرنسا ودول أخرى، يقف وراء تهافت مستثمرين جدد يراهنون على نجاح فكرة النشر عن طريق الشبكة. فقد قيّمت النقابة الفرنسية للنشر في تقريرها الأخير أرباح أهم دور النشر التي حصرتها في 277 دار نشر بـ 3 مليارات يورو. أكبر الأرقام حققتها شركات نشر عريقة كـ "أشت" المتخصصّة في الكتب العلمية والقواميس، حيث حققت سنة 2005 أرباحا صافية وصلت إلى 1.4 مليار يورو، أو "لُوسُوي" التي وصلت أرباحها إلى 260 مليون يورو ودار "فلَمَريون" إلى 238 مليون يورو. 40% من هذه الأرباح تم تحقيقها عن طريق تسويق المنتجات على الانترنت، علماً أن سوق الكتاب في فرنسا ككل يزن 5 مليارات يورو، إذا أدرجنا في الحساب حقوق النشر والمؤلفين. امتلاك معظم هذه الشركات المعروفة لمواقع على الشبكة، يعكس وجود قناعة شديدة لدى أوساط الناشرين، بأهمية الشبكة في دعم وتسويق منتجاتهم. ورغم وجود توقعات بفرص ربح أكبر في حالة استغلال الناشرين لشبكة الانترنت بصفة مطلقة، إلا أن اعتماد هذا المبدأ لا يزال دون المستوى. * كتابك.. مقبول.. مقبول * الشركات التي تبنت هذه الطريقة تعَّدُ على أصابع اليدين، أهمها موقع lulu.com وهو استنساخ للطبعة الأصلية التي نشأت في الولايات المتحدة الأميركية، حيث يحظى مجال النشر عن طريق الإنترنت بانتشار كبير، إلى جانب مواقع فرنسية أخرى تحظى بصيت واسع مثل manuscrit.com.، publibook.com، cylibris.com edilivre.com ، .editoo.com أولى خطوات المؤلف الذي يريد النشر، تبدأ بالدخول على الموقع، حيث يبعث بمؤلفه عن طريق تقنية التحميل، ينتظر بعدها ردّ لجان القراءة التي كثيراً ما تكون متساهلة في تقييمها للأعمال، وتقبل أكثر مما ترفض. مديرة تحرير موقع نشر manuscrit.com، مرتين لومالي تبرر ذلك بقولها: "نحن لا ننظر لنوعية المادة فقط، بل نضع في الاعتبار أهمية هذه الأعمال كذاكرة حيةّ". وهو ما يفّسر اهتمام هذا الموقع بنشر المؤلفات والبحوث الجامعية بالإضافة للشهادات والسّير الذاتية. الموقع يستقبل يومياً ما بين 3 إلى 4 طلبات نشر، وهي في غالب الأحيان تُقبل كلها. بعض المواقع المختصة في النشر مثل cylibris تخرج عن هذه القاعدة، وتعمل بطريقة أشبه بدور النشر التقليدية، حيث تعمد على اختيار دقيق للأعمال، كما يقول مديرها أولفيى غنون: "نرفض 95% مما يعرض علينا. وما نقبله غالباً ما نعيد صياغة بعض أجزائه مع المؤلفين". بينما تذهب شركات أخرى إلى إلغاء المبدأ كله كـ lulu.com التي تعمل على النمط الأنجلوسكسوني دون اللّجوء للجان قراءة. * صمم مؤلفك بنفسك عملية النشر عبر شبكة الانترنت لا تخلو من تباين الخدمات المعروضة بين موقع وآخر، وتعوم غالبيتها في كثرة التفاصيل التقنية، أولها يبدأ بضرورة مساهمة المؤلف نفسه في صناعة كتابه واختيار شكله النهائي. فإذا كان الكتاب ورقياً، يقوم المؤلف باختيار نوعية الورق بنفسه، واختيار كيفية الربط التي يريدها لكتابه، إضافة إلى نوعية الغلاف، كذلك شكل الحروف وحجمها، ووضع الملخص. وكلها أمور تتم عن طريق ملء البيانات المطروحة على الموقع. وفي حال حاجة الكتاب إلى رسوم، فإن بعض المواقع تعرض أيضاً خدمات فنانين مصورين وغرافيست، تكون أتعابهم أقل مما هو معروض في السوق. وكلها خطوات تسمح بالتحكم في تكاليف الكتاب حتى يعرض للبيع بأقل سعر ممكن. * الطبع بعد الشراء دور النشر هذه لا تخزّن أية نسخة من المؤلفات. ولا تقوم بالطبع إلا عند الطلب، وبالتالي لا تكلف نفسها أي استثمار مسبق، ولا تربك ذاتها بتخزين لنسخ تحتاج مساحات في مستودعاتها. وهذا أيضاً سّرٌ من أسرار انخفاض تكاليف النشر بهذه الطريقة، حيث تكتفي مواقع النشر بعرض كتبها في كتالوج المبيعات، بانتظار طلبات الزبائن. العملية أكثر سهولة في حالة الكتاب الرقمي. فالمبيع في هذه الحالة يتم على الشبكة مباشرة. حيث يقتصر تحويل النص من شكل Word الذي كتب عليه إلى شكل Pdf الذي هو أكثر ملاءمة للقراءة على شاشة الحاسوب. وعادة ما يتولى هذه المهمة الناشر بنفسه. وهذه أرخص الكيفيات، بما أن الزبّون/القارئ، يكتفي بدفع ثمن تحميل المؤلف وتسجيله في ذاكرة الحاسوب. ويدفع مبلغاً غالبا لا يتعدى نصف ثمن الكتاب الورقي. تسويق الكتب إما انه يتم عبر هذه المواقع مباشرة، من خلال دليل يضم كافة المؤلفات الجاهزة للبيع أو التحميل أو انه يتم بواسطة مواقع مكتبات تتعاقد معها هذه الشركات، وهو ما يدفع كلفته المؤلف. حصة الناشر تتراوح ما بين 12% إلى 16% من ثمن الكتاب. وفي كل الحالات، لا يكلف المؤلف نفسه مصاريف إضافية، إلا إذا أراد دعم إنتاجه بحملة دعائية كبيرة، ينظمها الموقع نفسه. * النشر الرقمي لأسباب بيئية الناشرون الجدد متفائلون بمستقبل نشاطهم، ومعظمهم يراه "خدمة للمبدعين الشّباب الذين يئسوا من محاولات اقتحام قلاع شركات النشر التقليدية. المسؤولة عن الاتصال في موقع "manuscrit.com" تقول: "المستقبل لا محالة الآن هو للثقافة الرقمية، حيث ان معظم المنتجات الثقافية أصبحت تسّوق الآن عن طريق شبكة الانترنت، خاصة ما يخص الكتب. وهو ما أراه تجسيدا حقيقيا لما يسمى بـ"القرية الكونية". فالناشر التقليدي الذي كان يمارس دور الوصّي على القارئ انتهى. كما أن الناس أصبحوا الآن لا يفارقون الحاسوب، وليس لديهم الوقت الكافي للتّردد على المكتبات، زيادة على استهلاك الورق الذي لا يمكن الحصول عليه من دون قطع الأشجار. وهذا مُضّر بالبيئة وعلينا أن ننتبه لكل هذه الأمور". بالرغم من الإمكانات الهائلة، والفرص الكبيرة التي يمنحها جيل الناشرين الجدد للكتاب المبتدئين، إلا أن نشاطهم في الساحة الأدبية يعاني من نقص المصداقية، وربما أيضا من نقص اللمّسة الاحترافية. أخطاء مطبعية كثيرة، عدم التنسيق في التسويق، غياب الاتصال المباشر والتوجيه، هي كلها مشاكل غالبا ما تكون موضوع حديث للكتّاب الشبّاب في منتديات الدردشة التي تهتم بالأدب والكتابة. الانتقادات التي تّركز على نقص عامل "النوعية" في الأعمال المطروحة للبيع في هذه المواقع، تحاول هذه الأخيرة تخطّيها عن طريق تشجيع الإبداع. فلا تكاد تزور موقعاً إلا و تجد فيه إعلاناً عن مسابقة للقصة القصيرة أو جائزة عن الكتاب الأول. نضال المرسومي، عراقية مقيمة في باريس، حصلت على جائزة أول كتاب عن قصتها "لوتشي"، الصادرة باللّغة بالفرنسية والتي يمنحها موقع النشر manuscrit.com تقول، انها رغم إيمانها الشديد بموهبتها في الكتابة إلا أنه لم يكن كتابها الأول لينشر لولا الشبكة، وهذا لأنها ببساطة لم تكن تملك ما يسمى بـ"دائرة المعارف" التي تتولى تقديمها لأوساط الناشرين كما هو شائع. وهي تفكر بعد أن تنتهي من كتابة قصتها الثانية، عرضها على دار نشر معروفة، لان ذلك سيساهم في التعريف بها أكثر". النشر عن طريق الشبكة، كخطوة أولى نحو المجد أو السقوط في فخّ التساهل والرداءة، خيارات صعبة لمغامرة فريدة من نوعها، لم تثن من عزيمة معظم المؤلفين الذين بقوا متشبثين بها في سبيل نشر حصيلة إبداعاتهم. * مقبلون وخائفون من المستقبل محمد بودية، جزائري يكتب بالفرنسية لجأ إلى موقع edilivre لنشر أول كتبه بعد أن ظّل سنوات يبحث عن ناشر، وبعد أن طالبته دور النشر الجزائرية بمبلغ 200.000 دينار. وهو ما يمثل مرتبه لمدة سنة. وبعد أن جرب "لولو. كوم"، استقر أخيراً على "إيديليفر" التي بدت له أكثر اهتماما بالجانب الإنساني، وأشد عناية بتوجيه المؤلفين الجدد. وهو راضٍ عن خدماتهم، حتى أنه ينوي نشر مؤلفاته الأخرى بنفس الطريقة. هذا بينما يبدو آخرون أكثر حذراً مثل "ماري" التي تحاول منذ سنة نشر قصتها من دون جدوى، لكنها رغم ذلك تفضل التروي قبل الخوض في مثل هذه المغامرة التي قد لا تحمد عقباها: "أفضل أن أواصل رحلة البحث عن دار نشر مع كل صعوبتها على الاعتماد على الشبكة للنشر، لأن ذلك سيعني بالنسبة لي، نهاية مشواري الأدبي قبل حتى بدايته. فالكاتب يحتاج كي يبني سمعة جيدة لتقدير واعتراف المحترفين بموهبته. فمن يثق بمواهبي الأدبية وأنا أنشر في مواقع تقبل كل ما يعرض عليها من أعمال؟" الانتقادات التي وجهت لهذه المواقع، شملت أيضاً مسؤوليتها المحتملة في القضاء على العلاقة الحميمة التي طالما جمعت القارئ بالكتاب. وهي علاقة قد يعوضها عهد جديد من العلاقات بين القارئ والكتاب الرقمي الذي يختلف عن الأول في الشكل والعمق. ميشال توب، مدير دار نشر "توكزر" الجديدة، يشرح وجهة نظره في هذا الموضوع لـ"الشرق الأوسط" فيقول: "كثرة الكتب تقتل الكتب. لا شك أن الشبكة ستعمل على تدعيم الإنتاج الأدبي، ولكن أين هو دور الرقيب الذي يحرص على نوعية العمل. اليوم بوسع كل من هبّ ودبّ أن يفتح مدونة وينشر فيها محاولاته الأدبية. ولكن من يساعد القراء على الاختيار في ظل هذه الفوضى، بل من يساعد هؤلاء الكتاب في تفادي أخطاء البدايات؟ لا أظن أن شيئاً ما قد يعوض الأحاسيس الجميلة التي تنتابنا ونحن نأخذ بأيدينا كتابا لقراءته: رائحة الورق، الصوت الذي نحدثه ونحن نقلب الصفحات، كلها طقوس مقدسة راسخة في وجدان وذاكرة كل واحد منا. العلاقة التي تربط القارئ بالكتاب، ليست علاقة إنسان بجماد، يستعمله ثم يرميه بل هي أقوى من ذلك. ويكفي أن نرى كيف أن الكتاب يرافق صاحبه في كل مكان. ويبقى من الصعب تصور الحاسوب أو أي جهاز إلكتروني آخر، وهو يعوض هذه المكانة". * مؤلفون يطالبون بعودة الرقيب تضيف شارلوت بولونجي، مديرة الاتصال في دار نشر "توكزر": "لا أظن أن دخول الإنترنت مجال النشر سوف يحدث ثورة ما، تمامًا كما توّقع البعض موت الصحافة المكتوبة بعد ظهور الإذاعة والتلفزيون، لكن ذلك لم يحدث. ما هو حاصل الآن، أن الإنترنت أصبحت فرصة للمؤلفين المبتدئين الذين يحتاجون لخوض هذه التجربة حتى يتعلموا من أخطائهم. ولهذا أعتقد أن عمل دور النشر التقليدية التي تعمل عبر الشبكة متكامل، لأن لكل واحدة جمهورها الخاص". رأي القراء يبقى متباينا. فالشباب والطلاب ينتظرون بفارغ الصبر دخول الإنترنت بقوة مجال النشر، حتى تنخفض أسعار الكتب أكثر فأكثر. وهو ما يرجح حدوثه فعلاً، خاصة ونحن نشهد حرب برامج (e-book) أو الكتب الإلكترونية، حيث يسعى مصمموها من أميركيين ويابانيين إلى ابتكار أجهزة حديثة تحل محل الكتاب، وتعمل بطاقات وظيفية وتخزينية كبيرة. وبين من يدافع عن أساليب النشر التقليدية كمراقب لضمان جودة الأعمال الأدبية، ومن يرى في اساليب النشر الجديدة تحريراً من قيود كلاسيكية حدّت من حرية الكتابة، يبقى دخول الإنترنت مجال الثقافة في تطور مستمر. |