المؤتمرنت - الخليج -
التواصل الحضاري مع الآخر خصوصية إسلامية
من أبرز مظاهر إنسانية الإسلام وحضارته إقراره لمبدأ التنوع الثقافي والتعدد اللغوي والفكري وعدم المفاضلة بين الناس في اللون والجنس أو الأصل أو الفصيلة والقبيلة.

هذا المعطى الحضاري الذي قدمه الإسلام للبشرية، لم يقدمه كردة فعل لأحداث سياسية قاسية أو صراعات ثقافية مدمرة أو تحت ضغط قوى استعمارية طاغية، بل قدمه الإسلام باعتباره رؤية عقدية لدين إنساني خالد، ومن رب خالق وعالم بما خلق، ومن إدراك كامل لحقيقة الإنسان ومتطلباته في التفاهم، والتعايش والاختلاف والتباين والتحاور والتجانس معا.

ولهذا رأينا هذا القبول بالتعدد يشمل الإنسان كله في تكويناته النفسية والمادية، كما يشمل المجتمع كله في تفصيلاته الفكرية والجماعية والفردية والجغرافية والسياسية.

الدكتور رأفت غنيمي الشيخ أستاذ الحضارة الإسلامية ومدير مركز دراسات الحضارة العربية يتوقف أمام هذه الخصوصية الإسلامية بشيء من التفصيل، باعتبارها خصوصية متجذرة في الدين كله، ومتجددة في ممارسات المجتمع الإسلامي، وضرورية للرد على الخصوم فيقول:

القبول الإنساني الإسلامي بالتعدد البشري أقره وصاغه القرآن على أكثر من مستوى.

فاختلاف الألسنة والألوان يقره الإسلام ويعتبر تعددها آية من آيات الله في خلقه: “وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ”. كما أن تعددها من أسباب التعارف: “يَا أَيهَا الناسُ إِنا خَلَقْنَاكُم من ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا”.

التعدد الإنساني

وفي تأسيس معنى قبول الآخر الديني وردت عشرات الآيات القرآنية التي تقر مبدأ الاختلاف والتعدد في الرؤى وضرورة المعايشة بالحسنى مع وجود هذا التعدد. من ذلك قوله تعالى: “لكُل جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمةً وَاحِدَةً وَلَكِن ليَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً”. “وَقُلِ الْحَق مِن ربكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ”. “قُلْ يَا أَيهَا الناسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَق مِن ربكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَل فَإِنمَا يَضِل عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ”.

إن الإسلام يكرم الإنسان على إطلاقه، دون تحقير بسبب جنس، أو تصغير بسبب لون، أو امتهان بسبب دين، أو تعصب بسبب قومية أو جنسية ما. والأساس هنا هو قول الحق: “وَلَقَدْ كَرمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَر وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم منَ الطيبَاتِ وَفَضلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ ممنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً”.

وفي الحديث: “كلكم لآدم وآدم من تراب.. ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود، إلا بالتقوى”.

وثمة معنى شديد الأهمية في تعامل الإسلام مع مبدأ التنوع والتعدد الإنساني، وهو أنه يحرّم ويجرم أن يتخذ أحد أي شكل من أشكال التعدد ذريعة للتعصب أو العنصرية أو التباهي على خلق الله. وهذا المعنى خصوصية أخرى من خصوصيات فهم التنوع البشري، فهو قدري وموجود ولكنه ليس مبررا على الإطلاق للتباهي والتباغض أو التعصب.

يقول الدكتور رأفت: هذه المساواة الإسلامية الإنسانية قاوم بها الإسلام كل نزعات التعصب في النفس الإنسانية، فليس للإنسان ميزة في جوهر طبيعته تجعله أكرم من غيره في الدين أو الدنيا.

يقول الحق: “يَا أَيهَا الناسُ اتقُواْ رَبكُمُ الذِي خَلَقَكُم من نفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَث مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء”. “فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبهُمْ أَني لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ منكُم من ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم من بَعْضٍ”.

وعندما وجد الرسول صلى الله عليه وسلم مقدمة لعنصرية بغيضة بسبب التعدد في اللون غضب غضبا شديدا، ففي واقعة معايرة أبي ذر لبلال عندما قال له: يا بن السوداء، غضب الرسول وانتهر أبا ذر وقال: طف الصاع، طف الصاع، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى أو عمل صالح. وقد وضع أبو ذر عقب هذا خده على الأرض وأقسم على بلال أن يطأه بحذائه ليغفر الله له زلته هذه ويكفر عما ظهر منه من تصرفات بعض الجاهلية الأولى. وفي دعوته المطلقة لمقاومة كل صور التعصب، قال عليه الصلاة والسلام: “دعوها أي العصبية فإنها مُنْتنةٌ”.

التعايش الثقافي

وبرؤية علمية تاريخية يقرر الدكتور رأفت الشيخ أن تاريخ العرب والمسلمين كله هو تاريخ لقبول التعدد والتعايش الثقافي بين البشر.

والتعايش “الثقافي” الذي نعنيه هنا يشمل كل مواقف الإنسان الحياتية من أفكار وفنون وعادات وسلوكيات ولغة وقوانين وتجارب ومواقف وقيم وآداب ومعارف.

وإذا كانت الثقافة هي التعبير عن الرقي الأدبي والفكري للأفراد والجماعات، فإن آداب العرب وثقافات المسلمين وسلوكيات الأفراد والجماعات، تجسد هذا التعدد، من حيث هي ثقافة حية تعكس الظاهرة الإنسانية في تنوعها وعالميتها، ومن حيث هي تفهم الذات الإنسانية بمتطلباتها المادية والروحية، ومن حيث هي عملية إبداعية وصاحبة إنجاز كمي وكيفي ظهر في الفكر والتنظير والأدب والإبداع والفنون.

ومن العجيب أن ثقافتنا الإسلامية التوحيدية كونت مع الثقافات الوثنية مزيجا رائعا في تحرير الإنسان وتحريك عقله ونفسه ومن الرغبة في التعايش، الأمر الذي جعل مؤلفا كبيرا مثل كولر يونج يصف الإسلام بأنه “الدين الثقافي العظيم” وعملت الثقافة العربية هنا على تواصل الحضارات الإنسانية من الحضارة المصرية القديمة والآشورية والبابلية والصينية إلى حضارة الرومان والإغريق إلى الحضارة اللاتينية الأوروبية المعاصرة. فقد حافظت الثقافة الإسلامية على الثقافة اليونانية في الأندلس وظل الغرب يشتغل بها حتى قرنين مضيا، مستفيدا من روحها وابتكاراتها الرائعة. وكان ابن سينا العالم الطبيب، والرازي الجراح الكبير، والبيروني الجغرافي الرائع، وابن الهيثم أكبر علماء البصريات، وابن جبير أشهر الكيميائيين، وابن خلدون وابن رشد.. وغيرهم نماذج عملية على التعايش العلمي الإنساني في صوره السامية، وقد وصف المفكر الإسلامي الكبير “مالك بن نبي” هذه الثقافة العربية بأنها ثقافة أخلاقية وثقافة جمالية ومنطقية وصناعية تقنية، ومن ثم هي ثقافة عالمية متنوعة ومتفردة معا.

ولعل أبرز دليل على هذه التعددية الكامنة في ثقافة الإسلام والمسلمين أن الإسلام والمسلمين وصلوا بأنفسهم وثقافتهم إلى كل الدنيا، ومثلوا خمس العالم عددا وناهزوا المليار ونصف المليار مسلم وغطوا نحو 58 دولة كأكثرية وكل دول العالم الأخرى كأقلية، كما استقبلوا وتعايشوا مع الآخر بكل صور تعدده وتنوعه.

الاستشراق والاستغراب

وتعدد الدراسات الاستشراقية من الغرب للشرق والدراسات الاستغرابية من الشرق للغرب أحد النماذج الجيدة لهذا التعدد وقبوله.

ورغم ما اعترى هذه الدراسات من تحفظات فإن مدارس الاستشراق لا تزال أحد الإنجازات بين الشرق والغرب في مجال التعارف الثقافي.

يقول الدكتور رأفت الشيخ: في حضن المؤسسات البحثية في الغرب والشرق نشأت آليات جديدة للحوار الفكري بين المسلمين وغير المسلمين، فمنذ القرون الوسطى نشأت كراسي لدراسة اللغات الشرقية خاصة العربية، كما درست المخطوطات العربية، وأنشئت المتاحف الشرقية في باريس ولندن وروما، وقرئت الفنون والنقود والتراجم والفهارس المكتبية قراءة علمية مدققة. وتشير التقديرات إلى أن المستشرقين الفرنسيين، وحدهم ترجموا حتى منتصف القرن العشرين إلى الفرنسية ما يناهز ثلاثة آلاف مؤلف، كما ألفوا نحو ستة آلاف كتاب في مجالات المعاجم والسير والتاريخ والفرق الإسلامية، واللغة العربية وآدابها، فضلا عن سلاسل العادات والتقاليد والمحاكم والعلوم والفنون والتراث العربي الإسلامي. بالإضافة إلى نحو مائة مؤتمر دولي علمي تعرض للشأن العربي الإسلامي في القرن الأخير فقط.

وفي المقابل فإن علم الاستغراب أي دراسة علماء العرب والمسلمين للغرب يعد من آليات الحوار الثقافي كذلك، وعلى الرغم من أن بعض هذه الدراسات قد زادت عملية “الاحتقان” الإسلامي من الغرب بسبب جو الهزيمة العسكرية والنفسية التي استشعرها العقل المسلم تجاه الغرب وحضارته الحالية، فإن الاستغراب يصب في مصلحة الحوار وقبول الآخر من زوايا:

محاولة ضبط الوعي الغربي والسيطرة على مفاتيح فهمه والتقليل من غروره وأنانيته.

نقل عملية “الغزو الفكري” إلى سياقها الطبيعي وهو الحوار الفكري المعتدل.

كسر حدة الاندفاع الحضاري الغربي وفتح المجال لإبداعات الثقافات غير الأوروبية وعلى رأسها الثقافة العربية المسلمة.

إبراز المشترك الإنساني بين الشرق والغرب وتقليل تيارات التعصب التي لا ترى إلا الرجل الأبيض ولا تتعامل إلا مع ما ينتجه العقل الغربي أو اليد الأوروبية.

نقل اللغة ومفاتيح التفكير العربي إلى القطاعات الأكثر مرونة في الغرب، سواء كانت موجودة وسط العامة أو بعض الخاصة من المستشرقين والدارسين أو بعض رجالات الحكم والسياسة.

البحث دوما عن آليات جديدة تعمق التواصل الحضاري وتزيل سوء الفهم الموجود والمتجدد بفعل الأطماع الثقافية والاستعمارية الطاحنة.

استراتيجية مستقبلية

ولتدعيم هذه الخصوصية الإسلامية في التعددية وقبول الآخر، يشدد الدكتور رأفت الشيخ على ضرورة تبني العالم الإسلامي استراتيجية مستقبلية يتفادى بها المسلمون عجز الداخل الحاصل وضغط الخارج الواقع.

ويطرح في هذا المجال ثلاثة محاور رئيسية:

الأول: أن نربي في الأمة المسلمة بل وفي الإنسانية معاني الاختلاف الهادئ أو التدافع الإنساني العاقل، فالبشرية خاسرة يوم ترفع شعارات الصدام أو الصراع الحضاري كما فعل الغرب بعد انهيار الشيوعية أو شعار الحرب الباردة أو الساخنة قبل انهيارها. ومن المناسب أن تعمل البشرية على تفعيل معنى “التدافع الحضاري” كبديل عن الصراع، وهو المعنى الوارد في الفكر الإنساني والكامن في مثل قوله تعالى: “وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ الناسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لفَسَدَتِ الأَرْضُ”.

الثاني: تنقية الثقافة العربية من بعض ما علق بها من صنوف التعصب والمذهبية والاختلاف. فنحن أمة مدعوة إلى أن تمارس العدل مع الكارهين لها، ومن باب أولى أن تمارس العدل مع نفسها، فلا تستنكف أن تراجع أخطاءها وترد فهمها إلى الصواب، ومن الحكمة في هذا الصدد أن تشكل المؤسسات الثقافية الإسلامية لجاناً علمية لمراجعة الذات وتأكيد الثوابت الثقافية للحوار والتعايش.

الثالث: الاستمرار في قراءة “الآخر” قراءة موضوعية، سواء في إنتاج الغرب الثقافي، أو في مواقفه الدينية والسياسية، أو في نصوص المواثيق والمعاهدات الدولية، بحيث نصل معا إلى كلمة سواء نتعاون بها على المشترك الإنساني المفيد ونتعارف على نقاط الاختلاف ونتجاوز عن مظاهر الشقاق والتناقض.

تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 04:59 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/52731.htm