مسلسل الإساءات.... وسنة المواقف (1/2) يقول الله تعالى في كتابه العزيز :" لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" ( آل عمران 186) كلنا سمعنا عن التكرار والتسلسل في الاجتراء على الله ورسوله في وسائل الإعلام في بعض الدول الغربية من محاضرة البابا سيئة السمعة إلى إعادة نشر 17جريدة دانمركية للرسوم الكرتونية المسيئة بشيء من التعمد والتواطؤ ، فما هو موقفنا إزاء تلك الإساءات ، وهل يجوز للمسلم أن يقف موقف المتفرج وكأن الأمر لا يعنيه من قريب أو بعيد ، فمن بلغه شيء من ذلك ولم يتحرك قلبه بالغيرة والتأثر والانفعال والحب لرسول الله عليه أن يراجع إيمانه بالله وبرسوله ، لأنه أمر يشكل أصل الإيمان ومقياس القرب من الله عز وجل. كذلك هل تكون مقابلة هذه الأمور بإطلاق العنان للعاطفة من صياح وصراخ وحرق للسفارات والأعلام أو حتى بمقاطعة للمنتجات ، ونبرئ ذمتنا عند ذلك تجاه رسول الله ، أم أن الواجب علينا هو أمر أكبر وأجل وبقدر مقام وحب رسول الله فينا؟ أستأذنكم بداية أن نطرح الأمر على هيئة الخواطر المتواردة التي تخاطب القارئ من داخله، وأول ما يطرأ على البال والخاطر هو هل حصل شيء من تلك الإساءات في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام ؟ وهل سمع النبي صلوات الله وسلامه عليه نوعاً من السب والشتم والاتهام أم لم يحصل ؟ فإن كانت قد حدثت فكيف كان تصرف النبي صلى الله عليه وسلم ؟ لأن هذا التصرف هو معيار ومقياس ضبط تصرفاتنا وانفعالاتنا وأفعالنا تجاه ما يحدث وما قد يحدث مستقبلاً من إساءات وافتراءات. إن الاستقراء الأولي للسيرة النبوية العطرة يطلعنا على أن هناك صنوفاً مختلفة ومتعددة من الإساءة تعرض لها الرسول عليه الصلاة والسلام ، منها أن بعض يهود المدينة كانوا يدخلون عليه ويقولون : السام عليك أي الموت والهلاك ، فيرد الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله : وعليكم ، حتى غضبت السيدة عائشة أم المؤمنين وردت عليهم " السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف أو الفحش ، قالت: أولم تسمع ما قالوا ؟ قال : أو لم تسمعي ما قلت ؟ رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في ".(صحيح البخاري 5/2350 برقم 6038). وهناك موقف آخر تجرأ فيه كعب بن الأشرف على رسول الله سباً وشتماً وتحريضاً بكلماته وبتحالفه مع قبائل العرب ، وتشبيباً بنساء المؤمنين ، فبعث الرسول إليه من قتله ، ففي سنن أبي داوود " كَانَ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ يَهْجُو النبي صلى الله عليه وسلم وَيُحَرِّضُ عَلَيْهِ كُفَّارَ قُرَيْشٍ ، وَكَانَ النبي صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَأَهْلُهَا أَخْلاَطٌ مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ وَالْيَهُودُ ، وَكَانُوا يُؤْذُونَ النبي صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ ، فَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ بِالصَّبْرِ وَالْعَفْوِ ، فَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ ( وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الآيَةَ فَلَمَّا أَبَى كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ أَنْ يَنْزِعَ عَنْ أَذَى النبي صلى الله عليه وسلم؛ أَمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ أَنْ يَبْعَثَ رَهْطًا يَقْتُلُونَهُ" ( سنن أبي داوود 2/144 برقم 3002 و سنن البيهقي الكبرى 9/138 برقم 18408) ، مثلما أهدر الرسول عليه الصلاة والسلام دم الشاعر كعب بن زهير وذلك قبل أن يسلم . ونقرأ في صحيح مسلم عن أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ قَالَ : بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا ، أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بني تَمِيمٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ ".( وفي رواية أخرى قال : إنّي أَرَى قِسْمَةَ مَا أُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللّهِ فَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيَأْمَنُنِي اللّهُ فِي السّمَاءِ وَلَا تَأْمَنُونِي ") فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لي فِيهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ": دَعْهُ"( صحيح مسلم 3/122 برقم 2505). ونحفظ كذلك مواقف سيدنا حسان بن ثابت في الرد على من هجا رسول الله عليه الصلاة والسلام وإقامة الحجة بالحجة ، إذ كان الشعر هو إعلام العصر والزمان ، مؤيداً في ذلك بأمر رسول الله وبالروح القدس ، فعن السيدة عَائِشَةَ أم المؤمنين أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : اهْجُوا قُرَيْشًا فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ ، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ رَوَاحَةَ ، فَقَالَ : اهْجُهُمْ ، فَهَجَاهُمْ ، فَلَمْ يُرْضِ ، فَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ ، فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِحَسَّانَ : إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لاَ يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحْتَ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَقَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى وَاشْتَفَى".( صحيح مسلم 7/164 برقم 6550). فهذه وغيرها كثير من مواقف النبي في التعامل مع صنوف الإساءة والاعتداء والشتم والتشويه والتحريض، فهل هناك ثمة قاسم مشترك أو معيار لتصنيف الحالات – فيما يسمى سنة المواقف- نفهم منه حقيقة التعامل مع حالة الإساءة الراهنة ، أم أن المسألة تركت هكذا دون ضبط أو نظر ؟ لا شك في أن للمسألة ترتيب ومعيار في الشرع ، وعندما تأملت في السيرة النبوية وجدت أن الحالات التي أمر فيها الرسول عليه الصلاة والسلام بالقتل ، انحصرت في نوع واحد من الحالات ألا وهي تلك التي اجتمع فيها شرطان : أن يكون في التهجم على رسول الله نوع اقتران بتحريض الآخرين على القتل وسفك الدماء أولاً، والشرط الآخر هو أنه يترتب على قتل الواحد حقن لدماء الطرفين من المسلمين وغير المسلمين وحلفائهم ثانياً ، وتلك حالة كعب بن الأشرف. فهذا الرجل -الذي يسميه الإمام مسلم وبعض المفسرين طاغوت اليهود - كان في قتله حقن لدماء المسلمين واليهود ومن حرضهم من قبائل العرب ، وهو ما ذكره أبو داوود في سننه بقوله :" فَلَمَّا قَتَلُوهُ فَزِعَتِ الْيَهُودُ وَالْمُشْرِكُونَ فَغَدَوْا عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم ، فَقَالُوا : طُرِقَ صَاحِبُنَا فَقُتِلَ ، فَذَكَرَ لَهُمُ النبي صلى الله عليه وسلم الذي كَانَ يَقُولُ، وَدَعَاهُمُ النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا يَنْتَهُونَ إِلَى مَا فِيهِ، فَكَتَبَ النبي صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً صَحِيفَةً"( سنن أبي داوود 2/144 برقم 3002). ومن ثم فالحالة الوحيدة التي تحول فيها الأمر إلى قتل جزاء الإساءة هي حالة إخلال حربي بالعهد الذي بينه وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام ، والخروج عن معنى الموادعة إلى التحريض والتأليب على القتال ، وكان في هذا القتل حقناً لدماء كل الأطراف ، بدليل تجديد العهد الذي كان بين النبي وبين اليهود. ففي غير هذه الحالة بشروطها لا ينبغي أن يطرح القتال خياراً. والحالة الثانية هي التي اهتم رسول الله عليه الصلاة والسلام بالأمر وأذن لمن يرد ويناجز ويوضح ويدافع ، وهي التي اقترنت فيها الإساءة بنوع تشويه للدين والرسالة مع تحريض الآخرين على الإعراض عن الدعوة والرسالة ، بل كان فيها من التحريض على القتال أحياناً ولكن لم يكن في اللجوء إلى القتل حقن للدماء ، لذا لم يصل فيها أمر الرد إلى حد القتل. ووجدنا حالة ثالثة اكتفى فيها النبي عليه الصلاة والسلام برد مقتضب فيه من الإعراض عن المسألة من أصلها أكثر مما فيه من رد ، وكأن علاج أمر الإساءة في الإعراض وعدم الالتفات إليه ، إذ لا قيمة لها. والآن إذا رجعنا إلى تكرار مسلسل الرسوم المسيئة، ففي أي الحالات الثلاث السابقة تصنف ؟ هذا ما يحتاج منا إلى بعض التفصيل في الظروف المحيطة بتكرر مسلسل الإساءات وعمن تصدر ؟ وما هو موقفنا من تلك الحالة بالنظر إلى الأنواع السابقة أخذاً وتطبيقاً لسنة المواقف ؟ |