المؤتمر نت -
د/عبدالعزيز المقالح -
الاختلاف لا يدعو إلى القطيعة وإلغاء الوطن
هل ما يحدث في اليمن الآن ناتج عن نقص في الوعي وما يسببه ذلك النقص من انخفاض في مستوى الولاء الوطني؟ أم أنه ناتج عن وعي مغلوط وحسابات لا تضع في اعتبارها أدنى حد لما يحفظ للوطن وحدته وكرامته ويمكنه من بناء حياته الجديدة القائمة على العدل والحرية والمساواة؟.
سؤال يؤرقني منذ سنوات، لكني أعترف أمام الجميع أنني احترت في الإجابة عليه أو بالأصح تخوفت أن تكون إجابتي منحازة لا ترضي سوى طرف واحد، أو أن تبدو محايدة لا ترضي أحداً من الأطراف المتصارعة خارج الميدان الصحيح، وخارج السياق المطلوب لشعب يعاني ويفتقر إلى الحد الأدنى من إمكانات التطور واللحاق بغيره من شعوب العالم في التعليم والصحة، ومناهضة الاختلالات التي تقف في وجه كل تقدم، تلك الاختلالات الناتجة عن زمن طويل من العزلة والشعور بالعجز تجاه الآخرين، الذين سبقونا بعشرات السنين، وكان بعضهم يعيش خلفنا بعشرات السنين أيضاً.
لن أشغل نفسي وأشغل القارئ معي بالحديث عما قبل الثورة اليمنية (سبتمبر- اكتوبر) وعن الظروف البائسة التي كان هدف الثورة الأساس تجاوزها والعبور فوقها إلى زمن آخر، ومواقف أخرى تبتعد بالمواطن اليمني عن متوالية الوأد والإقصاء، وتفتح الأبواب للاختلافات الصحية والإيجابية التي من شأنها أن تؤسس لحوار حقيقي مع الذات ومع الآخر، لكن قمع الآراء ابتداءً من ذلك الوقت المبكر، ورفض الحزبية واعتبارها عملاً خيانياً إجرامياً (من تحزب خان) مكنت فئات معينة من الاستئثار بالسلطة وإقصاء كل محاولة جادة للمعارضة، وتوارثت السلطات المتعاقبة هذا الاستئثار في الشطرين وتحت اسم الثورتين مما جعل الإقصاء هدفاً، وتخوين المختلف أو المخالف مبدأ، وهو الأمر الذي أفقد المواطن تدريجياً حماسته وإحساسه بالمواطنة، وأضعف في وجدانه الشعور بالانتماء إلى وطن لا يتنبه إلى شكواه ولا يصغي إلى أنينه. وفي لحظات سوداوية اختلط الوطن بالنظام وصارا في خانة واحدة وجعلا من معارضة النظام معارضة للوطن ذاته!.
وعندما جاءت الوحدة حاملة معها وعود الديمقراطية والتعددية، وتعزز بذلك مبدأ حق الاختلاف، وظهرت أحزاب كانت تحت الأرض وأخرى لا عهد للناس بها، انطلقت مسيرة جديدة لكن بعد عقود، بل حقب طويلة من القمع والرفض للصوت الآخر، فانطلقت الأقلام الحبيسة والأصوات المكممة، ولم يكن الولاء للوطن والانتماء إلى مبادئ الجمهورية والوحدة، هو وحده مصدر التعبير عن الإجماع المتجذر في النفوس، فكان لكل طرف من الأطراف الفاعلة وغير الفاعلة في هذا الوطن تصوره الخاص للوحدة وللديمقراطية وتصوره الخاص للسلطة، كما ضاع التصور العام أو المشروع السياسي الوطني الكبير لما ينبغي أن يكون عليه حال الوطن بعد استرداده وحدته ولملمة أطرافه، وتحولت الرؤى المختلفة في ظل غياب هذا المشروع السياسي الكبير عند جميع الأطراف إلى مواقف متشنجة، وفي ظل غياب آليات وثوابت تحدد ما هو حلال وما هو حرام في حق الوطن تمت التجاوزات، وبلغت تحت بعض الممارسات غير المسئولة إلى درجة التخلي عن المنجز التاريخي الأهم، وهو الوحدة، وكانت النتيجة أن تعمق الخلاف وخرج عن دائرة الاختلافات الصحية، وأصبح في صورته العلنية صراعاً على السلطة لا من أجل تصحيح المسار والتخلص من الأخطاء، ووصل الأمر عند البعض إلى إعلان الحرب على السلطة، وعند البعض الآخر ليس إلى أعلان رفض الوحدة، بل إلى إنكار الهوية الوطنية اليمنية التاريخية للشعب اليمني، من خلال الحديث عن الجنوب العربي والدعوة إلى إعادة تقسيم الوطن.
وعلماء الجغرافيا السياسية يعلمون أن تسمية الجنوب العربي، هي مسمى جغرافي يطال في امتداده ما هو غير يمني، وأن تسمية الجنوب العربي أوجدها الاستعمار بعد أن فشلت محاولاته في فصل عدن عن المحميات الشرقية والغربية، وسعيه لربطهما بالكومنولث البريطاني تحت إدارة ذاتية، أو حكم ذاتي، وهي المحاولة الاستعمارية الثانية لفصل جنوب اليمن عن شماله، خلافاً لما كانت تؤكده أدبيات الحركة الوطنية اليمنية الصاعدة في صورة الجبهة الوطنية المتحدة 1956، ولما أعلنه بيان رابطة الطلاب اليمنيين في القاهرة في 23 يوليو 1956م، وما كرسته أدبيات الفكر السياسي الوطني اليمني، وتحديداً في كتابات الأستاذ عبدالله باذيب.
ونحن لا نستدعي التاريخ أو نتوسله حفاظاً أو دفاعاً عن اللحظة السياسية القائمة، ولكنها دعوة وطنية يمنية خالصة للوصول إلى حلمنا جميعاً بالوحدة التي تحقق إرادة جميع اليمنيين ومصالحهم، باعتبار الوحدة ثورة ثالثة ومشروعاً سياسياً كبيراً، وليست لحظة سياسية منجزة وجاهزة، وتحت هذا السقف المشروع، لنختلف ولنصطرع، ولنضع أجمل مؤتلف بعيداً عن ثقافة التشطير والتفكيك، والتشظي، وما يؤدي إليه ذلك من اقتتال أهلي، ومن تبديد للطاقات المحدودة.
أين الحل إذاً؟ وهل بقي مجال للحل؟ وهل ما تزال الرؤوس الكبيرة تحتفظ بشيء من الوعي والتعقل، يدفع بها إلى إعادة النظر في ما وصلت إليه أحوال البلاد قبل أن تتفسخ ويدركها ما أدرك الصومال، بل ما هو أسوأ؟ والخطوة الأولى نحو الحل تبدأ - في رأيي المتواضع- بإمعان النظر في مقولة العلامة ابن خلدون في أن الحقيقة لا يمتلكها شخص واحد وإنها ملك البشر جميعاً على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم، وهي حقيقة توحِّد ولا تفرق، وتجعل الحوار بين المختلفين وسيلة وغاية، وبدون الحوار والنظر في العواقب الوخيمة التي تنتظر الجميع، فإن العاصفة قادمة، قادمة، لاسيما إذا أدرك الآخرون أن فرصتهم قد حانت للانتقام من هذا الوطن الذي يتباهى بالديمقراطية والتعددية وبالبرلمانية عالية الصوت.
وتبقى الإشارة الأهم وهي: إن الاختلاف مهما اشتد بين أبناء الوطن الواحد لايدعو إلى القطيعة ولا يتم معه إلغاء الوطن.
تأملات شعرية:
آه
يا للسياسة كم أكلت من قلوبٍ
وكم فتتت من قرى
ولكم قتلت من قصائدْ.
يا للسياسة
كم جعلتني أخاف أخي
وأرى في صديقي عدواً
وفي زوجتي مُخبراً
وأرى وطني خرقةً باليه!.
تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 27-نوفمبر-2024 الساعة: 09:47 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/73024.htm