لليمن لا لعلي عبدالله صالح (15)...الخطاب السلفي يسعى الى فرعنة الحكام يرتبط إصرار السلفيين على إحياء مفهوم الطاعة المطلقة وغير المقيدة لولي الأمر بتجاهل وإنكار مخرجات التطور التاريخي الذي شهدته الدولة سواء خلال عصر الإقطاع ونمط اقتصاد الخراج، أو خلال عصر الثورة الصناعية ونمط الاقتصاد الرأسمالي ، وهي مخرجات أفرزت ظهور الدول القومية ، وأسفرت عن ولادة منظومات متغيرة للعلاقات الدولية تجاوزت الطابع الإمبراطوري التوسعي للدولة الدينية الامبراطورية في العصور السابقة للثورة الصـناعيـة. وبالإضافة إلى ذلك يتجاهل السلفيون أيضًا المتغيرات التي حدثت في الأطر الفكرية للمذاهب الفقهية التي كان الملوك والأباطرة والسلاطين ــ في العالم الإسلامي والعالم المسيحي على وجه التحديد ـــ يستخدمونها لإضفاء الشرعية الدينية عليهم ، مع الأخذ بعين الاعتبار ان المذاهب السنية والشيعية شهدت هي الأخرى تطورًا تاريخيا ً يتجاهله السلفيون من أهل السنة وأهل الشيعة.. ووصل هذا التطور ذروته بظهور انقسامات وتمايزات في أوساط مئات الملايين من أتباع هذه المذاهب الذين توزعوا بين مفاهيم وآليات وأطر حديثة ومتجددة للشورى، وبين أخرى تقليدية وجامدة . يتجلى ذلك التمايز والانقسام من خلال انخراط الغالبية العظمى من شعوب البلدان الإسلامية التي يغلب عليها المذهب السني في بناء نظم سياسية ديمقراطية، يكتسب الحاكم فيها شرعيته بتفويض شعبي عبر صناديق الاقتراع، فيما ينخرط قسم كبير من أتباع المذهب الشيعي في العملية الديمقراطية والإصلاحات السياسية التي تحدث في غالبية البلدان الإسلامية ، وتمنحهم حق المواطنة المتساوية مع غيرهم من أتباع المذاهب الأخرى، باستثناء التجربة الإيرانية التي شهد فيها المذهب الشيعي انتكاسة كبيرة بعد قيام نظام ولاية الفقيه الذي شكل إحياؤه على يد الامام الخميني عام 1979م ضربة كبرى لمبادئ الشورى عند الشيعة منذ ارتباطها بالمرحلة الأولى لظهور المذهب الشيعي بعد مقتل الخليفة الراشد علي بن ابي طالب ، وتأسيس الخلافة الأموية عام 41 هجرية، وهو ما سنتناوله في حلقة خاصة من هذا المقال نستعرض فيها التطور الذي شهده كل من المذهب السني والمذهب الشيعي، ونبرز فيها خطأ الاعتقاد بأن الجماعات السلفية التقليدية سواء من أهل السنة أو أهل الشيعة ، تمثل حصريا الغالبية العظمى من أتباع هذين المذهبين اللذين شهدا تطورًا كبيرًا لا ينسجم مع الدعوة السلفية التقليدية التي تستهدف إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء وإحياء نظام الحاكم بأمر الله، أو الولي الوصي أو الولي الفقيه وغيرها من المسميات الكهنوتية التي تستوجب الطاعة المطلقة لحاكم (رباني ) يبايعه أهل الحل والعقد من أهل السنة أو أهل الشيعة، وتتمركز في يديه سلطات مطلقة ولا محدودة ، بعيدا عن أي تفويض أو رقابة أو محاسبة من الشعب. في هذا السياق يمكن القول إن بلادنا انفتحت منذ قيام الثورة اليمنية (26 سبتمبر ــ 14 اكتوبر) وقيام النظام الجمهوري على متغيرات العصر الحديث، حيث تغير فيها شكل الدولة، ووظائفها والأسس المنظمة للعَلاقة بين مختلف هيئاتها على أساس الفصل بين السلطات والمشاركة الشعبية في إدارة شؤون الحكم. ولا نبالغ حين نقول بأن ثمة مصاعب وتناقضات حادة واجهت عملية بناء الدولة سواء في الشطر الشمالي أو الشطر الجنوبي قبل الوحدة، ما أدى إلى ظهور وتعاقب دورات الصراعات السياسية الداخلية وتعطيل التطور اللاحق للدولة والثـورة ، لكن التاريخ سيسجل للرئيس علي عبدالله صالح دوره الريادي في إعادة بناء البيئة السياسية للدولة في الشطر الشمالي من اليمن سابقا ، وتنشيط مفاعيلها بصورة منهاجية وتراكمية باتجاه التحول نحو الديمقراطية، وصولاً إلى إعادة بناء الدولة في عموم الوطن من خلال دوره القيادي والتاريخي في إعادة تحقيق وحدة الوطن أرضا وشعبا ودولة في الثاني والعشرين من مايو 1990 المجيد، وجهوده المثابرة لبناء نظام سياسي ديمقراطي، يقوم على التعددية الحزبية والتداول السلمي للسلطة ، ويوفر ضمانات دستورية للحريات والحقوق المدنية بما فيها الحق في التعبير عن الرأي والفكر بكل الوسائل السلمية، وحق الأقلية في معارضة البرنامج السياسي للأغلبية بدون محاسبة أو ملاحقة أو تكفير أو تخوين أو ترهيب أو إدعاء بأن من يمتنع عن مبايعة الحاكم، أو يخرج شبرا عن سلطانه يموت ميتة جاهلة بحسب ما يردده قادة الملتقى السلفي العام، وغيرهم من رموز الجماعات السلفية.. وجميعهم ــ بدون استثناء ـــ يمثلون نخبًا تقليدية تتبنى دعوات مذهبية ضيقة ، وأجندات سياسية خارجية ، بهدف إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل الثورة والجمهورية والوحدة والديمقراطية !!. وبالنظر إلى القيمة الوطنية والتاريخية للدور الذي لعبه ولا يزال يلعبه الرئيس علي عبدالله صالح بصفته مناضلاً ثوريًا كرس حياته لخدمة مبادئ وأهداف الثورة اليمنية (26 سبتمبر و14 أكتوبر) والدفاع عنها، سوف أتناول في هذه الحلقة جانبا ًمن إسهامات الرئيس علي عبدالله صالح في إعادة بناء المركز الدستوري لرئيس الدولة على نحو لا يجعل منه فرعونـا باغيا يدعي أنه رب الناس الأعلى، أو سلطانا غشوما ولاه الله على الناس، ويحكم بأمره ويجب على الناس طاعته والصبر عليه وعدم الخروج شبرا ً عنه ، حتى ولو كان عاصيا أو ظالما بحسب ما يدعو إليه قادة التيار السلفي التقليدي في اليمن، فيما سأتناول في حلقة قادمة أخرى جوانب حية ومضيئة من سيرة الرئيس علي عبدالله صالح ، ودوره في بناء الدولة الوطنية الحديثة ذات المضمون الديمقراطي، وهي سيرة وطنية وحدوية لا تعد ملكا شخصيا أو عائليا لعلي عبدالله صالح وأفراد أسرته ، بعد أن أصبحت جزءا أصيلا من التاريخ الوطني الحديث لليمن، ومكسبا وطنيا للشعب اليمني وأجياله اللاحقة. الثابت أن اليمن بشطريه شهد متغيرات دستورية بعد الثورة والاستقلال حالت دون التطور الطبيعي لوظائف سلطة الدولة بفعل التشطير ورواسب الثقافة الإمامية والسلاطينية، وهي ثقافة سياسية تعود جذورها إلى بدايات نشوء الفكر الملكي بشقيه السني والشيعي في التاريخ الاسلامي.. بيد أن التطور الدستوري الذي شهدته اليمن بعد قيام الوحدة تحت قيادة الرئيس علي عبدالله صالح، وضع اليمن في قلب التحولات الحديثة التي شهدتها النظم الدستورية المعاصرة، وأفسح المجال لانتقال سلطة الدولة ووظائفها من نظام ولي الأمر ذي الصلاحيات المطلقة، والعلاقة العمودية التي تستوجب الطاعة المطلقة، إلى نظام ديمقراطي يقوم على العلاقة الأفقية والفصل بين السلطات، ويضع الحاكم تحت سمع وبصر المعارضة والرقابة، الأمر الذي يستوجب مشاركة المجتمع في إدارة شؤون الحكم، واختيار الحكام والهيئات التمثيلية عبر صناديق الاقتراع وليس عبر أهل الحل والعقد،على نحو ما كان سائدا في العصور الوسطى التي خضعت لنمط الإنتاج الإقطاعي الخراجي ، وهو نمط مزيج بين الإقطاع والعبودية. ومما له دلالة لا يفهمها السلفيون أن المركز الدستوري في الجمهورية اليمنية الموحدة لا يجعل من رئيس الدولة وليا للأمر وحاكمًا بأمر الله ، يتمتع بصلاحيات مطلقة في مختلف الجوانب التنفيذية والتشريعية والقضائية. فالدستور اليمني يحدد الاختصاصات التنفيذية لرئيس الدولة بكل وضوح ، وأهمها حقه في تكليف رئيس الوزراء ــ من الحزب الذي يحصل على أغلبية أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية ــ بتشكيل الحكومة ،وإصدار قرار بتعيينها،ودعوة مجلس الوزراء لاجتماع مشترك مع رئيس الدولة كلما دعت الحاجة إلى ذلك، فضلا عن حق رئيس الدولة في طلب تقارير من رئيس الوزراء تتعلق بالمهام الواجب تنفيذها من قبل مجلس الوزراء، وصولاً إلى الحق في إصدار قرارات جمهورية بتعيين وعزل كبار موظفي الدولة في المؤسسات المدنية والعسكرية طبقـا للقوانين التي تنظم الوظائف العامة ، بحيث لا يخضع التعيين لأهواء السلطة التنفيذية . فيما يعطي الدستور رئيس الوزراء حق إصدار قرارات وزارية طبقـا لقواعد التوظيف في الخدمة المدنية والعسكرية. كما يتمتع رئيس الجمهورية بصلاحيات إصدار قرارات جمهورية بالعفو الكلي أو الجزئي عن العقوبات أو توقيع عقوبات أخف من العقوبات المحكوم بها، بناء على مقترح من وزير العدل بعد صدور الحكم القضائي البات، وذلك وفقا لقانون الإجراءات الجزائية . والمعروف أن رئيس الدولة في اليمن لا يرأس مجلس القضاء الأعلى منذ الانتخابات الرئاسية لعام 2006 مما أفسح المجال لتعزيز الفصل بين السلطات واستقلال السلطة القضائية. وفي الجانب التشريعي لا يتمتع رئيس الدولة دستوريا ً بحق اقتراح القوانين ، وهو ما يراه المشرعون الدستوريون ركنا أساسيا في التشريع، حيث يعد الاقتراح بمثابة المقدمة الأساسية للقانون والخطوة الأولى في العملية التشريعية. وقد جاءت التعديلات الدستورية التي حدثت في عام 1994م لتعطي حق اقتراح القوانين واقتراح تعديلها لكل من الحكومة وأعضاء مجلس النواب فقط. في هذا السياق لا يعطي الدستور لرئيس الدولة حق الاعتراض على القوانين التي تقرها السلطة التشريعية بعد اكتمال تقديمها من الحكومة وبالتالي عرقلة أو منع تنفيذها، حيث يكتفي الدستور بإعطاء الرئيس حق إعادة القانون مرة واحدة فقط إلى السلطة التشريعية المنتخبة خلال مدة زمنية محددة، موضحا أسباب تحفظه على القانون . فإذا أصرت السلطة التشريعية على موقفها من القانون وجب على رئيس الجمهورية إصدار القانون بقرار جمهوري أو أصبح نافذا بعد ثلاثين يوما من إقراره من قبل مجلس النواب.. بمعنى أن اعتراض رئيس الدولة نسبي وليس مطلقـا، فلا يجوز للرئيس الاعتراض المطلق على القوانين التي يقرها مجلس النواب لتعارض ذلك مع مبدأ سيادة الأمة الذي يعطي الشعب دورا أساسيا في إصدار تشريعات تخدم مصالحه الحيوية عبر ممثليه المنتخبين الذين حصلوا على تفويض بذلك بواسطة صناديق الاقتراع. ثمة حقيقة أخرى لا يفهمها السلفيون أو أنهم لا يعترفون بها، وهي أن المركز الدستوري لرئيس الجمهوري ينطلق من الدستور الذي يقر بأن الشعب هو مالك السلطة ومصدرها، وأن الرئيس يمارس مهامه بتفويض من الشعب عبر صناديق الاقتراع، وليس عبر نظام الحكم الإلهي الذي يزعم رجال الدين الكهنوتيين فيه (أن الرئيس ولاه الله على الناس ، ويجب عليهم طاعته والصبر عليه حتى ولو كان عاصيا أو ظالما يجلد ظهورهم وينتهك حقوقهم). بحسب مزاعم السلفيين . لا يستطيع رئيس الجمهورية اليمنية الذي يحكم بتفويض من الشعب تجاوز مصدر شرعيته التي حصل عليها عبر صناديق الاقتراع . لأن الدستور يلزمه بضرورة اللجوء إلى الشعب بواسطة الاستفتاء، لأخذ رأيه في موضوع عام سواء بالموافقة أو الرفض، حيث يعتبر الاستفتاء والانتخاب أداتين دستوريتين للتعبير عن إرادة وسيادة الشعب . وقد أعطى الدستور لرئيس الجمهورية في بلادنا حق الدعوة إلى الاستفتاء بإجراء تعديلات دستورية، ولكنه لم يترك يده مطلقة ، بل قيدها باشتراط موافقة مجلس النواب على الاستفتاء.. وبالإضافة إلى ذلك يشترط قانون الانتخابات العامة موافقة الأغلبية المطلقة ممن أدلوا بأصواتهم في موضوع الاستفتاء المراد أخذ رأي الشعب فيه. وفي الاتجاه نفسه يشترط الدستور وجوب موافقة مجلس النواب على المعاهدات المتعلقة بالدفاع والصلح والسلم والتحالف وتعديل الحدود، ويجسد هذا الشرط الدستوري حق الشعب من خلاله ممثليه المنتخبين في مراعاة عدم تأثير هذه المعاهدات والاتفاقيات التي يبرمها رئيس الجمهورية على مصالح الشعب والوطن. ربما يدرك السلفيون جيدًا أن مشروعهم الانقلابي الذي يستهدف إعادة الأوضاع إلى ما قبل النظام الجمهوري وإعادة نظام الحكم الإلهي يصطدم بالدستور، وهو ما يفسر مواقف عدائية واضحة للدستور وردت على لسان كل من (الشيخ) عبدالعزيز الدبعي و(الشيخ) محمد المهدي، على نحو ما ستناوله في إحدى الحلقات القادمة بالتفصيل . لكن السلفيين يصرون على تسويق مفهوم الطاعة المطلقة لولي الأمر، بصفته حاكما ولاه الله، ويتوجب على الناس طاعته والصبر عليه ( حتى لو كان عاصيا وظالما ومستبدا ينتهك حقوقهم ويجلد ظهورهم )، ولا شك في أن هجومهم المستمر على الدستور ينطلق من حقيقة أن الدستور في بلادنا يشترط الانتخاب الحر والمباشر من الشعب لمن يشغل منصب رئيس الدولة عبر صناديق الاقتراع على أساس التنافس والتعدد بين أكثر من مرشح، وتحديد مدة الرئاسة لفترتين رئاسيتين تجسيدًا لمبدأ التداول السلمي للسلطة بتفويض حر ومباشر من الشعب، لا على أساس الشوكة والغلبة بالقوة. حيث يحرص السلفيون على تلقين تلاميذهم المبدأ القائل : (( من قويت شوكته وجبت طاعته وعدم معارضته مدى الحياة والاكتفاء بمناصحته سرا )) . وسوف نثبت بالدليل في حلقة قادمة أن من قال هذا الكلام ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يزعم السلفيون بأنهم يسيرون على (سُنـّــته) بل أحد القادة العسكريين الأمويين ، وهو زياد بن أبيه الذي ألقى أمام أهل البصرة ـــ عندما عينه الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان واليا على العراق عام 41 هـجرية ـــ خطبة أجمع مشاهير المؤرخين على وصفها بخطبة البتراء، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الطبري وبن الأثير وابن سعد وبن كثير وبن عبدربه وبن خلدون. وقد تلقف هذه الخطبة بعض المؤسسين الأوائل لمذهب أهل السنة والجماعة من الفقهاء والقـُصّاص والوضاعين الذين نشرهم معاوية بن أبي سفيان في المساجد ، وقاموا بالتنظير لمضمون وأهداف تلك الخطبة الشهيرة من خلال وضع حديث نسبوه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، بهدف إجبار الناس على (وجوب مبايعة الحاكم بأمر الله ، والخضوع له والصبر على بغيه وبطشه وظلمه وجبروته، وعدم الخروج شبرا عن سلطانه ، والامتناع عن معارضته والاكتفاء بمناصحته سرا فقط ) بحسب ما جاء في خطبة القائد العسكري الأموي زياد بن ابيه أمام أهل البصرة . وسوف نتناول هذه الخطبة وغيرها من الأطر النظرية لفقه الاستبداد بتوسع أكبر ، في حلقة قادمة سنكرسها لتأمل المسار التاريخي النظري للمذاهب التي كرست الصفة الدينية لنظم الحكم الملكية الوراثية ، انطلاقـا من التعاليم الإسرائيلية التلمودية ، وصولا الى تأثيرها اللاحق على كل من اللاهوت الملكي المسيحي بشقيه الكاثوليكي والأرثوذكسي، والفقه الملكي الإسلامي بشقيه السني والشيعي. اللافت للنظر أن الخطاب السلفي العام لا يتردد في الكشف عن الأبعاد الانقلابية للنشاط الدعوي الذي يزعم السلفيون من خلاله بأنهم يتفرغون للدعوة وتعليم العلوم ( الشرعية ) في أوساط الناس.. ومن أبرز هذه الأبعاد دعوتهم الباطنية للانقلاب على الدستور من خلال تسويق فكرة الطاعة المطلقة لولي الأمر بالترابط الوثيق مع تسويق أحاديث أفتراها القصاص والوضاعون من فقهاء الحكام والسلاطين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول بوجوب عدم معارضة أو مساءلة أو محاسبة الحاكم على ما يفعل. والمثير للدهشة أن السلفيين يحاولون دس أنوفهم في المشهد السياسي العام من خلال الإصرار على إظهار منصب ر ئيس الدولة في صورة الحاكم الذي لا يجوز معارضته أو مساءلته أو محاسبته على الأفعال ذات المسؤولية الجنائية إن كانت صادرة عنه. وما من شك في أن إظهار الرئيس بهذه الصورة لا ينطوي فقط على محاولة للانقلاب على المركز الدستوري لرئيس الجمهورية، بل ينطوي أيضا على محاولة بائسة لتجريد الرئيس من الإنجازات التي تحققت على يديه في مجال التطور الدستوري للدولة الوطنية الموحدة التي ارتبط ظهورها وتطورها بالمشروع الوطني الديمقراطي الوحدوي للرئيس علي عبدالله صالح شخصيًا، بما هو ابن بار للثورة اليمنية كرس حياته لبناء الدولة الوطنية الموحدة الحديثة ، وتطوير نظامها الجمهوري الذي أقامته الثورة اليمنية ( 26 سبتمبر ــ 14 اكتوبر ) على أنقاض النظام الإمامي الاستبدادي ونظام الحكم الاستعماري الانجلو سلاطيني. من حق الرئيس علي عبدالله صالح أن يفخر بأن دستور الجمهورية اليمنية يضاهي أرقى الدساتير الديمقراطية العصرية للبلدان المتطورة في تحديد إجراءات مساءلة ومحاكمة رئيس الدولة على أفعاله الجنائية.. حيث يحاسب الدستور في المادة (126) رئيس الجمهورية على أفعاله الجنائية بصفته مواطنـًا يخضع لقانون العقوبات والقوانين الأخرى شأنه في ذلك شأن بقية المواطنين.. وبالإضافة إلى ذلك فإن الدستور لا يعفي رئيس الجمهورية من المساءلة والمحاسبة عن الأفعال التي تندرج ضمن الجرائم السياسية الكبيرة وهي الخيانة العظمى وخرق الدستور والمساس باستقلال وسيادة البلاد . وقد أعطى دستور الجمهورية اليمنية مجلس النواب المنتخب سلطة توجيه الاتهام لرئيس الدولة في حال ارتكابه إحدى الجرائم الثلاث التي أوضح الدستور تفاصيل كل واحدة منها، ولا يسمح هذا الحيز بعرضها . وبوسع القارئ العودة إلى قراءة الدستور لمعرفة تفاصيل هذه الجرائم ، حيث يجوز توجيه الاتهام لرئيس الجمهورية بارتكاب إحدى تلك الجرائم الكبرى بناءً على طلب من نصف عدد أعضاء مجلس النواب مشفوعا بأدلة الاتهام، ويشترط الدستور ألا يصدر قرار الاتهام بدون موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب المنتخب بعد دراسة الاتهام والأدلة من قبل لجنة خاصة مؤقتة تتكون من خمسة أعضاء من ذوي التخصصات من بين أعضائه عن طريق الاقتراع السري المباشر إلى جانب لجنة الشؤون الدستورية والقانونية. وفي حالة صدور قرار الاتهام بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب يتم إحالة القضية مباشرة إلى المحكمة العليا ، وإبلاغ رئيس الدولة عن طريق النائب العام بالمثول أمام المحكمة العليا خلال أسبوع من تاريخ تسلمه البلاغ ، على أن يتوقف عن مزاولة مهامه كرئيس للجمهورية أو أي عمل رسمي منوط به ، حيث تحال هذه المهام إلى نائبه خلال مدة لا تتجاوز ستين يوما، فإذا صدر الحكم بالإدانة يجب إجراء انتخابات رئاسية لانتخاب خلف للرئيس، أما في حالة توجيه الاتهام للرئيس ونائبه معا، فإن مهامهما تحال مؤقتـا إلى هيئة رئاسة مجلس النواب خلال مدة لا تزيد عن 60 يوما. تأسيساً على ذلك نزعم بأنّ الدولة ليست بنية مستقلة عن منظومتها السياسية، ولا نعتقد بأنّ الدولة لا تضطلع بدور وظيفي في مجال الممارسة السياسية.. أما وظيفة رئيس الدولة فهي تتحدد بطبيعة النظام السياسي للدولة التي يرأسها، والأساس الدستوري لهذا النظام السياسي. ولئن كان القاسم المشترك بين الخطاب السياسي السلفي و الخطاب السياسي لأحزاب ( اللقاء المشترك ) يتمحور حول تجويف أو فرعنة منصب رئيس الدولة ، فإن جذور هذه الفكرة تعود إلى الثقافة الإقطاعية . فالدولة في النظام الإقطاعي تختلف عن الدولة الحديثة التي ارتبط نشوؤها بظهور الثورة الصناعية وولادة الدولة الوطنية ، والانتقال الى علاقات الانتاج الرأسمالية واقتصاد السوق ، وصولا إلى النظام العالمي الجامع للدول القومية على نحو ماهو سائد اليوم في عالمنا الواقعي الذي تنتمي اليه الجمهورية اليمنية ولا يعترف به السلفيون . وهو ما سنوضحه في الحلقة القادمة من هذا المقال بإذن الله .. |