حديث القرآن عن نعمة الأمان(11) لم يكتف القرآن الكريم ببيان أن حالة النعاس التي ساقها الله ـ تعالي ـ للمؤمنين في غزوة بدر كانت من أجل تثبيتهم وغرس فضيلة الأمن والطمأنينة في قلوبهم. بل نراه في موضع ثامن يسوق هذه الحالة ـ أيضا ـ في غزوة أحــد, بعد أن أصابهم ما أصابهم من بلاء وهم ونصب فيقول ـ سبحانه ـ:( ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشي طائفة منكم, وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية...) آل عمران154. وهذه الاية الكريمة قد جاءت بعد حديث طويل عن أحداث غزوة أحد, وكيف أن المؤمنين قد انتصروا علي أعدائهم في أول المعركة, ثم بعد ذلك أصيبوا بالهزيمة, بسبب أن بعضهم ـ وهم الرماة ـ قد خالفوا ـ وصية رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ الذي قال لهم: كونوا في أماكنكم لتحموا ظهورنا, ولاتبرحوا أماكنكم...., ولكن الرماة عندما رأوا بعض المشركين يولون الأدبار, تركوا أماكنهم ونزلوا إلي ساحة المعركة ليجمعوا الغنائم فالتف بعض المشركين علي المسلمين من الخلف فكان ما كان من اضطراب المسلمين واستشهاد ما يقرب من سبعين منهم, ولقد أشار القرآن الكريم إلي ذلك في قوله ـ عز وجل ـ( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه أي تقتلون أعداءكم قتلا شديدا ـ حتي إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ماتحبون...) آل عمران152. أي: والله لقد صدقكم الله وعده في النصر ـ أيها المؤمنون ـ عندما كنتم تقاتلون أعداءكم بايمان صادق حتي إذا ضعفت نفوسكم, وتنازعتم في أمر جمع الغنائم, من بعد ما أراكم الله ـ تعالي ـ النصر في أول المعركة... حتي إذا فعلتم ذلك أصابكم ما أصابكم, حيث منع الله عنكم نصره, وتحول نصركم إلي هزيمة, وفقدتم ما جمعتموه من غنائم. ثم ذكر ـ سبحانه ـ عباده المؤمنين الصادقين ببعض مظاهر لطفه بهم, ورحمته لهم, حيث أنزل علي طائفة منهم النعاس الذي أدخل الطمأنينة علي قلوبهم, وأزال الخوف والفزع من نفوسهم فقال:( ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشي طائفة منكم...). والمقصود بالنعاس هنا ـ كما سبق أن أشرنا ـ: الفتور الذي يكون في أول النوم, الذي من شأنه أن يزيل عن الإنسان بعض متاعبه, ولايغيب صاحبه عن الإدراك, فلذلك كان أمنة لهم, لأنه لو كان نوما ثقيلا لهاجمهم المشركون. والمعني: ثم أنزل الله عليكم ـ أيها المؤمنون ـ بعد أن أصابكم من الهم والغم ما أصابكم, أمانا واطمئنانا كان من مظاهره نعاس اطمأنت معه نفوسكم, واستراحت معه أبدانكم من غير فزع ولا قلق ولا خوف, وكان هذا الأمان والاطمئنان لطائفة معينة منكم, أخلصت جهادها لله, وخافت مقام ربها, ونهت أنفسها عن الطمع والهوي.. أما غيرها فلم ينزل عليهم هذا النعاس, بل بقوا في خوفهم وفزعم لأنهم لم يكونوا صادقين في إيمانهم, بل كانوا لا يهمهم إلا أمر أنفسهم, وما يتعلق بذلك من الحصول علي الغنائم, وعلي شهوات الدنيا, شأنهم في ذلك شأن أهل الجاهلية الذين فسقوا عن أمر خالقهم. ونري القرآن الكريم في موضع تاسع يبين لكل ذي عقل سليم, أن أداء العبادات التي كلفنا الله بها في أمان واطمئنان دون خوف أو فزغ.. هذا الأداء للعبادات في أمن وسكينة يعد نعمة تستحق الشكر الجزيل للخالق ـ عز وجل ـ حيث يسر ـ سبحانه ـ لعباده المؤمنين أداء ما كلفهم به بعد أن مكن لهم في الأرض, وبعد أن نصرهم علي أعدائهم.. وقد جاءت الإشارة إلي ذلك في قوله ـ سبحانه ـ:( وأتموا الحج والعمرة لله, فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولاتحلقوا رءوسكم حتي يبلغ الهدي محله, فمن كان منكم مريضا أو به أذي من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك, فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلي الحج فما استيسر من الهدي, فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة......) البقرة196. وقد جاءت هذه الآية الكريمة بعد حديث متنوع عن القتال وآدابه وأحكامه, وعن ألوان من الأذي والعدوان الذي وقع علي المؤمنين من أعدائهم المشركين... ومن ذلك قوله ـ سبحانه ـ:( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولاتعتدوا إن الله لا يحب المعتدين واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل...) البقرة190 و191. ومعني الآية الكريمة بايجاز: أتموا ـ أيها المؤمنون ـ الحج والعمرة باخلاص واتقان, فإن منعكم مانع عن اتمامها كتعرض المشركين لكم بعد احرامكم بهما, فالواجب عليكم في هذه الحالة ذبح ما تيسر لكم من الابل أو البقر أو الغنم تقربا إلي الله ـ تعالي ـ لكي تخرجوا من احرامكم بعد حلق شعر الرأس أو تقصيره. ولاتحلقوا رءوسكم إذا كنتم محصرين حتي ينحر المحصر هديه في الموضع الذي حصر فيه, كما فعل النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ حين منعه المشركون من دخول مكة, فقد نحر هديه في الحديبية ثم تحلل من احرامه. فمن كان منكم ـ أيها المحرمون ـ مريضا بمرض أو به أذي من رأسه يحتاج معه إلي الحلق وهو محرم, فعليه أن يحلق, وفي هذه الحالة عليه فدية: بأن يصوم ثلاثة أيام أو يتصدق علي ستة مساكين أو يذبح شاة ويتصدق بلحمها علي المحتاجين, فإذا ما شعرتم ـ أيها المؤمنون ـ بالأمن والعافية, وزال كل خوف من عدوكم, وأديتم مناسك العمرة في أمان واطمئنان وتحللتم منها, وأردتم البقاء علي تحللكم إلي أن تؤدوا فريضة الحج, فعليكم في هذه الحالة أن تذبحوا ماتيسر لكم من الهدي من غنم أو بقر أو إبل, شكرا لله ـ تعالي ـ علي ما منحكم من نعم من أهمها: نعمة الأمن وأداء ما كلفكم به.. فمن لم يجد هديا يذبحه فعليه صيام ثلاثة أيام في أوقات أدائكم لمناسك الحج, وسبعة أيام بعد فراغكم من مناسك الحج, وبعد رجوعكم إلي أهلكم, تلك عشرة أيام كاملة عليكم أن تصوموها تقربا إلي الله ـ تعالي ـ وشكرا له ـ سبحانه ـ علي نعمه التي لاتحصي, التي من أعظمها نعمة الأمن والاطمئنان. وشبيه بهذه الاية الكريمة في وجوب شكر الله ـ تعالي ـ علي نعمه التي من أهمها نعمة الأمان, قوله ـ تعالي:( حافظوا علي الصلوات والصلاة الوسطي وقوموا لله قانتين. فإن خفتم فرجالا أو ركبانا, فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) البقرة238 و239. والمعني: حافظوا ـ أيها المؤمنون ـ محافظة تامة علي أداء الصلاة في أوقاتها بخشوع واخلاص واتقان, وحافظوا بصفة خاصة علي أداء الصلاة الوسطي ـ التي هي علي الارجح صلاة العصر ـ لما لها من منزلة سامية, ومن مكانة عالية, وقوموا في الصلاة قانتين أي: مطيعين لخالقكم, مؤدين لما كلفكم به من عبادات أداء كاملا في خشوع واطمئنان. فإن كان بكم خوف من أعدائكم في حال قتالكم لهم أو كان بكم خوف لأي سبب آخر,( فرجالا أو ركبانا) أي: فأدوا الصلاة وأنتم تمشون علي أرجلكم, أو وأنتم راكبون علي دوابكم أو علي غيرها, لأن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام, وتجب المحافظة عليها في حالات الأمن والخوف, والصحة والمرض, والسفر والإقامة... فإذا مازال خوفكم وصرتم آمنين مطمئنين فأكثروا من ذكر الله ـ تعالي ـ ومن شكره علي هذه النعمة الجليلة, وقوموا بأداء ما كلفكم خالقكم به, بالطريقة التي علمكم إياها رسولنا محمد ـ صلي الله عليه وسلم ـ فهو ـ صلي الله عليه وسلم ـ قد علمكم بأمر خالقه ما كنتم تجهلونه من عقائد ومن آداب ومن غير ذلك من أحكام. ففي هاتين الآيتين الكريمتين إشارة واضحة إلي أن نعمة الأمن علي رأس النعم التي تستحق من كل عاقل مداومة الاكثار من ذكر الله ـ تعالي ـ ومن شكره. فإذا ما اتجهنا إلي الاحاديث النبوية الشريفة, التي تمثل أقوال النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ وأفعاله وتقريراته, وجدناها زاخرة بالتوجيهات السامية, والإرشادات القويمة التي تدعو كل مسلم ومسلمة إلي نشر كل ما يتعلق بتثبيت نعمة الأمن في الافراد وفي الجماعات وفي الاوطان وفي كل مكان. لقد بين لنا ـ صلي الله عليه وسلم ـ أن هذه النعمة متي حازها الإنسان كان كمن حاز شيئا نفيسا لايقدر بمال, فقال ـ صلي الله عليه وسلم ـ من أصبح آمنا في سربه ـ أي: من أصبح آمنا في نفسه وفي أهله وماله ومسكنه وطريقه, وعنده العافية في بدنه, وعنده قوت يومه, فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها أي: فكأنما قد ملك الدنيا بمشتملاتها وخيراتها. وبلغ من حرصه ـ صلي الله عليه وسلم ـ علي نشر نعمة الأمن بين الناس, أنه نهي المسلم أن يشير إلي أخيه بالسلاح, سواء أكانت تلك الإشارة علي سبيل الجد أو الهزل.. ففي الصحيحين ـ البخاري ومسلم ـ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أنه قال: لايشر أحدكم إلي أخيه بالسلاح فإنه لايدري لعل الشيطان ينزع في يده ـ أي: يوسوس له بالشر ـ فيقع في حفرة من النار. وفي رواية للإمام مسلم عن أبي هريرة ـ أيضا ـ أنه قال, قال أبوالقاسم ـ صلي الله عليه وسلم ـ من أشار إلي أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتي ينزع, وإن كان أخاه لأبيه وأمه. بل إنه ـ صلي الله عليه وسلم ـ نهي أتباعه وهم في غير حالة الحرب أن يحملوا سيوفهم وهي مشهرة دون أن تكون في أغمادها, خشية أن يمدوها بالأذي لغيرهم. ففي سنن أبي داود والترمذي ـ رحمهما الله ـ عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: نهي رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أن يتعاطي السيف مسلولا. وقد أباح ـ صلي الله عليه وسلم ـ لاتباعه من الرجال والنساء أن يعطوا الأمن لسواهم متي كان أهلا لهذا الأمن حتي ولو كان علي غير دينهم. ففي البخاري عن أم هانئ بنت أبي طالب ـ رضي الله عنها ـ قالت: قلت يارسول الله زعم ابن أمي علي, انه قاتل رجلا قد أجرته وهو فلان بن هبيرة!! فقال لها ـ صلي الله عليه وسلم ـ: قد أجرنا من أجرت ياأم هانئ. قال صاحب التاج الجامع للأصول في احاديث الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ ج4 ص401: فأم هانئ واسمها فاخنة شقيقة علي ـ رضي الله عنهما ـ أمنت رجلا اسمه جعدة ابن زوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي, فأراد علي أن يقتله, فأخبرت النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ بهذا فقال: قد أجرنا من أجرت ياأم هانئ أي: قد أمنا من أمنت يا أم هانئ. وفي رواية لأبي داود والترمذي أنها قالت: أجرت رجلين من أحمائي ـ أي: من أقارب زوجي ـ فقال ـ صلي الله عليه وسلم ـ قد أمنا من أمنت. وجاء في صحيح البخاري وفي سنن الترمذي عن علي بن أبي طالب راضي الله عنه ـ عن البني ـ صلي الله عليه وسلم ـ أنه قال: ذمة المسلمين واحدة, يسعي بها أدناهم وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل, قال ـ صلي الله عليه وسلم ـ المسلمون تتكافأ دماؤهم, وهم يد علي من سواهم, ويسعي بذمتهم أدناهم, وبلغ من حرصه ـ صلي الله عليه وسلم ـ علي نشر الأمان بين الناس أنه لم يأذن بقتل من حمل إليه رسالةمن أعدائه, حتي ولو كان الحامل لهذه الرسالة مؤيدا لهؤلاء الاعداء. ففي سنن أبي داود عن نعيم بن مسعود الاشجعي قال: سمعت رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ يقول لمن أرسلهما مسيلمة الكذاب بكتاب إلي رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ سمعته يقول لهما بعد أن قرأ الكتاب: ماتقولان أنتما في مسيلمة الكذاب؟ فقالا نقول كما قال, فقال ـ صلي الله عليه وسلم ـ: أما والله لولا أن الرسل لاتقتل لضربت أعناقكما. ولقد كان ـ صلي الله عليه وسلم ـ يكثر من التضرع إلي الله تعالي ـ أن يديم علي أمته نعمة السلام والأمان والاطمئنان, ففي صحيح مسلم عن ثوبان ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ إذا ما انتهي من صلاته استغفر ثلاثا, وقال: اللهم أنت السلام, ومنك السلام ـ أي: الأمان ـ تباركت ياذا الجلال والاكرام. وعن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: قلت للنبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ: يارسول الله, لو رأيت ليلة القدر ماذا أقول؟ فقال لها ـ صلي الله عليه وسلم ـ قولي ياعائشة اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا. ونحن نقول: اللهم أدم علينا جميعا نعمة السلام, ونعمة الأمان, ونعمة الاطمئنان, ونعمة الرخاء, ونعمة العفو والعافية, إنك ـ ياربنا ـ علي ما تشاء قدير, نعم المولي ونعم النصير. نقلاً الاهرام |