مسئولياتنا الوطنية ليس هناك ما هو أشد بلاءً من جهل الشعوب سوى جهالة نخبها السياسية والثقافية والمدنية، لأن الأول يصنع شقاء المجتمع، فيما الثاني يصنع هلاك الدولة وفئاتها، إذ أن قصور وعي النخب بعني افتقار الدولة لأدوات التخطيط والنهوض، ولوسائل استشعار الحاجات والمسئوليات والأخطاء.. وبالتالي فهو يعني غياب مقومات نشوء الدولة . فمن المفاهيم الخاطئة والمتداولة في مجتمعنا اليمني هو أن الدولة تعني الرئيس وأعضاء مجلس الوزراء، والحزب الحاكم، وما دونها لا يندرج تحت عنوان ( الدولة).. لذلك نجد قوى المجتمع تحمل تلك الجهات مسئولية وتبعات كل ما يحدث داخل حدود اليمن، حتى لو كان مخالفة وظيفية، أو ظاهرة اجتماعية، أو سلوكاً شاذاً من قبل فرد أو مجموعة.. والسؤال الذي يجب طرحه هنا هو: ماهي إذاً مسئولية الفرد، الأحزاب، والمنظمات، أو الهيئات النقابية والثقافية والدينية والتعليمية، وغيرها من مكونات المجتمع؟! إن تنصل نخب المجتمع عن أدوارها ومسئولياتها والقذف بها على عاتق الدولة قد يخلق ثقافة زائفة في أوساط المجتمع تصب غضبها وتذمرها على السلطة، إلا أنها في حقيقة أمرها تكون قد أوجدت تجويفاً خطيراً في البناء العام للدولة، ما يلبث أن يتسع بمرور الوقت، ويفضي إلى انهيار كلي للبلد، أو يتسبب في مشكلات وأزمات معقدة . وعلى سبيل المثال، عندما تتعطل وظيفة المسجد الإيمانية والتهذيبية، أو تنحرف عن مسارها السليم، فإن ذلك الخلل سيقودنا إلى ظاهرة إرهابية تطوق الجميع أو ظاهرة لا أخلاقية في سلوكيات الشباب تنعكس آثارها على مسارات التعايش الاجتماعي، والحال نفسه يمكن قياسه على غياب دور مؤسسات التنوير الفكري والثقافي، وعلى غياب دور القوى السياسية في التوعية الديمقراطية، وغرس مفاهيم الولاء والهوية الوطنية.. وفي النهاية نكتشف أن الضرر عام وليس مختصاً بالنظام السياسي للدولة أو الجهاز الحكومي. فالتضليل الذي تمارسه بعض القوى السياسية أو المدنية في المجتمع من خلال اختزال مفهوم الدولة ببضع عشرات الأشخاص الذين يتولون مسئوليات سلطوية إنما هروب من الواجبات الملقاة على عاتقهم، وإمعانً في تجهيل المجتمع والنأي به عن فهم مشكلاته، ومحاولة إيجاد الحلول لها، أو الإسهام في الملامح المستقبلية لحياته.. فالدولة تتألف من أجهزة ومؤسسات إدارية حتى على مستوى القرية، وأن ملايين الكوادر الوظيفية العاملة في تلك المؤسسات هم يمثلون أبناء الشعب اليمني بمختلف أطيافه وإنتماءاته وتوجهاته الفكرية.. وإذا ما أردنا التحدث عن فساد وظيفي مستشري فإننا قبل الخوض بلوائح العمل علينا أن نبحث في المسائل العقائدية الإيمانية، ونتساءل: لماذا تتفشى الرشوة وهي محرمة في ديننا الحنيف؟ ولماذا يتفشى التزوير، والغش، والثأر، والمخدرات، والسرقات، وهي كلها محرمة في عقيدتنا الإسلامية ؟! عندما نتداول مشاكلنا بمنطق عقلاني مسئول نستطيع الإلمام بجوانب المشكلة كاملة، ونحدد مسئوليات، معالجتها، أما عندما تتعمد النخب حجب الجزء الأكبر من الحقيقة، أو تقرأ الأمور بجهالة فإنها حتماً تنخر جسم الوطن، وتقوده إلى مشاكل معقدة، ربما لأنها مستفيدة من بقاء تلك المشاكل، وترهن مصيرها بها، لذلك تجتهد في ترسيخ ثقافة مغلوطة في المجتمع تبعده من خلالها عن آفاق الحلول الجذرية التي بمقدورها إنهاء معاناته . لاشك أن التحديات التي نواجهها اليوم لا تحتمل المزايدات والمراهنات، والمماحكات، ولا يمكن أيضاً مواصلة التنكر لمسئولياتنا الوطنية إزاءها، والتمادي في إدعائنا بأنها واجب الدولة وحدها، ونتجاهل حقيقة أن الجنود وأفراد الأمن الذين يتصدون لمثيري الفتن هم أبنائنا، ومن أرحامنا، أو جيراننا.. أو نتجاهل أن الفتيان والشباب المغرر بهم هم أيضاً أبنائنا، وواجب المسلم "أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" بما يحملنا جميعاً مسئولية هدايتهم وتصحيح أفكارهم بدلاً من تركهم حطباً لنيران الفتن . إن من يعتقد أن التعتيم على الحقائق، وتضليل وعي المجتمع، والتبرير للأخطاء والحماقات قد يقتصر ضرره على جهة بعينها فإنه غارق في أوهامه، لأن شعبنا كله تضرر معيشياً جراء الإرهاب، والفتن والممارسات الفوضوية.. ولأن بعض التعبئة لايمكن تذويبها بمجرد إبرام صفقة سياسية، أو تغيير حكم، خاصة تلك التي تتخذ طابعاً عقائدياً.. وبالتالي فإنها تصبح السرطان الذي يقض المضاجع جيلاً بعد جيل . لعل الفرصة اليوم مواتية للجميع لتحرير إرادتهم الوطنية من النهج المغلوط، وإعادة قراءة الأحداث بعين الوطن والمصير الواحد، واستنفار الطاقات من أجل إعادة الاستقرار وتعزيز التلاحم الوطني الذي يمثل منطلق كل الرهانات، وضمانة السيادة الوطنية لكل أبناء اليمن . *عضو اللجنة العامة - رئيس معهد الميثاق |