قطوف امـرأة

المؤتمرنت - تكتبها : آلاء الصفــار -
انتبهــي .. فأنـتِ مُراقَبَــة !

أرخى الليل سدوله ومضى شطره الأول ولا زلت أتململ على فراش نومي الوثير بعد يوم عمل شاق.. وفجأة خطر هاجسٌ في داخلي وشدني صوتٌ من أعماقي.. انتبه فأنت مراقب!! أفزعني من وضوح الصوت وأقض مضجعي توالي الأفكار وتحيرت في أمري.. حاولت أن أمسك خيوط النوم الواهية وتقلبت على جنبي الآخر فإذا بالهواجس والخواطر تتوالى وإذا بحديث القلب يسري في ليل مُظلم.. أنت مراقبة!!
استرجعت شريط يومي كاملاً وتأملت أمسي فإذا بي لم أقم بأي نشاطٍ يوحي بالريبة والشك ولست صاحبة توجه تطاله العيون.. قرأت صحيفتي ذلك اليوم بدقة وتأملتها بعناية.. فإذا بها جلسة مع الزوج.. ثم مع نسوة من الجيران في زيارة لا دخل لها لا من قريب ولا بعيد بأمور تدعو أن أوضع تحت المراقبة!! أعدت صفحات عام مضى فإذا بي من قائمة رعاع الناس ، لا ناقة لي ولا جمل.. همي كله منصرف نحو حياتي وتدبير شئوني والبحث عن لقمة عيشي!! قلَّبت صفحات الماضي ، سنوات مضت حتى وصلت إلى مرحلة الدراسة الجامعية، وساورني بعض الشك : ربما قلت ، وربما تحدثت..
طال ليلي وسريت مع رحلة عمر طويلة غالبت فيها النوم وغلبني الأرق حتى انتهى الصراع قبيل الفجر فنمت نومة المضطربة، وأخذت الأحلام تتوالى على مخيلتي فإذا بي مقيدة في غرفة موحشة تحت التحقيق... ونال جسمي بعض الأثر وصحوت فزعةً على صوت الجلاد.. اعترفي ! رميت بردائي وقفزت من فراشي ووقفت على قدمي.. تحسست جسمي وتأملت المكان!! فإذا بي في غرفتي ويداي طليقتان ولا أثر للسلاسل والأغلال!! أنصت ، استمع فإذا الهدوء يلف المكان بضوء خافت يدعو إلى النوم ، ولكن الهاجس صاحبني إلى الصباح!! أنتِ مراقبة!
استيقظت على عجل وانطلقت بسيارة أجرة بين مئات من الطوابير المتجهة إلى أعمالهم.. وعندما استوقفتنا إشارة المرور الحمراء ، تأملت ألوانها فإذا بها تومئ إليَّ بصلف وغرور ونظرة غريبة.. انتبهي لمن خلفك وانظري من على يمينك.. تأملت.. سيارات من أنواع شتى ولكن أحدهم اعتدل في جلسته عندما رآني.. وإذا بالهاتف في داخلي ينبهني.. انتبهي إنه هو.. فأنتِ مراقبة !
دلفت إلى مكتبي وسلمت على الزميلات ، وارتفعت أصواتهن على غير العادة.. أما سمعت الأغنية الفلانية ، إنها رائعة وذات جمال في اللحن وعذوبة في الصوت!! وكان ردي باهتاً.. ثم عرجت إحداهن على إذاعة خارجية ، فإذا بي افتح فمي مدهوشة وهي تسألني عن رأيي فيها.. تبعثرت الكلمات على لساني وحاولت أن أجمعها بكل قوة لأعيد اتزاني.. لكن تعثر الجواب وأحسست أن أحدهم أمسك بطرف لساني وهزه بقوة.. احذري ، انتبهي.. فأنت مُراقبة! الكلمة محسوبة عليك ، وربما تلقيكِ في زنزانة مظلمة شهوراً أو سنوات والجلاد ينتظر هناك.. فإياكِ وإياكِ!!
مضى يومي قلقاً كئيباً وعندما هويت على كرسي في صالة منزلي لاحظ زوجي ما أصابني من شرود واضطراب فأشار أن نذهب إلى نزهة في مكان قريب من صنعاء التي عشقتها.. وعلى غير العادة أجبته بنعم هرباً مما أصابني.. وما أن القينا الرحال في تلك الرياض اليمنية الخضراء لاح من بعيد طيف بدأ يظهر شيئاً فشيئاً ، فإذا سيارة بيضاء قد رأيتها من قبل حتى إذا قاربوا وكانوا على مرمى النظر تنادوا بنصب خيمتهم بجوارنا..
صرخ هاجسي من جديد ألم أقل إنكِ مُراقبة.. هاهم يعدون العدة لاصطيادكِ!! في طريق العودة وكنت على عجل أدرت مفتاح المذياع طمعاً في سماع ما يزيل سحابة يومي الكئيب.. فإذا بالخبر القاتل يأتي من خلف البحار.. اعتقال عشرة أشخاص بعد متابعة طويلة من رجال الأمن.. تحسست قطرات من العرق تملأ ساحة جبهتي بغزارة.. وانصت لما تبقى من أخبار فإذا الكون فوق بركان من الاغتيالات والانفجارات وطرقني صوت الانفجار.. ربما يتهمونك وزوجك أنكما ممن دبروا الانفجار وشاركوا فيه!!
عند أقرب محطة على الطريق الصحراوي وقفت متلهفة لقطرة ماء باردة تزيل عطشي.. فإذا بالبائع يشير إليّ أنها هنا في الثلاجة المقابلة.. وإذا بمن جلس وغطى وجهه بصحيفة صدرت منذ شهور، وظل يسترق النظر إليَّ بعينين صفراوين بارزتين أرهقهما السهر والمتابعة.. قلت: هذا أحدهم.. وتجرعت ماءً بطعم الحنظل أو أشد.. دخلت منزلي حائرة الذهن ، مشتتة الأفكار فتناولت سماعة الهاتف لأحدث صديقة لي بما جرى لي وبتوقعي لاعتقال قريب.. ولكن أعدت سماعة الهاتف.. واسترجعت ذاكرة حديث المجالس.. فالهواتف مراقبة ، والإحصاء يشمل الهمسة والبسمة والكلمة والإشارة.. فأقسمت أن لا أتحدث في الهاتف مطلقاً حتى تنجلي الكربة وتنقشع الغمة.. وتذكرت أصواتاً وتشويشاً في الهاتف سمعته مساء البارحة ، فأيقنت أنه من استراق السمع.. وأقسمت لما تذكرت ذلك أني مراقبة ، وبدقة ، ولا مجال للهرب والمراوغة!!
تطاولت بي الساعات بين وهم وحقيقة.. وبدت شعيرات بيضاء تعلو مفرق رأسي فظننت أنها من تلك الأيام.. للخلوص من سواد الدنيا وظلمتها قررت أن أذهب إلى مكانٍ آمن؟! وتساءلت بلهفةٍ: أين المكان الآمن في ظل المراقبة الدقيقة؟! عندها أتى الجواب نقرات بإصبع غليظ على هامتي.. أفيقي من سباتك ، واستيقظي من رقدتك ، فالأمة كلها مراقبة ، ولست وحدكِ!!
ورغم كل ذلك لم يبقَ لي دار آمنة إلا ذلك الفيء الجميل والظل الظليل.. توضأت وأزلت إرهاق السهر، وسحابة الوهم القاتل بقطرات ماء عذبة طاهرة هجرتها زمناً طويلاً غفلة وسفاهة... فإذا المراقبة الدائمة والإحصاء الشديد (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) [ق: 18] وإذا بالسجلات الطويلة محصى فيها مثاقيل الذر (فمن يعمل مثقال ذرة خير يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) [الزلزلة: 7 ـ 8] وإذا المعلومات لا يمكن إخفاؤها.. (يعلم خائنة الأعين وما تُخفى الصدور) [غافر: 19].وأفزعتني النهاية المحتومة (فريق في الجنة وفريق في السعير).
أفقت من الغفلة فالمراقبة ليست وليدة أسبوع مضى ، بل هي منذ بداية العمر.. منذ أن صرخت صرختي الأولى ووطئت قدمي الثرى.. وهي رقابة طويلة مستمرة ، لا تكل ولا تمل إلى أن أوسد في قبري.. إنها رقابة عجيبة ، محصى فيها القول والفعل - بل وحتى وسوسة النفس وخلجات الصدر.. (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه) [ق: 50].
هدأت الأصوات وخرجت من غرفة الصلاة بخطى واثقة وطمأنينة في النفس ، وسعادة في القلب متأملة الكون وعظمة خالقه.. علمت أني مُراقبة وأيقنت أني متابعة ، حتى أوسد في قبري.. أطلقت بصري نحو سيارة بيضاء واقفة بجوار البيت ، كانت تفزعني من قبل.. أشحت بوجهي وقلت معاتبة نفسي: أين أنتِ يا من تخافين مراقبة أهل الدنيا.. وهي رؤى ومنامات ، وتراكم معلومات ، وخيوط روايات وتنسين مراقبة العليم الخبير!
أضاء نور الإيمان بين جوانحي وترددت كلمة عذبة كنت أخشاها زمناً طويلاً وهي اليوم حبيبة إلى قلبي تؤنس وحشتي ، وتنير دربي.. انتبهي فأنتِ مُراقبة.

تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 27-نوفمبر-2024 الساعة: 07:28 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/8244.htm