بقلم: نزار خضير العبادي -
(أتيكيت) التصريح الصحفي.. وأثر التغييب
يجهل كثير من المسئولين في اليمن وغيرها طبيعة ومستوى ارتباطهم بالمؤسسة الإعلامية، وترى نسبة كبيرة في التعقب الإعلامي لأنشطتها أمر يحركه الفضول، وربما التطفل -أيضاً- فيما يبدو التغييب الواضح لثقافة التعامل مع الوسيلة الإعلامية، وأصول صياغة التصريح الصحفي إحدى أهم سمات دائرة المسئولين العرب عامة.
إن هذا الانفصام بين الطرفين، وغياب لغة فهم مشتركة تتجسد بها مصلحتيهما جر الجميع إلى مأزق غموض الرؤيا أولاً، ثم الصدام المباشر ثانياً، وبالتالي اختلال أبعاد الصورة الوطنية العامة.
فالمسئولون- وأعني كل من يدير مؤسسة: وزارة، منظمة وغيرها، سواء حكومية أم غير حكومية- لا يقدَّرون أن تشكيل الرأي العام الداخلي والخارجي متوقف على ما يدلون به من معلومات، أو بيانات تكشف خططهم، وتطورات عملهم، وطبيعة ما يعيق بلوغ طموحاتهم، وأن حجم تلك الحقائق، ومرات تواردها، ومستوى وضوحها وتوازنها هو الذي يحدد مقدار الثقة المتأتيَّة من الرأي العام بهذه الجهة أو تلك. وهو أيضاً ما يرسم ملامح المسار التنموي للدولة وقيادتها.
ويمكن القول إن عزوف الكثير من المسئولين عن (الترويج) لأخبار وزارته أو مؤسسته يعني شطبها من رصيد الإنجاز العام الذي لا يُحتسب للسلطة وحدها، بل للشعب أيضاً. ومن جهة أخرى فإنه يكون أطلق أبواب اجتهادات الرأي، وسمح للمعلومة الخاطئة أو الإشاعة أن تشغل ما خلَّفه من فراغ. ومن هذا الموضوع بالذات يتولد الصدام مع الإعلام الذي يرى أربابه أن نجاح وسائلهم متوقف على كم ونوع المعلومات المتاحة بين أيديهم. وعندما يضرِبُهم الإفلاس الخبري في بلد فيه (34) وزيراً، ومئات المؤسسات المدنية، وآلاف المنشآت الاقتصادية والثقافية والسياحية والاجتماعية والخدمية، وعشرات السفارات، وترتاده مئات الوفود العربية والأجنبية شهرياً. وفيه من حرية الفكر والرأي ما ليس عند غيره، فمن المؤكد سيكون الدوران في شئون محلية صغيرة، وتضخيمها بمثابة انتحار بطيئ للوسيلة الإعلامية، وذبحاً مؤلماً جداً للمهارات الإعلامية المبدعة والطموحة.
لا شك أن الكثير من المسئولين- بل جميعهم- تثقلهم هموم الاستقرار الوطني الداخلي، والبعض منهم يعتقد أنه وزارة الداخلية هي وحدها المعنية بهذه المهمة، فيتجاهلون بذلك أن الاستقرار صناعة تكاملية، وليس من جهة قادرة على خلق مناخاته أفضل من الوضوح، والمكاشفة بالحقيقة الكاملة؛ باستثناء بعض الخصوصيات التي يكون في إرجائها إلى إشعار آخر مصلحة عامة- كما هو شأن الدول فيها. وبطبيعة الحال ستكون وسائل الإعلام هي الجهة التي تُناط بها هذه المسئولية، التي تستدعي جانباً كبيراً من الأمانة والوعي.
قبل أيام انتقد الدكتور أبو بكر القربي- وزير الخارجية- الإعلام العربي، وحمَّله جزءً من مسئوليات أزمة القمة العربية التي تم تأجيلها، بدعوى نقل أخبار غير صحيحة عما دار في اجتماع وزراء الخارجية. كنت أتوقع من الزميل المحاور بقناة (العربية) أن يسأل عن أسباب لجوء الإعلاميين إلى مثل ذلك السلوك، والدوافع إليه. لكنه- على ما يبدو- كان مستوعباً الحالة إذ أن الإعلاميين مُنعوا من البث المباشر لوقائع الافتتاح، ثم من الاقتراب من مقر المؤتمرات، وطوال ساعات النهار والليل لم يجرؤ أحد من المسئولين على عقد مؤتمر صحفي، أو حتى إصدار بيان صحفي يستحق عناء الانتظار الطويل، وبالتالي اضطر البعض إلى الاستعانة بمن يعتقد أنه مطلع، أو قريب من الحدث، أو حتى ممن يسترقون السمع؛ أملاً بتحقيق سبقٍ إعلامي يرفع من أرصدة وسيلته.
إن هذا الحال هو نفسه الذي يتكرر على مستوى الساحة الداخلية، ولأن احتمالات الوقوع في شرك المعلومة الخاطئة هي ذاتها التي يشكو منها المسؤولون داخل البلد، ويتذمرون من انعكاساتها على غرار ما كان عليه الأمر مع الدكتور القربي. في الوقت الذي كان الأولى افتراض التأويلات مسبقاً في ظل أي غموض حاصل أو تعتيم، باعتبار أن التكهن والتخمين هي غريزة بشرية مرافقة لكل حالة مرتقبة أو محجوبة عن الإدراك.
في الحقيقة، إن المشكلة قد لا تكون متأتية من الحالة السابقة وحسب، بل أيضاً من نقص مهارة الشخص المسئول في الإيفاء بالنوع الخبري. فالبعض لا يكترث لمسألة وضع ملف تحت متناول اليد يدوّن به بعض الإحصائيات المهمة التي من شأنها أن تكون بمثابة مؤشرات لسير العمل، أو حتى أجندة لما هو قائم من خطط وبرامج. إذ أن الوسيلة الإعلامية يهمها كثيراً جداً تدعيم أخبارها بأرقام وحقائق ومسميات، من غير انتظار لمجرد حديث انفعالي أو وجداني لا يقوَى على غرس الثقة عند المتلقي، او إفادته بشيء جديد.
إننا لو تابعنا الحالة- موضوع البحث- في إطار ماهو معمول به في دول أوروبا، وأمريكا، وبعض آسيا لوجدنا اختلافاً بائناً في علاقة المسئولين (حكوميين وغير حكوميين) مع أجهزة الإعلام، فالطرف الأول يولي اهتماما مبالغاً فيه أحياناً لجذب الإعلاميين إلى محيطه، ليضمن وجودهم في كل نشاط تقوم به مؤسسته.
علاوة على ذلك فإن هذه الجهات تحرص دائماً على تحرير بيان صحفي عقب كل فعالية تعلن فيه عما جرى بحثه أو الاتفاق عليه، بل أن كبار المسئولين الحكوميين يعقدون مؤتمرات صحفية مصغرة بقصد إشهار ما جرى، وقطع دابر كل ما يمكن أن يشاع من غير دراية- رغم أنهم سيحتفظون بجزء من الحقيقة ضمن خصوصياتهم الوظيفية.. يضاف إلى هذا قيام المؤسسات الحيوية بإصدار تقارير ربع سنوية، للأغراض الإعلامية تتحدث فيها عن أنشطتها. أما إذا حدث طارئ، أو استجدَّ أمر فجأة، فإن أرفع مسئول في الجهة ذات العلاقة سيستدعي وسائل الإعلام ويدلي بتفسيره للواقعة.
لا شك أن تلك البلدان ما كانت لتواظب على ذلك (الأتيكيت) لولا إنها أدركت جدواه، وجنت منافعه.. ولولا إنها وجدت فيه بريقَ وجهها الذي تطل به على العالم الخارجي، فتذهله بحيويتها، وبمهارات مواطنيها.. وحتما إنها من خلال فرصها الإعلامية المفتوحة ستكون الأقدر على تعزيز تفاهمها مع الرأي العام، وتحاشي أي نفور منه قد يخل بموازنات الاستقرار، والسلام الداخلي.
أعتقد أن جوهر مشكلتنا الإعلامية في اليمن هي أننا كمؤسسات إعلامية نبدد جهودنا بحثاً عن خبر قد يجده الأوربيون بانتظارهم على عجلة فاكس المكتب الصحفي. ولعل بحثنا المضني هو من يقتل إبداعنا، ويستهلك تفكيرنا في سفاسف الأمور. في الوقت الذي يقف صناع الأحداث بمنأى عن عالمنا (المتطفل) يلوذون بصمتهم، ويتذمرون من اجتهاداتنا غير الدقيقة- والخاطئة أحياناً- التي تزعزع استقرار ساحة عملهم.
ومع هذا.. يبقى السؤال الأهم: يا ترى هل هناك من يسمع صوتنا، أو يلعق معنا همومنا ويتفاعل مع أفكارنا؟
تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 27-نوفمبر-2024 الساعة: 09:52 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/8532.htm