المؤتمر نت -
أنت حبيب الله
مع إشراقة الفجر لدى الداعية النجيب، يكون تذكر المعاني الجياد، فتنطق نفسه بركوب الأهوال، وحب البذل والعطاء، لذلك الفجر الذي أشرق في نفسه، من قبل أن يشرق على سهل وجبل، إذ هو في العلو قد اصطاد النور قبل غيره، فيكون من ذلك تميز في نفسه، من بعد تميز في التقاط الإشراق.
أي هم يشغله، وأية لذة يبحث عنها، وأي قلب هو قلبه، ثم أي وعي لديه، وهو في هذه النشوة العامرة بالإيمان؟
تجوب نفسه عالم الشهادة، ليرى الركون والتخبط والانزواء، قد لبس الكثير من الناس، تغطوا بألوان شتى من الأعذار والحجج والبراهين الواهية، فيعطف على ذلك قلبه، وتنطق على حالهم عينه، بدموع وشجون، متذكرًا قول الله تعالى، مرتلاً له: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّر)(1).

يا ألله..

نداء لكل مدثر، لكل من تغطَّى بثيابه ونام، سواء أكان التغطي ماديًّا بفراش وثير، أو معنويًّا بحجج تترَى، من ولد وزوج، أو وظيفة وعمل، أو خوف ووجَل، أو تمنٍّ وأمل، كلها أغطية يكشف عنها هذا النداء الرباني العلوي.
(إنه النداء العلوي الجليل، للأمر العظيم الثقيل.. نذارة هذه البشرية وإيقاظها، وتخليصها من الشر في الدنيا، ومن النار في الآخرة؛ وتوجيهها إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان.. وهو واجب ثقيل شاق، حين يُناط بفرد من البشر - مهما يكن نبيًّا رسولاً - فالبشرية من الضلال والعصيان والتمرد والعتو والعناد والإصرار والالتواء والتفلت من هذا الأمر، بحيث تجعل من الدعوة أصعب وأثقل ما يكلفه إنسان من المهام في هذا الوجود! )(2).

هل بعد هذا تتدثر وتنام؟!

فكيف يكون التغطي مع هذا التكليف، وكيف تكون الراحة مع هذه النذارة، إنه قول عظيم ثقيل جلل، لا ينفع معه نوم ولا وجل.
ونتذكر قول الحسن البصري، عندما تلا - رحمه الله - قول الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين)، قال الحسن: (هو المؤمن: أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته، فهذا حبيب الله، هذا ولي الله).
فيخف عنه حمل التكليف بعبارات الحسن البصري المبارك، وهو يبشره بحب الله تعالى، والولاية له، ومن ذا الذي يريد غير هذا، مهما كبرت المشاق، وكثرت التبعات، وتوالت الخطوب، "هذا حبيب الله، هذا ولي الله" سلوى تريحه من كل شيء، ومن أي تعب كان.
ويحنّ الداعية لهذا الحب وهذه الولاية الموعودة، إن هو استقام على الطريقة، وكأن تبعات نذارة النداء العلوي (يا أيها المدثر) قد خف حملها وسهل أمرها، وانشرحت نفسه وطابت، فيكمل الترتيل، ليصدع في فؤاده قول الله تعالى: (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر) فيهتز لها، وينتبه..
(يوجهه إلى إنكار ذاته، وعدم المن بما يقدمه من الجهد، أو استكثاره واستعظامه.. وهو سيقدم الكثير، وسيبذل الكثير، وسيلقى الكثير من الجهد والتضحية والعناء. ولكن ربه يريد منه ألا يظل يستعظم ما يقدمه ويستكثره ويمتن به..
وهذه الدعوة لا تستقيم في نفس تحس بما تبذل فيها. فالبذل فيها من الضخامة بحيث لا تحتمله النفس إلا حين تنساه.. بل حين لا تستشعره من الأصل لأنها مستغرقة في الشعور بالله؛ شاعرة بأن كل ما تقدمه هو من فضله ومن عطاياه..
فهو فضل يمنحها إياه، وعطاء يختارها له، ويوفقها لنيله..
وهو اختيار واصطفاء وتكريم يستحق الشكر لله، لا المن والاستكثار)(3).

كرامة.. ورفعة.. وطهارة

فيخر قلب الداعية ساجدا باكيا تائبا، ويتعلق بربه أكثر، أن يعينه على دعوته، وأن يقيه أغطية الدنيا، وحجب العمل، ووسوسات النفس، وركون الأصحاب، وافتتان الأتباع، فما ثمة مجال في طريق الدعوة لهذه المعاني، وإن أصابه منها شرر، نطقت له سورة عبس، بكلام من الرب يسلي قلبه:
(فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ)(4)

(يُبيِّن الله عز وجل حقيقة هذه الدعوة وكرامتها وعظمتها ورفعتها، واستغناءها عن كل أحد وعن كل سند وعنايتها فقط بمن يريدها لذاتها، كائنا ما كان وضعه ووزنه في موازين الدنيا..
فهي كريمة في كل اعتبار، كريمة في صحفها، المرفوعة المطهرة الموكل بها السفراء من الملأ الأعلى ينقلونها إلى المختارين في الأرض ليبلغوها، وهم كذلك كرام بررة.. فهي كريمة طاهرة في كل ما يتعلق بها، وما يمسها من قريب أو من بعيد.. وهي عزيزة لا يتصدى بها للمعرضين الذين يظهرون الاستغناء عنها، فهي فقط لمن يعرف كرامتها ويطلب التطهر بها.
هذا هو الميزان.. ميزان الله.. الميزان الذي توزن به القيم والاعتبارات، ويقدر به الناس والأوضاع.. وهذه هي كلمة الله. الكلمة التي ينتهي إليها كل قول، وكل حكم، وكل فصل)(5)
كرامة.. رفعة.. طهارة.. لها اتصال وطيد بالملأ الأعلى، وليس في هذه الأرض لها نسب إلا من حملها بحق، ومنهم (حبيب الله، ولي الله) فيشعر الداعية بمزيد خوف من الأمانة، وبمزيد ارتياح بعون الله له، وبمزيد نشوة بهذا الطهر والصفاء، الذي يتلبس به في دعوة الله عز وجل.

إنه الوفاء.. وإلا!!

كل هذه العطايا، وكل هذه المنح، وكل هذه الكرامات، والولايات، والحب الرباني الكبير، هو للداعية الواعي، المتحرك بدعوته، المتجرد لها، فإن لم يفعل، صدع به قول الله تعالى في سورة الجن: (قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً) الآيات 22 ـ 23
(هذه هي القولة الرهيبة، التي تملأ القلب بجدية هذا الأمر.. أمر الرسالة والدعوة.. والرسول صلى الله عليه وسلم يؤمر بإعلان هذه الحقيقة الكبيرة.. إني لن يجيرني من الله أحد، ولن أجد من دونه ملجأ أو حماية، إلا أن أبلغ هذا الأمر، وأؤدي هذه الأمانة، فهذا هو الملجأ الوحيد، وهذه هي الإجارة المأمونة.
إن الأمر ليس أمري، وليس لي فيه شيء إلا التبليغ، ولا مفر لي من هذا التبليغ، فأنا مطلوب به من الله ولن يجيرني منه أحد، ولن أجد من دونه ملجأ يعصمني، إلا أن أبلغ وأؤدي !

يا للرهبة ! ويا للروعة ! ويا للجد !

إنها ليست تطوعا يتقدم به صاحب دعوة. إنما هو التكليف. التكليف الصارم الجازم، الذي لا مفر من أدائه. فالله من ورائه !
وإنها ليست اللذة الذاتية في حمل الهدى والخير للناس. إنما هو الأمر العلوي الذي لا يمكن التلفت عنه ولا التردد فيه !
وهكذا يتبين أمر الدعوة ويتحدد.. إنها تكليف وواجب. وراءه الهول، ووراءه الجد، ووراءه الكبير المتعال ! )(6)
ومع هذا العلو من المتعال، يصعد الداعية درجة في منبره، يشتاق للمزيد، من بعد وضوح أصل الأمر ورأسه، يصعد بطهارة وكرامة وولاية، ونذارة ووجل وأمل، في أن يكون: (حبيب الله، ولي الله) وتتطلع عينه إلى أحباء لله قبله، وإلى أولياء قد سبقوه.


--------------------------------------------------------------------------------

(1) سورة المدثر 1-4

(2) في ظلال القرآن لسيد قطب رحمه الله

(3) في ظلال القرآن لسيد قطب رحمه الله

(4) سورة عبس 13-16

(5) (6) في ظلال القرآن لسيد قطب رحمه الله.

#اسلام اون لاين
تمت طباعة الخبر في: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 04:49 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.almotamar.net/news/9198.htm