الرنتيسي.. وأنظمة الفرصة الأخيرة قد لا تدرك الكثير من الأنظمة العربية أنها على تماس مباشر من خط النهاية الأخيرة للعبة السياسية الشرق – أوسطية- وأنها تتحرك في الزمن الإضافي الذي لا تتكرر فيه فرص الحسم. فاغتيال الدكتور الرنتيسي أعقب تصريحات خطيرة للرئيس "جورج بوش"، كان اغتال بها – أيضاً- أحلام السلام، والعودة عند الفلسطينيين. إلاّ أن تلك التصريحات جاءت في إثر حدثين مهمين: أولهما اغتيال الشيخ أحمد ياسين في 22 مارس، وثانيهما فشل القادة العرب في عقدهم قمّتهم المزعومة في تونس.. وبالتالي فإن تتابع تلك التطورات في غضون أقل من شهر واحد يمكن عده مؤشراً قوياً لمستوى الانهيار الذي تنحدر في مدارجه المنظومة السياسية العربية، والذي يمثل الحد الأخطر منذ الاحتلال الصهيوني لفلسطين عام 1948م. لا شك أن حالة الضعف هذه غير متأتية من عوامل قاهرة فوق طاقة تحمل الأنظمة، ولا من مواريث تاريخية راكمت تحدياتها إلى المستوى الذي يعجز فيه تجاوزها، وعبور ظروفها المعقدة، بل أن الأمر برمته يبدو – من وجهة نظري- مرتبطاً بالهوية الفكرية السياسية التي تتبلور من أبجدياتها شخصية النظام السياسي العربي. فالحالة الشيزوفرينية التي احتوت مخيلة بعض الأنظمة، وعايشتها كجزء من واقعها "المصيري" هيأت مناخات انفصام حقيقة بين الدولة كسلطة تفتقر للكثير من المهارات القيادية، والرؤى الصحية المؤطرة بمنطق معرفي دقيق لأصول اللعبة السياسية، وفلسفة الحكم الوطنية، وبين الدولة كشعب يحمل هويته التاريخية، وتجاربه الواسعة، وإرادته الخلاقة القادرة على تكييف الغايات، والاحتياطات، وتطويع التحديات. مما ترتب عن ذلك ظرفاً نفسياً انعزاليا لا ترى فيه السلطة نفسها سوى كيان مختلف عما حوله، ومتباين معه في إعدادات الفكر والقوة والإرادة والطموح – وبالنتيجة انعدام الثقة، والشعور بالخوف. إن تصرف الأنظمة من واقع الحالة الشيزوفرينية المتهيبة من كل ما يحيط بها أوقعها في مأزق البحث عن الشريك القوي، وفي متاهات فلسفة "التقية" التي تحاول من خلالها تجنيب نظامها السلطوي الانجرار إلى صدام، أو مواجهته مع الآخر، أو حتى التعرض لاختبار حقيقي قد يفضح الكثير من غبائها، وخوفها، وترهلات أجهزتها السيادية. ومن هنا كانت بداية تفشي داء الأمة ، وأسباب انهيار قرارها السياسي، ومنطقها الفلسفي الذي تحدد به أبعاد قضاياها المصيرية، وترسم من خلاله تصوراتها الفكرية للتطورات والمتغيرات الوطنية والإقليمية، والدولية.. وهو الأمر الذي آلت محدداته إلى الأنانية القطرية، وتغليب المصالح الفردية ( السلطوية) على أي اعتبارات أخرى، وبذل كل ما بالوسع لتصدير الخوف، والشبهة،والفساد الفكري، وحتى المؤامرة. في ظل هذا الاحتلال وجدت القوى المعادية للأمة العربية والإسلامية ثغرات كبيرة في هيكل الصف العربي، وصارت تستغلها إلى أقصى حدود متاحة في سبيل بلوغ خارطة جديدة لمنطقة الشرق ا لأوسط تكفل تحقيق الاستراتيجيات القومية للولايات المتحدة الأمريكية – سياسياً، واقتصادياً، وأمنياً- وتضمن استقواء كيان "الدولة الإسرائيلية"، كعامل استفزاز إقليمي للعرب، وكشرطي أمريكي يزعزع ثقة الأنظمة العربية بقدراتها، وإمكانياتها، وبفرصها في البقاء والتنامي والتحول إلى نفوذ سلطوي حقيقي مؤهل للدفاع عن سيادته الشرعية، وحقوقه الطبيعية- وهذا بطبيعة الحال يوثق من تشبت الأنظمة الضعيفة، الخائفة بعلاقاتها مع واشنطن وبتطبيعها مع الكيان الصهيوني تحت مختلف التسميات. لكن – على ما يبدو- إن حجم التنازلات والخنوع الذي آلت إليه العديد من الدول العربية عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م ، وكذلك غض الطرف عن الكثير من التجاوزات الأمريكية للسيادة الوطنية فيها عزز ثقة الإدارة الأمريكية وحلفاؤها اليهود في إمكانية تطويع إرادة هذه البلدان بأسرع مما كان محسوباً بكثير جداً.. وهو أمر تأكدت ظنونه بالظروف التي أحاطت بالحملة الأنجلو – ساكسونية لاحتلال العراق – التي بقيت الكثير من ملفاتها العربية طي الكتمان. ومن الواضح جداً أن المجازر الصهيونية التي أقدم عليها شارون بحق الفلسطينيين لم يكن يقو على القيام بها لولا اطمئنانه لحليفه الأمريكي أولاً، ولأصدقائه العرب، من دول التطبيع الذين لم يتردد أحدهم في الوقوف أمام وسائل الإعلام على هامش قمة بيروت والاعتراف أن لبلاده مصالح مع "إسرائيل" لا يمكن التفريط بها من خلال قرار مقاطعة عربية. وعليه كان اكتفاء الموقف العربي إزاء ما يحدث في فلسطين بالتنديد والاستنكار والخروج بالمسيرات يمثل ضوءً أخضراً للعصابات الشارونية لإطلاق أيديها في الأراضي الفلسطينية، ثم التطاول على الرئيس عرفات. وكان أيضاً ضوءً عربياً أخضراً لإدارة بوش لاجتياح العراق، وإخراج رئيسه بصورة مهينة تنقص من الكبرياء العربي كثيراً، ثم بارتكاب جرائم حرب لا حصر لها بحق الشعب العراقي المحتل. ربما كان اغتيال الشيخ أحمد ياسين ليس إلا جس نبض الأنظمة العربية في حالة إقدام الموساد الصهيوني في اغتيال الرئيس عرفات، واعتقد أنها الخطوة التي ما زالت في انتظار استقرار الساحة العراقية لإتمامه.. وفي كل الأحوال كان فشل العرب الذريع في عقد قمة لمناقشة أوضاعهم محفزاً للرئيس بوش لوأد السلام الفلسطيني وحقوق الشعب المجاهد. أما بالنسبة لشارون فقد كان الأمر مشجعاً جداً لتصفية القوى الوطنية الفلسطينية واغتيال الدكتور الرنتيسي وآخرين، أملاً في إضعاف ساحة المقاومة الفلسطينية، وتهيئة المناخ لجرائم أعظم – ربما في مقدمتها اغتيال الزعيم ياسر عرفات- وعلى هذا الأساس نقول أن الأنظمة العربية تلعب في الوقت الإضافي، وأنه قد يتم إقحامها خلال الشهر القادم في حروب دفاع عن الجيش الأنجلو – سكسوني المحتل للعراق بعد أن هزمته المقاومة العراقية.. ومن المؤكد أن الأنظمة العميلة ستجد آنذاك مسمى شرعي لقتل الشعب العراقي المجاهد ضد قوى الاحتلال. فمثلما ضربت بمدافعها شعب العراق عام 1991م تحت اسم تحرير الكويت، فإنها ستذبح المقاومة العراقية عام 2004م تحت شعار حماية الشرعية الدولية، والنظام العالمي الجديد وكل شيء باسم الأمم المتحدة. |