المؤتمرنت -
في ذكرى الاستقلال ورحيل الاستعمار..عدن المستعمرة البريطانية تستعيد حريتها
قبل أكثر من أربعة عقود من الزمن حيث كانت سنوات عجاف ضحى فيها اليمنيون بالغالي والنفيس..وتمر هذه السنين بمحافل كثيرة نتذكر في مقدمتها أولئك الناس الأشاوس الذين قدموا التضحيات في سبيل حرية الشعب اليمني. يوم 30 نوفمبر عام 1967 أخرج هؤلاء الرجال بعد حرب ضروس ضد المستعمر البغيض وكان المقدم (داي مورغان) آخر عسكري بريطاني يغادر عروسة الأرض اليمنية “عدن” التي كان أسلافه احتلوها نحو (129) عاماً وتحديداً منذ عام 1839.
انبثق عن ذاك اليوم يوم جديد أعلن فيه استقلال جنوب اليمن عن الاستعمار البريطاني في 30 نوفمبر1967لتقوم جمهورية اليمن الجنوبية المستقلة.. في منحى هذا التاريخ اعتبرت السيدة فرانسيس جاي التي شغلت لسنوات سفيرة المملكة المتحدة (بريطانية العظمى) لدى الجمهورية اليمنية في تصريحات حينها “إن خروج بريطانيا من (عدن) شكل بداية النهاية للإمبراطورية البريطانية في العالم.. ولم تحصل على فرصة للإبقاء على بعض قواتها في هذه المنطقة رغم أنها كانت تحاول ذلك حتى آخر لحظات مفاوضات جنيف التي جرت بين وفد الجبهة القومية برئاسة قحطان الشعبي والوفد البريطاني برئاسة اللورد شاكلتون حول الاستقلال وهي المفاوضات التي دامت نحو أسبوع وانتهت في 27 نوفمبر 1967م بانتزاع الاستقلال الناجز دون أن تحتفظ بريطانيا بأي وجود عسكري في عدن”.
مثل هذا حديث لمسؤولة دبلوماسية بارزة في واحدة من أكبر دول العالم قديما هو بمثابة شهادة تاريخية لمستوى المقاومة والحرب الذي استبسل بها اليمنيون على مدى أربع سنوات لإخراج المحتل الإنجليزي من أرض الوطن. وفي الوقت نفسه يحتم علينا أهمية إعادة قراءة تاريخ جدوى الاحتلال البريطاني لعدن كمدينة واقعة بين مفترق الطرق العالمية حيث تربط بين الشرق والغرب بمكانتها كميناء إستراتيجي هام فضلا عن حضارتها التي تجاوزت آلاف السنين.
عدن تعانق الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م بعد 129 عاماً من الكفاح المسلح
تشير الكتب التي دونت في سجلها تاريخ الاحتلال البريطاني لعدن قائلة “إن بريطانيا العظمى أدركت منذ بداية إطلاقها لموجاتها الاستعمارية أهمية موقع عدن، فحاولت أن توجد لها مكانا على هذه المنطقة، وتمكنت عام 1799من احتلال جزيرة (ميون) وبدأت تظهر رغبتها في فرض نفوذ قوي لها في عدن وما حولها، حتى جاء عام 1802م وقد تمكنت من عقد اتفاقية مع سلطان لحج الذي كانت عدن تابعة لسلطنته، وبموجب هذه الاتفاقية التزم السلطان بفتح عدن أمام البضائع البريطانية وحماية رعاياها..
لكن ذلك بدا غير كاف لبريطانيا التي عملت لفرض سيطرتها المباشرة على عدن بشتى الطرق ومن بينها ذلك الحادث المدبر الذي وقع في يناير 1837م في المياه اليمنية واتخذته بريطانيا ذريعة لاحتلال عدن، حيث غرقت السفينة (داريادولت) قرب عدن وزعم قائدها الكابتن هنس أنها أغرقت من قبل مهاجمين يمنيين، فأخذ يخطط لاحتلال عدن، وعاد في العام التالي يقود سفينة وزوارق عسكرية واقترب من عدن لكنه واجه مقاومة من المدافعين عن عدن، وآثر التراجع حتى تصله الإمدادات الإضافية التي طلبها من بومباي التي وصلت إلى المياه الدولية لليمن بالفعل في ديسمبر 1838م وهذا ما أمكن من التقدم نحو مدينة عدن التي احتلها في (19 يناير 1839م) في معركة غير متكافئة سقط في صبيحة ذلك اليوم حوالي (139) شهيداً من أبناء اليمن الذين حاولوا مقاومة القوات الغازية التي كانت كثيرة العدد وعالية التدريب والتسليح.
مخططات لبسط النفوذ
منذ أن سيطرت القوات الاستعمارية على مدينة عدن عام 1839 شرعت في تنفيذ مختلف الخطط والتدابير التي تمكنها من الاستقرار وبسط نفوذها في جنوب اليمن التي طالما احتلت أهمية كبيرة في التفكير الاستراتيجي لدى الاستعمار البريطاني.. وكانت إحدى الوسائل أو الآليات التي اتبعتها هي الاتفاقيات والمعاهدات التي نجحت في عقدها مع الحكام المحليين للإمارات والسلطنات والمشيخات التي كانت قائمة حينئذ.
وعلى سبيل المثال فقد بدأت بريطانيا من خلال مندوبها السامي في عدن عقد أول اتفاقية صداقة وتعاون مع سلطان لحج في يونيو 1839م، وتلتها اتفاقيات ومعاهدات أخرى مع سلاطين وحكام إمارات آخرين في الأعوام (1850، 1882، 1888، 1915، 1938) حيث اشترت بريطانيا - بموجب هذه الاتفاقيات- أراضي جديدة مثل الشيخ عثمان وعدن الصغرى، واستقطبت بها سلطنات مثل (لحج) و(دثينية بأبين) و(الكثيري، القعيطي، وبيحان) في حضرموت وغيرها من سلطنات ذاك الزمن..ومن جهة فقد استغلت بريطانيا هذه المعاهدات والاتفاقيات لتفرض سيطرتها على الحكام المحليين مستشارين بريطانيين لا يصدر هؤلاء الحكام أي قرارات أو تدابير إلا بعد الرجوع إلى مستشاريهم الذين يعمل مع المندوب السامي ويخضعون لإدارته مباشرة.. وفي وقت لاحق عملت بريطانيا على تجميع الإمارات والسلطنات والمشيخات داخل إطار واحد تحت قبة ما سمته”الجنوب العربي” وهو مشروع ابتدأته عام 1954م والتحقت به الإمارات والمشيخات تباعاً مكونة”اتحاد فيدرالي” صار يضم جميع الإمارات بحلول عام 1963م، وأنشأت بريطانيا هذا (الاتحاد) بموجب معاهدة تعطي بريطانيا وحدها صلاحية التحكم في الأمور السيادية والسيطرة على هذه الإمارات من خلال المستشارين والموظفين الذين يعينهم لها المندوب السامي في عدن، وكذلك الأمر بالنسبة للمجالس التشريعية أو الحكومة الفيدرالية..
كما عملت بريطانيا على تمكين وجودها في عدن من خلال تدابير أخرى سياسية وعسكرية فنقلت إليها جزءا من سلاحها الجوي وتعزيز قوات المشاة أو جيش (الليوي) الذي أخذت في تطويره ابتداء من عام 1928م، وفي العام 1937م أعلنت عدن مستعمرة تابعة للتاج البريطاني وصارت تدار ويعين حاكمها البريطاني من لندن مباشرة وكانت من قبل تابعة للحاكم البريطاني على الهند.. وفي العام 1957م أصبحت عدن مركز القيادة الرئيسية للقوات البحرية البريطانية، أما في العام 1961م فقد تحولت القيادة المركزية للقوات البريطانية في عموم منطقة الشرق الأوسط إلى عدن.
نضال ومقاومة حتى الاستقلال
لم تنل المستعمرة البريطانية(عدن) قسطا من الراحة مطلقا خلال سنوات الاحتلال البريطاني لها فقد كان نضال الشعب اليمني كل يوم مستمدا قوته بحكمة “لا للمستعمر الأجنبي على الأرض العربية”، فمنذ أن دخلها المستعمرون البريطانيون في 19 يناير1839 وعلى رأسهم الكابتن هنس إلى حين خرج من المدينة نفسها المقدم(داي مورغان) في 29نوفمبر1967 وهو آخر عسكري إنجليزي كانت تحتفظ به بريطانيا في عدن إذا كان الكابتن (هنس) قد وجد مقاومة منذ اليوم الأول الذي وطأت أقدامه الخليج الأمامي لمدينة عدن فإن المقدم (مورغان) أيضا لم ينسحب من عدن راغباً مختاراً ذلك أن فترة 129 سنة التي أمضاها المستعمرون البريطانيون في جنوب اليمن لم تمر يوم من أيامها دون مقاومة ضد الاستعمار وهي مقاومة بالفعل أجبرته على الجلاء من هذه المنطقة التي تحتل أهمية عالية في تفكيره الاستراتيجي رغم سلسلة التدابير الكثيرة التي أتخذها للاحتفاظ بنفوذه أو سيطرته على عدن..
إن الاستعمار شيء كريه، وعلى الرغم من أن الاستعماريين اختاروه كلمة “استعمار” لتعطي دلالة على أن مهمته الحضارية هي “تعمير” البلدان ونقل سكانها من البداوة والهمجية إلى “المدنية” إلا أن الاستعمار ارتبط في الأذهان بالإذلال والقمع والنهب والتحكم الخارجي، ولذلك لم يلق أي مستعمر ترحيباً من أحد، بل لاقى المقاومة حتى النهاية، وهكذا كانت قصة اليمنيين مع الاستعمار البريطاني وقاوموه وكانوا طيلة ما يربو على (129) عاماً حتى أخرجوه من أرضهم.
“الذئاب الحمر”..كفاح الأحرار
إن الاستقلال الوطني الذي أنجزه اليمنيون في 30 نوفمبر 1967م بدأت رايته تعلو في تلك الصبيحة التي اقترب فيها الكابتن هنس من قلعة صيرة في 19 يناير 1839م، حيث بدأ الكفاح ضد الاستعمار مع مجيء الاستعمار نفسه، حتى أن الكاتبن هنس نفسه كان هدفاً لرصاصات فدائيي عدني وقتل خلفه الكابتن ميلين في فبراير 1951م.
إن كفاح أحرار اليمن ضد المستعمرين البريطانيين ظل مهمة يومية دون انقطاع، فمنذ عام 1839م وحتى الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م كانت عدن ولحج والضالع وبيحان وحضرموت والعوالق ودثينة وغيرها تتأجج ناراً تصلي المستعمرين، في البداية كانت قبائل الفضلي والعبدلي والعوالق وردفان والضالع والعواذل وبيحان، وتطورت المقاومة لتأخذ أشكالا تنظيمية حديثة فكانت الرابطة والمؤتمر العمالي وحزب الشعب والنقابات وجبهة التحرير، والجبهة القومية.. ثم أخذ النضال أشكالاً مختلفة تحاصر المحتل على كل جبهة ومجال.. المظاهرات.. الإضرابات.. المقاومة.. الكفاح المسلح.. واتسع هذا الكفاح ليشمل كل الفئات ويمتد من المدينة إلى الريف.. ولم يأت منتصف عام 1967م إلا وقد تمكن (الذئاب الحمر) من إسقاط كل المناطق من النفوذ الاستعماري الذي لم تعد بيده سوى مدينة عدن، حتى خرج المندوب السامي يعلن في 6 نوفمبر 1967م إن حكومة جلالة الملكة “تعترف بالجبهة القومية كممثل شرعي لليمن الجنوبي وأن بريطانيا ستجلي قواتها من عدن عام 1968م، ومع ذلك أدت الضربات الموجعة التي تلقاها المستعمرون إلى التعجيل بخروجهم وفي الحقيقة أن تحديد موعد الجلاء لم يكن في حسبان المستعمر.. وكل القرارات كانت من صلاحية الأحرار وحدهم.. وحتى ذلك الوقت لم يكن بمقدور المستعمرين سوى شيء واحد.. هو “مغادرة عدن وعلى عجل”.
ميزة حرب التحرير نضال المرأة
إن الكفاح الوطني أو حرب التحرير التي صنعت الاستقلال عن بريطانيا في يوم الخلود يوم (30 نوفمبر 1967) يتميز في تاريخ الحركة الوطنية اليمنية بمزية تبدو أشد ما يكون في المسيرة النضالية ضد الاستعمار البريطاني أكثر من أي سيرة نضالية أخرى.. هذه الميزة التي يمكن رؤيتها بوضوح هي مشاركة المرأة اليمنية في النضال ضد المستعمرين.. وربما ترجع قوة هذا الحضور النسوي في هذه المسيرة النضالية دون غيرها إلى كون الاستعمار مصيبة عامة وأداة مضلة ومدعاة لاستنهاض كل نفس تشعر بالكرشامة والغيرة الوطنية..
إن قائمة المشاركات في المسيرة الكفاحية ضد الاستعمار طويلة جداً وذات رصيد ليس له آخر وحسبنا أن نذكر أسماء مثل (دعرة سعيد، زهرة هبة الله، عائدة علي سعيد، نجيبة محمد، شفيقة مرشد، ملكة عبد الله) وأخريات يطول ذكرهن وقد سجلن حضوراً وطنيا في كل المعارك وعلى مختلف الجبهات والأشكال النضالية، فيهن من حملت البندقية ومضت مع كتائب التحرير وفيهن من كانت مشاركة في مفاوضات جنيف حول ترتيبات إعلان الاستقلال
* نقلا عن صحيفة 14 اكتوبر