البحث عن الماء في قرون الثيران:عندما يصبح التغيير موقفاً عدمياً وإتباعاً شكلياً في بداية السبعينيات من القرن العشرين المنصرم شهدت حياتنا الأدبية جدلاً واسعاً حول بعض قضايا وإشكاليات التجديد التعبيري في الشعر، وأزعم بأن ذلك الجدل كان يتسمُ بالنقاش الحيوي الذي حاول أن يتلمس طريقاً واضحاً لمسار تطور العملية الإبداعية للأدب اليمني الجديد. كان طموحنا إلى الغد – وما زال – كبيرًا جداً، وكان التحدي للواقع المستلب بهدف تغييره أكبر، وبين الطموح والتحدي، كان مسار الثقافة الوطنية، يبدأ رحلة جديدة غير منقطعة عن مرحلة الولادة الصعبة والمتواضعة التي تمت في ظروف الكفاح الشاق ضد ظلام الواقع الموروث . كان اتجاه الرحلة واضحاً وثابتاً، لكن الوسائل التي جرى استخدامها للسير في هذا الاتجاه اتسمت بالتنوع المعقد بين مسالك واقعية ومأمونة التطور، وأخرى لا صلة لها بالواقع ولا قدرة لها على النمو . أما الطرق التي سار عليها الأدب والشعر والفن في ظل الثورة والجمهورية والوحدة ، فقد أصبحت مأمونة بمرور الزمن، وتراكم الخبرات فيما توضحت معالمها الرئيسة وترسخت أسسها المتينة، وذلك بفضل تبلور وتعمق الالتزام الواعي بالاهداف الاستراتيجية للثورة اليمنية ( 26 سبتمبر 14 اكتوبر ) وبفضل انتشار أفكارها التقدمية على نطاق واسع بين صفوف الجماهير، حيث يمكن القول بأنها غدت تشكل قوة مادية هائلة توجه النشاط الثوري الواعي والهادف في مختلف مجالات الحياة المادية والروحية لمجتمعنا الجديد، وبضمنها حياتنا الثقافية . هذه المقدمة لابد منها – بعد إذن القارئ الكريم – للعودة إلى ما أشرنا إليه في بداية هذا الحديث وخصوصاً فيما يتعلق بإشكاليات التجديد التعبيري، والحوارات التي جرت بصددها في الوسط الأدبي عند مطلع السبعينيات على إثر بروز بعض الممارسات المتطرفة في التجريب الشكلي ذي النزعة الثورية (العدمية)، التي كان أصحابها يبررون عدم اتساق ممارساتهم مع حركة الواقع وعجزهاعن الاتصال بالناس من خلال الزعم (بالمستقبلية) والقول بأن قراء تجاربهم الشعرية لا يعيشون معنا، ولكنهم سيولدون بعد أجيال لاحقة في المستقبل البعيد. ولعل أبرز ما في تلك الممارسات نزوعها إلى تشكيل علاقات غير موضوعية بين الأشياء بدلاً من استيعاب العلاقات الداخلية للظواهر القائمة وتغييرها ، فمنهم من حاولوا زراعة الورود والزهور في ذيول الكلاب،وآخرون حاولوا أن يفتشوا عن الماء في قرون الثيران، ومشاهدة جمال وجه الحبيبة في لمعان الحذاء، فيما ذهب قسم ثالث إلى المطالبة بابتكار لغة ثورية جديدة تقوم على حطام وأنقاض تراكيب وتعابير اللغة القائمة . وهذه المقدمة ضرورية أيضاً عندمانتأمل بعض الظواهر الفنية التجريبية التي أخذت تبرز أحياناً في بعض التجارب الإبداعية بعد الوحدة، وعلى وجه الخصوص عند بعض الأصوات الشعرية الجديدة من الناشئين الشباب وأبرزها ظاهرة التعامل العدمي مع اللغة بوصفها أداة للتشكيل الفني، بالإضافة إلى كونها وسيلة للتعبير والاتصال . فبعض أولئك الموهوبين كانوا يتصورون تحت تأثير الانبهار ببعض التجارب الخارجية أن مهمة الشعر والشعراء هي تفجير ثورة في اللغة توازي ما يقوم به السياسيون عندما يثورون على المجتمع . وعليه تصبح مهمة الشعراء تحطيم تراكيب اللغة وتهديم أبنيتها الفنية والتعبيرية وإلغاء وظيفتها الإيصالية العامة باعتبار أنَّها موروثة من الماضي، شأنها في ذلك شأن البنى الاقتصادية والاجتماعية التحتية للمجتمع القديم. والمطلوب بمقتضى ذلك هو الثورة على اللغة بوصفها إرثاً جاهزاً من زمن ثقافي ميت . ولعل بعض هذا البعض يتعاطى مثل هذه المفاهيم والنزعات تحت تأثير المزاج التأثيري غير الواعي، حيث ينعكس ذلك في ظاهرة الغموض والخروج عن إيقاعات الموسيقى الداخلية والخارجية واستخدام الصور والعلاقات غير المألوفة وغير الموضوعية وتسطيح المعاني فوق ركام من الألفاظ والتعابير المصنوعة . وعندما تسأل عن مغزى هذا التجريب الشكلي سيكون جواب هؤلاء: أنها ثورة على اللغة في مجرى الثورة على البنى القديمة في المجتمع؟ . إن خطورة هذه التصورات لا تكمن فقط في فصل اللغة عن الوعي الاجتماعي والوجود الاجتماعي للناس واعتبارها بناءً خالصاً أو عالماً مستقلاً، كما يصرح بذلك منظرو هذا الاتجاه في العالم العربي، لكن خطورتها تكمن أيضاً في تأثر بعض الموهوبين الشباب بهذه الآراء،خصوصاً أولئك الذين لم تتعزز بعد مداركهم الثقافية،الأمر الذي يقودهم، ببراءة وعفوية،إلى تبني مواقف فنية ذات طبيعة فكرية لاتنسجم مع القيم الجمالية للأفكار الجديدة التي يؤمنون بها،ولا تتسق مع معطيات حركة الواقع الاجتماعي واتجاهات تطورها في بلادنا . لقد تعاقبت على الثقافة العربية تشكيلات اجتماعية تاريخية مختلفة منذ عصر ما قبل الإسلام، وخلال هذه الفترة الطويلة تغير مضمون هذه الثقافة مع تغير الأبنية التحتية والأبنية الفوقية للمجتمعات العربية غير أن اللغة العربية لم تتغير ولم تتهدم . وعلى الرغم من أن اللغة العربية قد اغتنت واكتسبت العديد من المفردات والاستخدامات التعبيرية الجديدة غير أن قواعدها وتراكيبها ووظيفتها ظلت ثابتة، بل إن اللغة ذاتها ظلت تؤدي وظيفتها الاتصالية والتعبيرية في خدمة النشاط الواعي للإنسان العربي في مختلف مراحل تطوره التاريخي بدءاً بالنهضة الثقافية الإسلامية ومروراً بالحركات الفكرية العقلية التنويرية والإصلاحية، وانتهاءً بحركة التحرر الوطني العربي المعاصرة. فما هي الفائدة من إحداث ثورة في اللغة خاصة وأن نظام قواعدها وتراكيبها كان يواكب على الدوام المجرى العام للتطور الموضوعي الذي شهدته الحياة الثقافية والفكرية العربية . الثائرون على اللغة يطيب لبعض جهابذة اللغة، استخدام تعبير ( ديمقراطية اللغة ) ، عند تناولهم للأثر الذي تركته الصحافة والطباعة ووسائل الإعلام الجماهيري الأخرى عند ظهورها، في مجال إبراز أشكال جديدة ومعاصرة من التعليم الشعبي لقواعد اللغة، ونمو وتوسع قاعدة الأرومة الأساسية لكلمات اللغة ونظام قواعدها، والطاقة التعبيرية لألفاظها وأساليبها . فيما يرى بعض آخر، أن الصحافة العربية أسهمت بقسط واسع في خدمة اللغة العربية، حيث يجري على الألسنة والأقلام في الوقت الحاضر، استخدام مفردات وألفاظ وأساليب لم تستخدمها المجامع اللغوية، بقدر ما تعود إلى اجتهادات ومبادرات الكتاب والأدباء والصحافيين من أمثال سلامة موسى- صاحب الفضل في ظهور كلمة (الاشتراكية) باللغة العربية، والشيخ إبراهيم اليازجي، وجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة وجورجي زيدان وطه حسين والشيخ عبدالله العلايلي والأستاذ علي جواد الطاهر وغيرهم من الذين عملوا على ترجمة اصطلاحات منجزات الحضارة الحديثة في ميادين السياسة والتكنولوجيا والعلوم والفنون، وأسهموا في إنماء وإغناء الثروة اللغوية وتزويد معجم اللغة العربية بالألفاظ والمفردات الجديدة واللازمة لمواكبة التطور المتسارع في العلوم الحديثة والفكر العربي المعاصر . والحال، إنني لم أجد أفضل من هذا التحليل للإشكالات التي تثيرها بعض الآراء الداعية إلى ضرورة إحداث ثورة في اللغة، والتي وجدت لها بعض الأصداء في بلادنا خلال السنوات الماضية من خلال كتابات صحفية لم تتجاوز حدود الخواطر السريعة . وبهذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن وسائل الإعلام الجماهيري شكلت عند ظهورها عاملاً مساعداً لتأمين سلامة نمو اللغة بصورة طبيعية وديمقراطية من خلال نمو الألفاظ وسهولة الأساليب على نحو يتوافق مع إيقاعات الزمن المعاصر . وبوسعنا القول، إنه وبفضل الدور الذي لعبته وسائل الإعلام في تكوين الوعي، وتوصيل الثقافة، أمكن للغة أن تكتسب المرونة في التعبير عن شؤون الحياة، وزيادة فعالية الاتجاهات الجديدة النامية في إطار الوعي الاجتماعي للناس، وبالتالي تعزيز مساهمة هذه الاتجاهات الجديدة في تشكيل بنية الفكر والثقافة ومنظومة القيم، وما يرتبط بها من انعكاسات على صعيد الهياكل المادية للمجتمع الإنساني . وبتأثير ذلك، يرى العديد من علماء اللغة، أن التطور اللغوي حدث في اتجاهين متعاكسين، يتمثل الأول في تضخم قاموس الألفاظ، بينما يتمثل الثاني في ثبات النزعة المحافظة للقواعد النحوية التي تستوعب الإضافات غير الضارة بسلامة الأسلوب في اللغة . فكما هو معروف، لا يستطيع الإنسان أن ينعزل عن عالمه الموضوعي الزاخر بالفعاليات الاجتماعية المختلفة للناس في مجرى نشاطهم الواعي والهادف،بيد أنه يتعامل مع هذا العالم تحت تأثير لغة قامت في مجتمعه الصغير كوسيلة للتعبير.. ومن السخف تماماً أن نتصور أي إمكانية لأن يتعامل الإنسان مع الواقع الاجتماعي بدون لغة . وإذا كانت التعاريف العلمية للغة تشترك في اعتبارها ظاهرة اجتماعية تتميز في كون معظم التصرف اللغوي يكمن في مستوى اللاوعي، وهو ما يستجد في أن الإنسان يبدأ تعلم واستخدام الأصوات والرموز والإشارات والمعاني والدلالات منذ الطفولة المبكرة، دون أن يعي من خلال بدايات هذا التعلم قواعد النحو والصرف، فإن ذلك يدل على أن الإنسان يستخدم اللغة في صياغة عالمه الموضوعي بصورة لا شعورية على أساس من عادات لغوية مكتسبة، الأمر الذي يعني حقيقة أن اللغة تلعب دوراً هاماً في المساعدة على تشكيل النشاط الاجتماعي للناس في مجرى المجتمع البشري . وبهذا المعنى.. لا تعدو اللغة ظاهرة اجتماعية تمتد عبر المسافة الفاصلة بين لا وعي ووعي الفرد في المجتمع، بل إنها تمتد إلى مسافة بعيدة في عمق التاريخ الإنساني . وهنا، تتجلى بوضوح أهمية ترسيخ وتأصيل مكانة اللغة في وعي الناس الذين يشيدون بسواعدهم وأدمغتهم المجتمع الجديد في ظل العملية الثورية المعاصرة التي تستهدف تهديم البنى التحتية والفوقية للمجتمع البشري القديم، واستبدالها ببنى جديدة تعبر عن مصالح القوى المنتجة في مجتمعنا، وتوفر الظروف الملائمة لتحقيق تطورها في رحاب الحرية والديمقراطية . ومن الضرورة بمكان، التأكيد على أهمية تجنب مخاطر المفاهيم التي تعلل بروز بعض ظواهر الضعف في الاستخدام من خلال ربطها بعملية التغيير، حيث أن اللغة تبقى على الدوام خارج عملية الهدم، ولا تخضع للتغيير الثوري كما يحلو لبعض الذين يميلون إلى تبسيط المسألة على النحو الذي قد يقود إلى الاعتقاد بأن طرحنا هذا يعد من قبل النظر إلى الأشياء خارج إطار (الثقافة الثورية ) !! وهو الاعتقاد الذي يقف وراء المفاهيم المغلوطة والداعية إلى ضرورة إحداث ثورة في اللغة، بحجة أنه من غير الممكن التسليم بشمولية العملية الثورية لكل أشكال وجوانب الوعي الاجتماعي والوجود الاجتماعي للناس وبضمنها البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع، بينما نستثني اللغة من هذه الشمولية، خصوصاً وأنها أداة الصراع الأيديولوجي بين الطبقات الاجتماعية المتناحرة . الثابت، أنه من الخطأ كل الخطأ أن نخلط بين اللغة والبناء الفوقي، خصوصاً وأن الأخير يرتبط بالبناء التحتي عن طريق أسلوب الإنتاج السائد في المجتمع، ويتأثر بالتغيرات التي تحدث في مستوى تطور القوى المنتجة والعلاقات الاجتماعية.. علماً بأن هذا التأثر قد يكون محدوداً وبطيئاً، تبعًا لدرجة ونوعية هذه التغيرات . أما اللغة،فإنها ترتبط مباشرة بالنشاط الاجتماعي للناس في كل مجالات الإنتاج المادي والروحي،وتتأثر مباشرة بمنجزات هذا النشاط في مختلف حقول الصناعة والزراعة والآداب والفنون والعلوم..الخ، حتى وإن لم تؤد هذه المنجزات إلى انقلاب حاسم وشامل في بنية المجتمع التحتية، الأمر الذي يجد تجسيداً له في التطور المستمر والشامل لمعجم اللغة،على النحو الذي أشرنا إليه آنفاً،وذلك من خلال اكتساب مفردات وتعابير جديدة تواكب الاحتياجات المادية والروحية المتنامية في حياة الناس الاجتماعية، وهجر استخدام بعض المفردات والتعابير القديمة التي لا تتفاعل مع منجزات الحياة المعاصرة، فيما تكتسب بعض المفردات والتعابير المتداولة دلالات ومعاني جديدة . على أن ذلك لا يقود إطلاقا إلى تدمير الأرومة الأساسية للمفردات ونظام قواعد اللغة الذي يظل أساسا ثابتا لتطور اللغة.. وهو ما يستدعي الإشارة إلى أن التأكيد على القيمة الوطنية والتاريخية للغة،يكتسب أهمية خاصة في مواجهة بعض المفاهيم العدمية والفوضوية التي تعتبر المحافظة على الأرومة الأساسية للمفردات ونظام قواعد الكلمات موقفا غير ثوري.. ويزيد من حدة الإشكالات التي تتركها هذه المفاهيم الخاطئة، ذلك التأثير الذي ينشأ عن انتشار حركة التجديد التعبيري في الأدب العربي والعالمي، وما يرافق هذا التجديد من شيوع للمفاهيم والتصورات الثورية المتنوعة.. وبضمنها النزعات الثورية الشكلية . فما من شك، أن البناء الفوقي للمجتمع، لا يملك القدرة على الثبات والخلود، إذ أنه يتغير وينتهي بمجرد حدوث انقلاب شامل في بنية المجتمع التحتية، أما اللغة فهي نتاج لعصور مختلفة، وتمتلك القدرة على البقاء والاستمرار والخلود عبر اختلاف العصور التاريخية والنظم الاجتماعية. وقد تتطور اللغة من خلال اكتسابها العديد من التعابير والمفردات تبعا لتطور خبرة العمل الاجتماعي للبشر ، إلا أن هذا التطور يقوم دائما على أساس نظام قواعد اللغة وحده وليس خارجه.. ولما كانت اللغة هي الوسيط الذي يتواصل من خلاله الناس، ويتبادل الأفراد بواسطته خبرات ومنجزات نشاطهم المادي والمعرفي، فإن الوجود الاجتماعي يصبح مستحيلاً بدون لغة يفهمها المجتمع، ويشترك في تداولها كل أعضائه.. وبهذا لا تصبح اللغة هدفاً في الصراع بين أعضاء المجتمع الطبقي، بل تغدو أداة في هذا الصراع، حيث يتم استخدامها في صياغة المفاهيم والتصورات والرؤى الفكرية والسياسية المتناقضة داخل المجتمع الواحد، وبين صفوف الشعب الواحد، مما يفسر اشتراك اللغة الرفيعة الواحدة في خدمة ثقافتين طبقيتين متناقضتين . ويؤكد تاريخ تطور المجتمع البشري بأن الأرومة الأساسية للكلمات الأصلية النواة في اللغات الوطنية، توفر أساسا يساعد في صياغة واكتساب كلمات ومفردات جديدة، وتبعاً لذلك، فإن الذي يتغير في اللغة هو معجمها فقط، حيث يتم التغير طبقاً لتطور إنجازات نشاط الناس المادي والمعرفي . وبالنظر إلى التأثير الذي يحدثه المجتمع في معجم اللغة، فإنه أي المعجم لا يمكن أن يغتني ويتنوع بدون السيطرة الصارمة لأرومة الكلمات ونظام قواعدها، كشرط لتحويل الكلمات وتركيبها في جمل وأساليب، وإظهار أفكار الإنسان في صورة لغوية مادية . وإذا كان لابد من الإشارة إلى السبب الرئيسي وراء قدرة اللغة على استمرار في خدمة المجتمع البشري عبر اختلاف العصور التاريخية والأنظمة الاجتماعية المتعاقبة، فإن هذا السبب يرجع إلى كون السمة النوعية للغة تكمن في قدرة نظام القواعد وأرومة الكلمات اللذين يؤلفان أساس اللغة على مقاومة العوامل الخارجية التي تستهدف قهر اللغة والقضاء عليها . وعليه .. يمكن القول بأن الثقافة واللغة عنصران مختلفان .. وأن وجود ثقافتين متصادمتين في المجتمع الواحد لا يعني نفي حقيقة وجود لغة واحدة وخالدة.. كما لا يسوغ انتصار الثقافة التقدمية وانهزام الثقافة الرجعية، الدعوة إلى إحداث ثورة في اللغة بصورة إرادية . فمن الثابت أن معجم اللغة يتطور ويغتني على الدوام.. ومن الثابت أيضاً أن ذلك التطور يتحقق على نحو فعال في ظل الثورة الاجتماعية التي تدمر البنى التحتية والفوقية القديمة، وتحرر القوى الحية من كل قيودها المعيقة لتطور نشاطها الاجتماعي المادي والمعرفي، وما ينجم عن ذلك من خلق حرية اجتماعية تتسع فيها منجزات النشاط الإنساني في مختلف ميادين العلم والتكنولوجيا والاقتصاد والثقافة.. الخ ، وتنعكس على منظومة معاني الكلمات والمفردات والأساليب المتداولة.. حيث تتجسد بذلك عملية "التحول الثوري" في الوعي الاجتماعي والوجود الاجتماعي للقوى الجديدة التي تشرع في صياغة نظامها السياسي الاجتماعي الجديد.. لكن هذا التطور في الحياة، وفي مدلولات التعابير والكلمات لا يتمُ استخدامه في اللغة بموجب قواعد (ثورية صرفة)، وإنما بموجب نظام قواعد اللغة المتداولة بين الناس . |