بقلم/زين العابدين الركابي - منهجية التعذيب ثابتة.. وكذلك (ثقافة الحقد والعنف) الجنرال في الجيش الأمريكي (وليام بويكين).. هل تذكرونه؟.. انه صاحب التصريح (العقدي) المشبع بالتطرف والعدوانية والحقد والكراهية والاستعلاء و(نبذ الآخر): التصريح الذي قال فيه: «كنت أخاطب رجلا صوماليا، وقلت له يومها: سنهزمكم ونسحقكم ونذلكم لان إلهنا أعلى واجل من إله المسلمين، فأنتم تعبدون صنما لا ربا».. ولعل الناس لا يزالون يتذكرون ماذا كان تعليق (رامسفيلد) وزير الدفاع الأمريكي؟.. كان تعليقه: «نحن بلد حرية التعبير.. ومن حق الجنرال بويكين أن يعبر عن رأيه»!! هذا الجنرال، ظهر اسمه ودوره في (جريمة القرن الحادي والعشرين): جريمة تعذيب العراقيين وإذلالهم في سجن أبو غريب العراقي وغيره من السجون الأخرى.. فقد تكشفت خيوط ومعلومات وقرائن تشير إلى أن هذا الجنرال المتعصب دينيا زود مسؤولا مدنيا كبيرا في (البنتاجون)، في الصيف الماضي ـ 2003 ـ بتوصيات او برنامج يفصل (كيفية) حصول المحققين العسكريين الأمريكيين على معلومات استخباراتية من السجناء والمعتقلين العراقيين، وان هذه التوصيات تضمنت التعذيب الجسدي، والانتهاك الجنسي، وان هذا البرنامج ظفر بموافقة جهة عالية المستوى.. ولقد تبدى هذا التخطيط المتوحش والتدبير الإجرامي في أثناء جلسة لمجلس الشيوخ الأمريكي: مخصصة لاستماع الشهادات في هذه القضية.
علام يدل ذلك التخطيط والتدبير والتعبئة؟
أولا: يدل على (المنهجية) الرتيبة المنتظمة المطردة. فالجنرال ـ المحفوز ببواعث دينية شديدة التعصب ـ فكّر مليا في (فنون) تعذيب العراقيين وإهاناتهم ـ ومعه من يعاونه على ذلك بداهة ـ. وتمخض تفكيره عن (برنامج مفصل للتعذيب والإذلال).. ثم صَعَد البرنامج إلى مستويات أعلى فوافقت عليه وباركته!
وهناك معلومات مستفيضة تؤكد ان التعذيب كان (منهجا) له قواعده وخطواته وآلياته وتوقيته.. وهذه مجموعة من تلك المعلومات والخيوط والشهادات:
1 ـ «تلقيت أمرا بتحويل سجن أبو غريب إلى جحيم، والى جوانتانامو آخر. ولقد قاومتُ تسليم إدارة السجن إلى الاستخبارات العسكرية دون جدوى.. ان الجنرال ريكاردو سانشيز قائد القوات البرية في العراق، والرئيس الجديد لادارة السجون الجنرال جيفري ميلر اتخذا قرارات أدت إلى تعذيب سجناء عراقيين».. الجنرال جانيس كاربينسكي المسؤولة السابقة عن إدارة السجون الأمريكية في العراق.
2 ـ «هناك طريق طويل من التسلسل القيادي: من رامسفيلد إلى الجنود من الفرقة 37 بالشرطة العسكرية.. وشعور وزير الدفاع بان الحرب الأمريكية تمثل استثناء من القواعد القديمة، اسهم بالتأكيد في إيجاد مناخ مكّن من ارتكاب الانتهاكات. ولقد قال وزير الدفاع في فبراير 2002: إن وضع أسرى الحرب كما ورد في مواثيق جنيف الخاصة بهذا الأمر لا ينطبق على معتقلي جوانتانامو. وشعور وزير الدفاع بان حرب أمريكا حالة استثنائية جعل من ممارسة التعذيب، وإساءة التعامل أمرا ممكنا».. آن ابيليوم.. صحيفة الـ«واشنطن بوست».
3 ـ «إن ضباط مخابرات عسكرية ورجال أمن مدنيين ممن كانوا يقومون بعمليات الاستجواب، كانوا يسلمون المعتقلين لوحدة الشرطة العسكرية في سجن ابوغريب. واني كنت مكلفة بجعل المعتقلين ينهارون استعدادا للاستجواب. وكانت مهمة الشرطة العسكرية جعل المعتقلين متيقظين، وان تكون حياتهم اليومية جحيما حتى يتكلموا» .. المجندة في الجيش الأمريكي (سابرينا هارمان).
4 ـ «ان هذه الانتهاكات المروعة في سجن ابوغريب تعكس سياسة الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة جورج بوش. وهذه السياسة هي: تعمد معاملة الآخرين بطريقة غير لائقة».. الادميرال ستانفيلد تيرنر: المدير الأسبق لـCIA.
5 ـ «يجب فهم الأمر على رغم صعوبته. فالعراقيون لا يفهمون سوى القوة. فاذا حاولت الحديث معهم شخصا لشخص لن يفعلوا ما تريد. لذلك يجب استخدام العنف معهم». اللفتاننت (مايكل درايتون) سرية الشرطة العسكرية 870.
6 ـ «إن الجيش الأمريكي فعل بالمعتقلين العراقيين ما كان يفعله نظام الرئيس المخلوع صدام حسين من تعذيب وإهانة لهم. وعلى الرغم من ان المسؤولين الامريكيين كانوا على دراية بهذه الممارسات منذ عدة اشهر، فان الجيش الامريكي يكتفي فقط باعتقال الجنود المتهمين بتسريب صور المعتقلين: الى وسائل الإعلام الأمريكية».. صحيفة «نيويورك تايمز».
7 ـ «استخدمت عدة وسائل وأساليب لتعذيب وإهانة المعتقلين العراقيين. ومن ذلك: تغطية رؤوسهم بالأكياس لمنعهم من الرؤية والتنفس بحرية.. وتكبيل أيديهم بأصفاد مشدودة تؤدي إلى جروح أو تعطل الأعصاب.. وضربهم بأعقاب مسدسات وبنادق وصفعهم ولكمهم وركلهم على أجزاء مختلفة كالساقين والضلوع والحوض والخصيتين.. إبقاء المعتقل ممدا أرضا بالضغط عليه بالأحذية.. تهديد المعتقل بمزيد من سوء المعاملة، أو الاعتداء على عائلته، او إعدامه الفوري، او نقله إلى قاعدة جوانتانامو.. إبقاء المعتقل عاريا بضعة أيام في زنزانة انفرادية مظلمة تماما، مع حرمانه من النوم والطعام والشراب.. استعراض المعتقل عاريا خارج الزنزانات أمام معتقلين آخرين وحراس، ورأسه مغطى في بعض الأحيان بسروال داخلي نسائي.. تكبيل المعتقل ساعات، وعلى مدى عدة ايام متعاقبة بواسطة أغلال: إلى قضبان في زنزانته في وضعية مهينة (وضعية عري) ومضنية تثير ألما جسديا.. تعريض المعتقل للشمس في اكثر ساعات النهار حرارة تصل أحيانا إلى 50 درجة مئوية او اكثر.. وان اكثر من 90% من هؤلاء المعتقلين العراقيين اعتقلوا بطريقة ارتجالية عشوائية، أي بدون سبب او مبرر.. وان هذا التعذيب مارسه العسكريون الأمريكيون بنسق منهجي».. تقرير اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
هذه ـ من ثم ـ سياسة (منهجية)، لا مجرد (اجتهادات فردية).. ومن الإهانة لذكاء البشر، بمن فيهم الأمريكيون أنفسهم ـ: الزعم بأن الجريمة تصرفات شخصية. ذلك انه قد ثبت أن في الأمر: تفكيرا وتبييتا للنية وعزما وارادة وتخطيطا وتدبيرا.. وهذه هي (المنهجية) عينها.
ثانيا: والظاهر إن وراء هذا الهول المرعب من التعذيب والإذلال (فكر عنف) و(ثقافة حقد وانتقام).
فبالعودة إلى مبتدأ المقال: يتبدى ما في كلام الجنرال بويكين من ثقافة مثقلة با لحقد الديني، وبالنزوع الى العنف والانتقام.. ولو كان هذا النوع من المقولات صادرا عن مثقف مدني مثلا لربما هان الأمر (مع التشديد على خطورة الأفكار الشريرة انى كان مصدرها).. ولكن صدور هذا الحقد الديني والتلمظ على الانتقام: من جنرال كبير في الجيش الأمريكي غير سابق، أي لا يزال عاملا في ذلك الجيش: إن يصدر مثل ذلك عن عسكري هذه صفته، فمعنى ذلك عمليا: إن أفكاره أخذت طريقها إلى الميدان التطبيقي.. وهذه حقيقة واقعة، وليس تقديرا نظريا.. والدليل على إنها حقيقة واقعة هو: إن أفكار بويكين أصبحت (برنامجا) ميدانيا: استندت إليه، او انبثقت منه جرائم تعذيب العراقيين في سجن أبو غريب.
على إن أفكار هذا الجنرال ـ المعبأ بشحنات دينية متعصبة وحاقدة وعدوانية ـ ليست أفكارا مفردة او شاذة. بل هي أفكار تندرج في سياق متشابه المضامين.
في البدء قال كبيرهم: «اننا نخوض حربا صليبية». فلما ثار العالم ـ بوجه خاص ثار كبار القادة الدينيين المسيحيين ـ: حصل تراجع.. بعض الناس يقول: انه تراجع (حقيقي). وبعضهم يفسره بانه (تكتيكي).. ولقد ختم الصحافي الأمريكي اللامع (بوب ودورد) كتابه (بوش محاربا) بهذه العبارة: «نحن سنصدر الموت والعنف الى أركان الأرض الأربعة دفاعا عن امتنا العظيمة».. وهي عبارة تخللت (دعاء او صلاة الحرب) بين يدي الحرب على العراق. كما جاء في أعلى الصفحة التي ختمت بتلك العبارة.. ومعروف: ان اليهودي الصهيوني (برنارد لويس) مقرب ـ بل اكثر من مقرب ـ من كبار قادة الإدارة الأمريكية، فهو ممن يشير على هؤلاء في الصبح والظهيرة والمساء.. هذا الرجل أدمن التعبئة ضد الإسلام والمسلمين.. ومما قاله في هذا المجال: «إن الإرهاب مركوز في صميم عقيدة المسلمين. وان هؤلاء الناس لا يصلح معهم الا لغة القوة. وقد كانوا احسن حالا عندما كانوا مستعمرين. فلما رحل عنهم الاستعمار تخلفوا وازداد عبثهم.. والخيار العملي الوحيد للتعامل معهم في الحاضر والمستقبل هو استعمارهم من جديد».
هذا الفكر المتطرف.. وهذه الثقافة العدائية المتعصبة هما اللذان أمدا سياسة التعذيب المنهجي، وزودا زبانية التعذيب ـ من كل مستوى ـ بدوافع وحوافز وشحنات هذه الجريمة التي إن وصفها واصف بأنها (صورة من صور النازية) لم يكن مهولا، ولا مبالغا.. ولكن ما معنى هذا؟.. هل معناه إن الحرب أو (الصراع ديني)؟!.. هو كذلك في نظر شريحة من الغلاة المتنفذين.. بيد ان نظرة هؤلاء الغلاة لم تنبع من (تفويض مسيحي عام) بشن حرب كونية على المسلمين.. والبرهان على ذلك: ان هؤلاء الغلاة أنفسهم ليسوا (متدينين). فالمتدين بحق (لا يكذب)، لان هذه الوصية هي أولى وصايا الإنجيل. في حين ان هؤلاء قد ملأوا الأرض كذبا في قضية أسلحة الدمار الشامل.. ثم ان المتدين بحق: لا يذل الانسان ولا يعذبه، فان (السبت خلق من اجل الإنسان ولم يخلق الإنسان من اجل السبت). في حين ان هؤلاء الغلاة عذبوا الإنسان في العراق، وأفغانستان، وجوانتانامو.. يضم إلى ذلك: إن بابا الفاتيكان قد جهر بان ما وقع في سجن ابوغريب جريمة تستجلب غضب الله ومقته.. وان الشعوب المسيحية كافة ـ بما في ذلك الشعب الأمريكي ذاته ـ قد روعها الخزي الذي مارسه زبانية العذاب ضد المعتقلين العراقيين، فقامت تدينه وتتبرأ منه وتلعن فاعليه.
ومع براءة عامة المسيحيين او أكثريتهم مما يجري من ظلم وطغيان وفجور، فان (ثقافة العنف والتعصب) عند غلاتهم: شيء لا ينكر ولا يستهان به.. والعجيب الغريب المريب: ان الأعراب الذين ملأوا الأرض صياحا ونقدا لـ(ثقافة التعصب والعنف ونبذ الآخر) عند المسلمين «!» وانها هي وراء الدموية التي يمارسها نفر من المسلمين.. هؤلاء الصائحون النائحون: أصيبوا بالبكم التام تجاه (ثقافة العنف) التي تغذى بها زبانية التعذيب في العراق وغيره.
فما علة هذا الموقف المعجون بالباطل والنفاق؟
ان خزي فضيحة سجن ابوغريب لم يُصب على الفاعلين المباشرين فحسب، بل صُب ـ كذلك ـ على المسوغين لفعلهم، أو (الملطفين) له.. فالعلة ـ من ثم ـ هي: ان هؤلاء يكنون لأمتهم حقدا لا يقل عن حقد الأباعد الشانئين.. ولقد عُرف الآن: لماذا تحمسوا لغزو العراق ـ مثلاـ؟ لقد تحمسوا لذلك ليس من اجل تحرير العراقيين من التعذيب. وانما لانهم يعتقدون: أن الأمة لن تتقدم ألا بـ(وصاية أجنبية)، وإلا لما فرقوا بين تعذيب عربي، وآخر أجنبي، ولما فتحوا أفواههم على آخرها بنقد ثقافة العنف عند المسلمين. ووضعوا ـ في الوقت نفسه ـ على أفواههم أقفالا من حديد بازاء ثقافة العنف عند الآخرين.
#نقلا عن الشرق الاوسط |