بقلم-علي العامري -
صنعاء فردوس الهندسة (2)
حديث المقيل
بعد ذلك ذهبنا الى المركز الثقافي، وفي مجلس “المقيل” دخلنا في حوار عن الشعر والاصوات الجديدة، واخبرنا محمد حسين هيثم عن المشاريع الثقافية التي انجزت أو التي هي قيد التحقق، وعرفت منه انه تمت طباعة 200 كتاب خلال سنتين، اضافة الى مشروع اعادة طباعة كتب لمبدعين يمنيين في الاربعينات.
فرحت كثيرا بهذا التدفق في الانجاز ومواصلته واعادة الاعتبار للمنسي ايضا. وتأكدت ان ثمة جهودا حقيقية تسعى الى اعلاء الشأن الثقافي، وخاصة الادبي. وتأكدت ايضا ان ثمة انزياحا في البؤر الثقافية العربية التقليدية، وان اليمن تتقدم لتكون في موقعها الاشعاعي الطبيعي. وما الاحتفالية بإعلان صنعاء عاصمة للثقافة العربية للعام 2004 سوى اعلان يمتد عاما كاملا، عن صعود اليمن الى مقامها الطبيعي في خريطة الثقافة العربية. وقد جاء ملتقى صنعاء للشعراء الشباب العرب تحت شعار “التسعينيون وآفاق الكتابة الشعرية” تأكيدا للروح الجديدة التي تزيد جذوة الابداع وتضيف “قمريات” مغايرة الى معمار النص الشعري، على الرغم من التحديات الكثيرة، وبغض النظر عن مدى المسافة الزمنية بين الرغبة والتحقق.
في الجلسة، تحدثنا عن الاوضاع الثقافية العربية بصورة عامة وعن معاناة المبدعين وهمومهم. وأبدى عبدالناصر مجلي ملاحظة بناء على معايشته العملية والثقافية في الولايات المتحدة، وقال ان أوضاع المبدعين الشباب في امريكا تشبه الى حد كبير أوضاع المبدعين في الوطن العربي. ولفت الى ان لقاءات تتم بين المبدعين الامريكان والآخرين من مختلف دول العالم، حيث يلتقي الشعراء والتشكيليون والموسيقيون والمسرحيون والسينمائيون والروائيون وكتاب القصة من جيلي الثمانينات والتسعينات، بما يشبه الورشة الابداعية، يجربون ويتحاورون ويقرأون بلغاتهم الاصلية نصوصهم ويترجمون ايضا. وقال انه عندما قرأ قصيدة له باللغة العربية، احس زملاؤه كثيرا بإيقاعاتها. وعلق بعضهم بأن العربية لغة غنية بموسيقاها. انهم أحسوا بذلك من دون ان يعرفوا اللغة ذاتها، انهم بذلك بحثوا عن المعنى العميق الذي في الموسيقا.
وتحدثت عن المخاض المغاير الذي ينتاب الساحة الثقافية في اليمن، كملاحظة اولى على ما يمور ويتفاعل ويتأجح في المشهد وبناء على الانجازات والمشاريع الثقافية التي عرفت بها، وبناء على روح المغامرة والمشاغبة والابداع التي عبر عنها جيل الكتابة الجديدة في اليمن. وكان هذا الحراك الجديد يماثل في جوهره ما حدث في الثمانينات وبداية التسعينات في الساحة الثقافية في الامارات، حيث مثلت تلك المرحلة تحولا كبيرا في المشهد الثقافي في الامارات، حيث بدأت اسماء جديدة في الشعر والقصة والمسرح والاشكال الابداعية الاخرى.
كما يشبه المشهد الثقافي في اليمن الوضع الثقافي في الاردن خلال التسعينات وظهور اسماء جديدة وتشكيل “جماعة اجراس الشعرية” ثم جماعات ثقافية اخرى، وكان ذلك اعلانا بموجة ابداعية جديدة كانت تتشكل مع منتصف الثمانينات الى ان فكت الطوق وخرجت الى العلن وحققت حضورا متميزا.
لقد أوردت هذين المثالين، لأنني كنت قد عايشتهما. وكل ذلك يؤكد الانزياحات في البؤر “المراكز” التقليدية للثقافة العربية. وهذا ما يؤكده الابداع الجديد في مناطق عربية اخرى ايضا، كانت على الهامش، لكنها الآن تتقدم في الفاعلية الثقافية، وتجلى ذلك في المشهد العام الذي رسمه ملتقى صنعاء الشعري من خلال جلسات القراءة والنقد في قاعة الشهيد الزبيري في المركز الثقافي، اضافة الى التواصل بين الشعراء.
جلسة المقيل الاولى كشفت عن ابعاد متعددة، حيث لاحظت ان عددا من المواطنين اليمنيين رجالا ونساء يأتون الى المقيل حاملين في ايديهم اوراقا تقدم الى أحد الجالسين في المقيل فيوقع عليها. وعندما سألت عن سر ذلك، عرفت ان مسؤولين في دوائر حكومية يسهلون معاملات الاهالي خارج الدوام الرسمي.
لم استطع النوم، طوال تلك الليلة، واحسست بنشاط اضافي. بقيت في سريري، حيث كتبت نصا شعريا قصيرا، في حين كان صديقي شوقي شفيق يغرق في النوم، حيث كان قد زارني في تلك الليلة. بقيت على تلك “الحالة الشمسية” على الرغم من الليل الممتد خارج النافذة الزجاجية العريضة في الغرفة “210” في فندق “حدة”، الى ان بدأت اصوات الطيور تتعالى في الحديقة الخلفية، حيث تنطلق تلك السيمفونية حوالي الساعة الخامسة والنصف صباحا. حيث خرجت من الفندق بعد نصف ساعة من الاصغاء الى موسيقا الطيور الصباحية. ومشيت وحيدا في شارع حدة، بعدما كتبت ملاحظة على ورقة لصديقي شوقي، بأنني سأخرج في مشوار صباحي.
في الشارع، كانت المحلات لاتزال مغلقة، والحرس الذين يتناوبون على اليقظة امام بوابات المراكز كانوا يشربون الشاي. في حين كانت مجموعة كبيرة من العمال يشترون افطارهم، وكان على الاغلب، عبارة عن قطع من الكعك مع الشاي بالحليب، يتناولونه على عجل وهم يحملون معاول وأدوات مختلفة. وكانت الحافلات الصغيرة التي يطلق عليها اليمنيون اسم “الدباب”، بالفعل تدب بدأب خلية نحل، في ذلك الشارع الذي كان لا يزال يفرك عينيه، بعدما ايقظته الاصوات والحركة. واصلت المشي في هذا الشارع الصنعاني الذي يكتظ بمحلات الهواتف المتحركة ومراكز “الانترنت”، الى ان وصلت مقابل مسجد الرحمن، ومن هناك، عدت الى الفندق، وكانت الساعة السابعة صباحا، حيث كنت امشي ببطء المتأمل. ثم نمت حوالي ساعتين، قبل ان تنطلق الحافلات الى المركز الثقافي لحضور افتتاح ملتقى الشعراء الذي استمرت فعالياته اربعة ايام.
غواية هندسية
بما أنني كنت قد بيت النية لجولة في صنعاء القديمة، فقد كان لي ذلك، حيث حضرت جزءا من احدى الجلسات الصباحية في المركز الثقافي، ثم خرجت أنا والصديق الشاعر العراقي علي حبش الى الشارع المجاور، ودخلنا مكتبة اشتريت منها ثلاثة كتب هي “نقوش مسندية وتعليقات” للباحث مطهر علي الارياني، صادر عن مركز الدراسات والبحوث اليمني، و”شبوة عاصمة حضرموت القديمة” الصادر عن المركز الفرنسي للدراسات اليمنية، وهو من اعداد الباحثين عزة علي عقيل وجان فونسوا بريتون، والكتاب الثالث بعنوان “الحياة النباتية في سقطرة” للدكتور سعيد عبده جبلي، وهو من مطبوعات جامعة عدن، ومن المعروف ان سقطرة تشتهر بانتشار اشجار “دم الأخوين” و”العندم” المدهشة.
بعد هذا المشوار، عاد علي حبش الى المركز، وانطلقت أنا في سيارة اجرة الى السحر الحي في صنعاء القديمة. وفي هذه المرة عبرت من “باب اليمن” ومشيت تقودني غواية المكان، ويرشدني التيه الجميل. مررت بالأسواق الشعبية، وتأملت النقوش المرفرفة في البيوت، حيث الهندسة الفطرية التي أبدعها اليمني القديم. خطوط وفتحات صغيرة تتنفس ونوافذ وقمريات من اقواس قزح واشكال ذات عمق طقوسي يعود جذورها الى ما قبل الاسلام، وأبواب خشبية عتيقة مطرزة بلمسات العشاق ومحفورة بأشكال حيوانية ونباتية تجريدية. مآذن شاهقة وممشوقة في الهواء الطلق. قباب توحي بالابعاد الفكلية في روح المعمار اليمني. ممرات ضيقة وأزقة. مطر دافئ مفاجئ وعابرون يمشون تحت مظلات المحلات المتلاصقة. اطفال يعودون من مدارسهم يهرولون بمحاذاة جدار. نساء بلباس تقليدي مطرز بالزهور يبعن الخبز. سائحة المانية تجادل بائعا وهي تحمل بين يديها عقدا من العقيق اليماني، في حين كان زميلها يتفحص عقد مرجان وفضة. وكان صبي يعمل في المحل ذاته، يعبر عن حبه لالمانيا، ويتحرك بمرح.
واصلت المشي التأملي، وكنت أسيرا لهذا الجمال المدهش والمتنوع والحي، وكنت مبتهجا لهذا الأسر الغامض والغموض الآسر. وكنت التقط الصور، راصدا التفاصيل، خاصة الابواب والقمريات وحركة الاطفال والنقوش، اضافة الى المشاهد العامة التي تكشف عن حوارية الناس والحجر والطين والبياض والظلال والنقوش والجنائن. حجارة البناء ذات الوان متعددة من الاحمر والترابي والاسود. في حين لاحظت بعض البيوت مبنية من حجر اخضر فاتن في مناطق اخرى من العاصمة، ولم الحظ وجود هذا الحجر في صنعاء القديمة.
أما الخطوط والأشكال ذات الألوان البيضاء فهي مستخدمة بكثافة في العمارة الصنعانية، حتى تبدو البيوت كأنها مرسومة في الهواء. ويشير هذا البياض الى نقاء السريرة والطيبة والمحبة، وهي عناصر اساسية في شخصيتة اليمني، كما يشير هذا الابيض الصريح الى صراحة اليمني ايضا.
وقد أثار هذا العنصر المعماري اخي جهاد وهو فنان تشكيلي درس في جامعة بغداد، حيث تساءل عن سر هذا البياض، عندما شاهد الصور بعدما عدت الى الاردن.
ونتيجة الفتنة التي اصيب بها جهاد، اختار صورتين لبابين قديمين، واخبرني انه سيرسمهما بطريقة الطباعة الحديثة.
وخلال جولتي التي استمرت اربع ساعات في صنعاء القديمة، قادتني خطى التيه الى مناطق عدة، منها مشاغل للصناعات الشعبية ومشاغل للأحجار الكريمة ومحلات العقيق والفضة والمرجان وحديقة مستطيلة بين البيوت. وقد كتب الباحث عفيف البهنسي “ان مدينة صنعاء كباقي المدن الجبلية اليمنية مثل شبام ووادي حضرموت، مؤلفة من نسيج عمراني متلاحم لا تفصله إلا حارات ودروب ضيقة، وترتفع البيوت الى ما يقرب من ثلاثين مترا أحيانا، فهي ابنية سامقة كالأبراج البابلية، مؤلفة من خمسة طوابق وتصل الى تسعة طوابق في بعض الابنية. وتفتح واجهات هذه الابنية على الحارات أو الدروب، أو على البساتين التي تسمى المقشامة أو المقاشم، والتي تتوزع في انحاء المدينة القديمة، مشكلة رئة ومشهدا جميلا وموردا لحاجات السكان من الخضراوات والفاكهة”.
وفي مبنى للتحف والزينة، دخلت محلا واشتريت عددا من الخواتم. ثم خرجت من المبنى الى الشارع، ودخلت محلا في سوق النظارة اسمه “ملك العقيق اليماني” واخترت عشرة من احجار “العقيق المصور”، حيث تغفو اشكال تجريدية بديعة في كل حجر تظهر على صورة شجرة أو حيوان أو كوكب أو طائر. اشكال متعددة هاجعة في سبات حجري. وبعدما اشتريت الاحجار، اهداني البائع الطيب وهو شاب في مقتبل العمر حجرا من “العقيق الرماني”.
وفي ختام الجولة السحرية في “أزال”، وقبل وصولي الى “باب اليمن” لفت انتباهي قرنان على زاوية بيت، فأحالني هذا المشهد الى الرموز الوثنية، خاصة ان للوعل وللقرون والصيد المقدس في العصر السبئي مكانة بارزة في العبادات اليمنية القديمة، وقد كان الوعل يمثل “عثتر” إله المطر والخصب لدى اليمنيين القدامى.
في ذلك المكان وقفت، فمر صبيان، سألتهما عن سر القرنين على زاوية البناء، فأجاب احدهما “ان صاحب البيت لحام، وهذه اشارة الى مهنة بيع اللحم”. طبعا الاجابة غير مقنعة، وانما حاول الصبي مجتهدا قول ذلك. ظللت واقفا، ومر شاب، سألته، فقال: “ان سكان البيت من منطقة في اليمن يستخدمون القرنين للدلالة على منطقتهم”. وبقيت واقفا، الى ان عبر رجل في الاربعين من عمره، سألته، فقال لي: “انه حرز لحماية البيت”. وهذا هو التفسير الاقرب، وفقا للتراث الاسطوري في اليمن.
بعد ذلك خرجت من “باب اليمن” الى الشارع باتجاه اليمين، وظللت امشي بمحاذاة سور صنعاء القديم المبني في الاسفل من الحجر الاسود ومن الاعلى بالطوب الطيني، ويعود تاريخ السور الى القرن الاول الميلادي، وكان له ستة ابواب، لم يبق منها سوى “باب اليمن”.
واصلت المشي حتى منطقة السائلة. وهناك وقفت على الجسر الذي يقع على احد طرفيه برج قديم. ومن هناك كنت أتأمل تلك القصيدة المعمارية.
تحية الأعالي
برنامج ملتقى صنعاء الاول للشعراء الشباب العرب تضمن رحلة الى “وادي ضهر” الذي يبعد نحو اربعة عشر كيلومترا عن العاصمة صنعاء، في الساعة العاشرة صباحا انطلقنا الى الوادي. وفي الطريق كانت المشاهد لا تتوقف عن رشقنا بالدهشة. اشجار تتسلق الوعورة، واخرى تتراءى في قمم الجبال متداخلة مع الغمام، كما لو ان الاشجار مجنحة في تلك الاعالي. وثمة بيوت مجنحة ايضا ترفرف على حواف الصخور مثل نسور.
الطريق الى وادي ضهر يمثل شعرية الوعورة. وعندما وصلنا كانت “التالوك” العتيقة في استقبالنا، وكانت اعجوبة صخرية تنتظرنا في الاعالي، هناك حيث تربض “دار الحجر” التي يعود تاريخ بنائها الى القرن الثامن عشر، وبعض طوابقها السفلية محفورة في الصخور تليها طوابق حجرية.
في الساحة، كانت فرقة للرقص الشعبي تحيينا على طريقتها. وهناك كان الشاعران الكبيران عبدالعزيز المقالح وقاسم حداد، صافحتهما، ثم واصلنا متابعة الرقصات التي أداها عدد من الرجال والنساء باللباس التقليدي. وقد شاركت مع عدد من الزملاء في رقصة الشرقي التهامية، وكانت البهجة تملأ الروح.
وبعد الغداء، صعدنا الى المعجزة الحجرية، وكانت بجانبي الصديقة الشاعرة العراقية كولالة نوري. وفي الداخل، وجدنا انفسنا امام متاهة حيث تقودنا الدرجات الحجرية الى المزيد من الأبواب والانحناءات والتفاصيل. مدافن صخرية وآبار ومخازن وغرف لطحن القمح وثلاجات حجرية للمياه وخزائن في الجدران وممر سري وخزنة للمال ونقوش وفتحات وظلال غامضة. وعندما انهينا جولتنا هبطنا. وقبل ان نغادر ودعنا اشجار “التالوك” التي تحرس لغز الحجر.
في رحلة ثانية، كان موعدنا في الاعالي، حيث الغمام يتمرجح في الوادي السحيق ويعبث بمخيلة الوعورة، هناك في منطقة “المحويت”.
انطلقنا في العاشرة صباحا، خارجين من صنعاء، وكان المصور المبدع عبدالولي الطوقي يتولى مهمة التعريف بالمناطق التي نعبرها. وعلى مقربة من العاصمة، كان سفح جبل موشوما بالبيوت. قال عبدالولي ان هذه المنطقة تسمى “مدينة الليل”. لفت انتباهي الاسم، فسألت الشاعر اليمني الهادئ احمد السلامي الذي كان يجلس جواري، حيث أوضح لي سبب التسمية قائلا: “انه لا يوجد تراخيص للبناء في هذا السفح، لذلك كان الاهالي يبنون عندما يحل الليل، وكل صباح يولد بيت جديد بأطفال يأكلون الخبز ويلعبون امام البيت، وكذلك يولد حبل غسيل ترفرف عليه الملابس، كما لو ان اصحاب البيت يسكنون هنا منذ سنوات”.
ابتسمت لهذه البيوت المولودة ليلا والتي تتسلق السفح بارتباك وعلى عجل، كما لو انها تهرب من رجال البلدية.
هذه البيوت الليلية، ربما تشير الى انها مثل الاطفال الذين قد تصادف ولادتهم في الليل ايضا. كما تشير، ربما، الى ان الليل حيلة معمارية، ذكرتني بما كان يحدث في قريتي “القليعات”، حيث كان الاهالي الذين لم يحصلوا على ترخيص بالبناء، يتبعون الحيلة الليلية، حيث يقيمون الاعمدة الاسمنتية والسقف، تحت اضواء القناديل. وفي الصباح كنا نرى هياكل البيوت، وكذلك الأمر يحدث مع الاضافات على البيوت القائمة. وفي هذه الحالة، يكون الليل نصيرا، يتمنى الاهالي ان يطول اكثر، مثل ليل العشاق، حيث يكون الصباح معاديا في هذه الحالات. واصلنا طريقنا بين الجبال، حيث تمتد اشجار القات على الجانبين، وتتباهى المدرجات الزراعية في ثياب خضراء. وتتناثر اشجار ونباتات متنوعة مثل الصبار والطلح واشجار ليلكية الزهور. وكانت تنتشر في الاراضي فوهات كما لو أنها ازهار بركانية.
وطوال الطريق المتعرج مثل افعى اسطورية تتلوى بين الجبال صاعدة وهابطة. وعرفت من الصديق السلامي ان بعض الشوارع القديمة في اليمن بناها الصينيون مقابل شروط معينة، ولكن بعدما أتموها، لم يف “الإمام” بشروطهم، قائلا: “اذا لم يعجبهم الأمر، بإمكانهم ان يطووا الشوارع ويأخذوها الى بلدهم!”. ضحكت على هذا المنطق الطريف الذي يرى الطرقات سجادة يمكن لفها.
واصلنا طريقنا، وكان لقمان ديركي يتناوب مع عبدالولي الطوقي رشقنا بالفكاهة حينا، وبالغناء حينا آخر. حتى وصلنا الى شهقة الاعالي، هناك في “المحويت”، تمحو الغيوم رؤوس الجبال، وتدخل من نوافذ البيوت المعلقة، كما لو انها تداعب اهالي الجبال. ويبدو الضباب هناك مثل بخور يشعله الجن في حفلة الاعالي. وكانت الرهافة تقف على حافة صخرية وتتهيأ للطيران.
مرت ايام صنعاء بسرعة، لكن القلب ظل ينبض بالضوء. لقد ذهبت الى اليمن، وكنت اعرف اصدقاء بعدد اصابع اليدين، لكن شجرة الاصدقاء كبرت، حتى غدت مثل “تالوكة” تظلل الابجدية.
في نهاية الرحلة الصنعانية التي امتدت اسبوعا، حملت معي زوادة من البن اليمني، وامتلأت روحي بفل تهامة، وأنا الوح مودعا الرائعين، وكان سعيد الشدادي آخر من رأيت في مطار صنعاء.
نقلاً عن الخليج الاماراتية