محمد علي عناش -
باسندوة.. «بؤس الخطاب وسرابية الذات»
منذ أيامه الأولى في رئاسة حكومة الوفاق الوطني عندما نجح محمد سالم باسندوة داخل مجلس النواب أن يمرر مشروع الموازنة التقديرية للعام 2012م عبر مخاطبة عواطف ووجدان أغلبية النواب المعترضين على الموازنة، بتقمص صورة الصوفي الزاهد، وبرسم حالة وطنية وإنسانية تتكلم بلغة الدموع والبكاء من موقع رجل الحكومة الأول، أدركنا أننا أمام شخصية مغايرة تجاوزت شخصية النمطية لمن يشغل هذا الموقع، غير أنه التجاوز السلبي للغاية الذي جعلنا نضع أمام هذا الرجل علامات استفهام كثيرة.
صحيح أن باسندوة بهذا التقمص لحالة الصوفي الزاهد والوطني الغيور، تمكن أن يؤثر في غالبية اليمنيين كونه خاطب فطرتهم الطيبة التي سرعان ما تتداعى أمام مثل هذه المشاهد الى الدرجة التي جعلت الشيخ سلطان البركاني أكثر المعترضين على هذه الموازنة «المكلفة كلفات»، ينهض ويفز كي يقبل صلعة باسندوة بكل حميمية ومودة.
نحن تأثرنا أ:ثر بموقف البركاني، كون دلالة ما قام به أعمق وأكثر صدقاً وعفوية، أما بالنسبة لباسندوة فإنه عكس لدينا منذ الوهلة الأولى، أن هذا الرجل لا يمكن أن يكون رجل المرحلة وليس هو الشخص المناسب لإدارة الأزمة اليمنية، التي تتطلب مواصفات ومؤهلات قيادية وشخصية معينة، سرعان ما أثبت باسندوة أنه لا يمتلكها، حيث كان الأجدر به أن يكون أكثر موضوعية وأكثر إتزاناً وعقلانية في فهم واستيعاب طبيعة المرحلة وفي التعاطي مع القضايا الوطنية الراهنة وفي الظهور بمظهر رجل الدولة والمرحلة الوفاقية.
لم تخنا فراستنا في الرجل، فالايام أثبتت بالفعل أننا أمام رجل مدع بالوطنية ومتشح بعباءة ثورية مزينة، وليس الا مجرد تابع وأداة من أدوات التأزيم التي تستخدمها وتوظفها مراكز القوى والنفوذ، والبوابة الرسمية التي تمرر من خلالها سياسة الاقصاء وتصفية الحسابات والصفقات والاتفاقيات المشبوهة.
نحن بحاجة الى مزيد من الصراحة ومن ممارسة عوامل التعرية لرجل دشن مشوار حكومته ببكائية، واحتفل بسنويتها الأولى بعنترة وبذاءة.
باسندوة طوال عام كامل، لم يعكس أنه بالفعل رئيس حكومة، فهو لم يقل شيئاً يؤكد ذلك، حيث لم نسمعه بحكم منصبه يتكلم عن برامج واستراتجيات وطنية، ولم يناقش قضايا ومعوقات اجتماعية واقتصادية ولم يتكلم عن أسس ومفاهيم تنموية بشيء من الخبرة السياسية والمعرفية حتى الدولة المدنية التي غالباً ما يرددها ليس لها ملمح ناضج في وعيه وثقافته، هذا ما أكدته خطاباته وتصريحاته التي لم تعكس سوى فراغ المضمون وسرابية الذات..
هو لا يقول شيئاً سوى البكاء، وتجسيد صورة الصوفي الزاهد الذي يحاول جاهداً أن يخفي حقائق كثيرة هي بالنسبة لباسندوة حجم مركزه المالي وحجم الملايين التي يتقاضاها شهرياً كمكافآت وبدل تنقلات وسفريات وعمولات وفوائد أخرى، وسوى العنترة الخطابية والاستفزاز المستمر للمؤتمر الشعبي العام ورموز وشخصيات في النظام السابق، إنه كوكتيل متعدد المكونات والطبائع الغامضة والمتناقضة.. ولا أعتقد أنه اكتمل بالصورة التي ظهر عليها مع شباب الساحات في مؤتمر حقوق الانسان، فالأيام كفيلة بأن تفرز صوراً وطبائع أخرى له، لأنه لا يتعاطى مع اللحظة الوطنية بشكل جدي ومسؤول كونه لم يكن في الأساس خياراً جدياً للمشترك لإنجاح التسوية السياسية والمبادرة الخليجية..
فمنذ الشهر الأول لم يتورع باسندوة وهو يفتتح مشاريع تنموية كبيرة تعتبر من إنجازات النظام السابق.. أن يدشن مشواره الوفاقي باستفزاز مقيت وبنبرة ثورية لا وجه لها، ولا تستقيم في معنى أو رؤية أو رزانة عقل، والغريب فيها أنه يضمنها بآية قرآنية يقرأها بشكل مكسر، ومع ذلك لا يتورع في تقاريره أن ينسب هذه المشاريع الى إنجازات حكومته التي ليس لها من إنجازات سوى ما يحدث في مأرب.
نحن نضطر بعض الأحيان أن ندافع عن ما يسموه بالنظام السابق وأن ننصفه عندما يصل التضليل والكذب الى هذا المستوى العالي من المراوغة والمكايدة السياسية الشخصية، وعندما يمارس الفساد والتخريب تحت يافطة ثورية عريضة، ويحاط بهالة من القداسة المتسخة، التي تجعل الكثير من النخب الثورية تصمت وتمارس الانتهازية السياسية بشكل سافر ومخجل.. تذكرني هذه الفترة وكذا حكومة باسندوة وتجاوزاتها وفساد الكثير من أعضائها ومؤسساتها بالانكشارية العثمانية في عهد سليمان القانوني بالقرن الثامن عشر، وهم الولاة العثمانيون الذين يتم تعيينهم في الأقاليم والمستعمرات لمدة عام واحد فقط، وخلال هذه الفترة علت همة الفيد ونزعة الغنيمة والاستحواذ والفساد، وأصبح المستقبل الشخصي لهؤلاء الولاة وحاشيتهم هو الشغل الشاغل لهم، فليس هناك من وقت كاف يضيعونه في إرساء دعائم العدل والبناء والتنمية وإقامة الاصلاحات في الأقاليم.