بقلم-حسن حنفي - هل تقوم حركة تحرر عربي ثانية؟ - دورة التاريخ تتجدد بتقريب آمال شعوب المنطقة ومصالحها
بالرغم مما يبدو علي الساحة العربية من يأس وقنوط، وإحساس عام بالإحباط والعجز إلا أن هناك بعض المؤشرات التي توحي بنهاية دورة في تاريخ العرب وبداية أخري. فقد بدأت الدورة الأولي في النصف الثاني من القرن العشرين، بداية بثورات الضباط الأحرار ونهاية باحتلال كل فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير. وبدأت المقاومة العربية في الظهور من جديد في الأوطان المحتلة تعطي نوعا من الأمل بقرب نهاية النفق، إنهاء دورة وبداية أخري.
بدأت الدورة الأولي بحركة تحرر عربي ضد الاستعمار في الخارج عن طريق تجميع كل القوي الوطنية بكافة أطيافها الإسلامية والماركسية والقومية والليبرالية منذ الثلاثينيات والأربعينيات وفيها نشأت حركة الضباط الأحرار. فقد كان الجيش هو القوة المسلحة الوحيدة القادرة علي القيام بانقلاب ضد الاستعمار في الخارج والقهر والفساد في الداخل. وكانت الأولوية للخارج علي الداخل. لذلك سهل تجميع القوي الوطنية المتنافسة علي الحكم ضد المستعمر الأجنبي حتي تحقيق الاستقلال وإقامة الدولة الوطنية المستقلة.
وتحقق ذلك بطريقتين: الأولي حرب التحرير الوطنية الشاملة في الجزائر أو الجزئية في ليبيا واليمن ومصر. والثانية مفاوضات الاستقلال مع العدو الخارجي بعد أن أدرك قوانين التاريخ وأن (علي الاستعمار أن يأخذ عصاه ويرحل) كما حدث في المغرب وتونس والسودان والخليج والعراق وسوريا ولبنان والأردن. وفي كلتا الحالتين ترك الاستعمار وراءه عدة بؤر استعمارية في أشكال جديدة مثل القواعد العسكرية مثل عدن في اليمن أو الأحلاف السياسية مثل الخليج والعراق أو الشركات الأجنبية مثل شركة قناة السويس في مصر. واستمرت حركات التحرر الوطني لإلغاء هذه البؤر مثل إسقاط حلف بغداد في العراق، وإلغاء معاهدة 1936 في مصر، وتصفية القواعد الأجنبية في بنزرت في تونس، وطبرق في ليبيا، وفي عدن في جنوب اليمن.
الدولة الوطنية
وقامت الدولة الوطنية، حصيلة حركات التحرر، بدورها في استرداد العزة والكرامة، وتكوين نظام عالمي جديد منذ باندونج 1955 وإنشاء حركة عدم الانحياز، والحياد الإيجابي، ومنظمة تضامن شعوب آسيا وأفريقيا. وأصبحت الدول الوطنية الجديدة تكوّن ثلاثة أرباع دول الأمم المتحدة، تصدر المواثيق الدولية من أجل الحفاظ علي الحركة مثل (الإعلان العالمي لحقوق الشعوب). وقامت الدولة الوطنية بخطط للتنمية من أجل رفع مستوي المعيشة، ودعم المواد الغذائية لمحدودي الدخل، وإقامة مشاريع للإسكان والكهرباء والماء والمواصلات لإشباع الحاجات الأساسية، وتقرير مجانية التعليم للقضاء علي الأمية، والإصلاح الزراعي لتحرير الفلاح، والتصنيع والتأكيد علي حقوق العمال، والتزام الدولة بتخريج الخريجين، وإقامة اقتصاد وطني مستقل يقوم علي التنمية الذاتية المستدامة وسيطرة الدولة علي وسائل الإنتاج، وتكوين قطاع عام قوي، يناط به التحديث.
وبعد نهاية القيادات التاريخية مثل ناصر، ونهرو، وتيتو، وسوكارنو، وسيكوتوري، ونكروما، وتنكو عبد الرحمن بدأت الدولة تتحول عن دورها الوطني. فقد نشأت طبقة متوسطة جديدة أثرت علي حساب الثورة من الضباط والتكنوقراط. ودب الفساد في الدولة. وانكفأت علي نفسها. وانقلبت الثورة من داخلها وربما بنفس القيادات من الصف الثاني إلي ثورة مضادة. وتحول القطاع العام إلي قطاع خاص، وظهرت طبقة رجال الأعمال يقودون حركة (الخصخصة). ورفعت شعارات قطرية مثل (مصر أولا)، (الأردن أولا)، (الكويت أولا) من أجل فك الارتباط مع العروبة والإسلام. أصبحت الأولوية للداخل علي الخارج. وأصبح عدو الأمس، الاستعمار والصهيونية حليف اليوم. ولما بدأت حركات المعارضة في الاشتداد، تحولت الدولة الوطنية التي قامت علي دعوي الحرية إلي دولة قاهرة مستبدة في الداخل، ولينة مع الخارج. تخشي علي النظام أكثر مما تدافع عن الحرية والاستقلال. وأصبحت عبئا علي الناس بعد أن كانت نصيرا لهم.
وقد خرجت حركات التحرر الوطني الأولي من جُبّة الإصلاح خاصة تلك التي أسسها الأفغاني والتي قامت علي أساسها الثورة العرابية. فهو الذي صاغ الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل، ووضع شعار (مصر للمصريين). ومحمد عبده هو الذي حرر برنامج الحزب الوطني، وسعد زغلول تلميذه هو الذي قاد ثورة 1919، وحسن البنا تلميذ رشيد رضا، تلميذ محمد عبده هو الذي أسس أكبر حركة إسلامية في التاريخ الحديث، حركة (الإخوان المسلمين) منذ 1928 في الشرقية، وفي الإسماعيلية حيث معسكرات الجيش الإنكليزية. وحدث نفس الشيء في كل ساحات الوطن العربي. فقد خرج حزب الاستقلال وعلال الفاسي من الحركة الإصلاحية الوطنية السلفية في المغرب، وانبثقت حركة التحرر الوطني في الجزائر من جمعية العلماء المسلمين بالجزائر. وكان الإسلام وعبد الناصر هما الدعامتان الرئيستان للثورة. وخرجت حركات الجهاد في ليبيا من السنوسية وعمر المختار. وقامت الثورة اليمنية بفضل حركة علماء اليمن الأحرار.
حركات التحرر الوطني
وقادت مصر معظم حركات التحرر الوطني العربي نظرا لدورها المركزي. فهي الشقيقة الكبري في التحرر والتحديث. وتجربتها التاريخية في الحداثة أكثر امتدادا في الزمن وعمقا في التاريخ منذ دولة محمد علي في القرن التاسع عشر، وقيادة صلاح الدين حركة تحرر المسلمين من الاستعمار الصليبي في العصر الوسيط الأوروبي.
كانت حركة التحرر العربي الأولي رومانسية الطابع، وكان لدي قادتها الخيال السياسي الكافي لتجنيد الجماهير بزعامة مباشرة تجب المؤسسات الدستورية. كانت نمطا خاصا للدولة والقيادة والتحديث مازال العرب يحنون إليه كلما ضاقت بهم السبل، واشتد عليهم الخناق، ومزقتهم الخلافات، وتداعت عليهم الأعداء، وعجزت أنظمة الحكم الحالية عن الدفاع عن الأوطان، وامتهنت الكرامة، وانتهك العرض، وصاحت المرأة في فلسطين والعراق (وامعتصماه)، (واناصراه).
ضاعت مكتسبات الدولة الوطنية علي الصعيدين الخارجي والداخلي. وتحولت إلي دولة تابعة للخارج، وقاهرة في الداخل. استعمر العرب، ثم تحرروا، ثم عاد إليهم الاستعمار من جديد بالاحتلال المباشر التقليدي في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير. وقهر العرب في الداخل من خلال نظام الحزب الواحد، والأيديولوجية الواحدة، إسلامية محافظة أو قومية اشتراكية أو ماركسية، وعزّت الجبهة الوطنية. ووقع صدام في معظم الدول الوطنية بين الضباط الأحرار والإخوان المسلمين بعد أن شاركوا في اندلاع الثورة، وحاربوا في فلسطين مع الضباط الأحرار، وجاهدوا في حرب الفدائيين في القناة في 1951، وشاركوا في الدفاع عن بورسعيد أثناء العدوان الثلاثي علي مصر في 1967، تصارع الإخوة الأعداء علي السلطة كما حدث في أزمة اذار (مارس) 1954 في مصر. ودخل الإخوان السجن. وتحت أهوال التعذيب تغير سيد قطب من (العدالة الاجتماعية في الإسلام) و(معركة الإسلام والرأسمالية) و(السلام العالمي والإسلام) إلي (معالم في الطريق) وبدلا من الحوار مع التيارات الفكرية، الماركسية والاشتراكية والليبرالية والقومية، كفر المجتمع، ووقع في ثنائية لا تصالح بينها، بل يقضي أحد الطرفين علي الآخر: الإسلام والجاهلية، الله والطاغوت، الإيمان والكفر، حاكمية الله وحاكمية البشر. ولن يقوم بهذا التحول من طرف إلي طرف إلا جيل قرآني فريد تحت شعار (لا إله إلا الله). ومن داخل السجون تشكلت جماعات التطرف مثل حركات التكفير والهجرة، وجماعات الجهاد، والقطبيون.
الدولة العلمانية
وبعد أن تهرأت الدولة الوطنية قامت الحركة الإسلامية من جديد للثأر من الدولة "العلمانية" في الجزائر وتونس وليبيا ومصر وسوريا والعراق والأردن والكويت واليمن علي مختلف الأطياف عنفا أو لينا، حربا أم سلاما، انقلابا أو انتخابا. وتحول الإسلام إلي حركة احتجاج سياسي اجتماعي اقتصادي ثقافي ضد مظاهر تبعية الدولة للخارج وقهرها في الداخل، وشدة الأزمة الاقتصادية، والبون الشاسع بين الأغنياء والفقراء، وتحلل الدولة إلي طوائف لا يربطها رابط الوطن أو الأمة أو التاريخ. وانحسر مشروع التحرر الوطني الأول بعد أن تحول إلي مشروع مضاد.
والآن، تبدأ حركة تحرر عربي ثانية بعد عودة الاحتلال المباشر وعجز النظم السياسية عن الدفاع عن الأوطان، وضعف المعارضة السياسية لأنها تفكر بعقلية السلطة البديلة. تعيش مع الشعب بعقلية القصر. والجماهير عاجزة عن أخذ مصيرها بأيديها نظرا لمرور نصف قرن من تغييبها عن العمل السياسي. وتبدأ ظاهرة الإسلام السياسي، وعودة الحركات الإسلامية لوراثة الدولة الوطنية المتهرئة، وتساهم في حركات التحرر الوطني الجديدة مع باقي الحركات الوطنية في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان. وتصبح هي بارقة الأمل الوحيدة في سماء العرب المظلم كما حدث في نصر أكتوبر 1973، قاومت الفلوجة أكبر قوة عسكرية للإمبراطورية الأمريكية الجديدة. وقاومت جنين علي مدي أسبوعين الكيان الصهيوني خامس قوة عسكرية في العالم كماً إن لم تكن ثانيها كيفاً. والآن يقاوم المثلث الشيعي بعد المثلث السني. وتبدع المقاومة الإسلامية في أفغانستان والشيشان وكشمير أشكالا جديدة للمقاومة.
توازن الرعب
وقد نشأ الآن توازن في الرعب في بلدان قوات الاحتلال في الغرب وبين المقاومة الإسلامية. وتغير النظام السياسي في أسبانيا وخرجت قواتها من العراق. وتلتها قوات رمزية أخري. كما حدث توازن في الرعب بالرغم من اختلال توازن القوي بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني. فلم يعد الصهيوني المستوطن يشعر بالأمان فقد يأتيه الشهيد من أي مكان وفي أي وقت. (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله). وبدأت الواقعية السياسية التي سادت العقود الثلاثة الأخيرة في الترنح أمام ضغط المقاومة والتفاف الشعب العربي حولها بعد أن تبدد وهم السلام. فنظام العالم الجديد، والعالم ذو القطب الواحد ليس أبديا. والعولمة ليست نهاية التاريخ. وسكون الشعب العربي لن يبقي إلي الأبد. وتهميش مصر له حدود. فمازالت هي الشقيقة الكبري وإن كانت مكسورة الجناح، حزينة الروح، جملا باركا يجتر طعامه الذي اختزنه أثناء المسيرة. عن الوطن العربي مخصب لولادة جديدة، لحركة تحرر عربي ثانية ترث الأولي وتقيلها من عثرتها. إذ تنتهي دورة وتبدأ دورة أخري (ويقولون متي، قل عسي أن يكون قريبا).
نقلاً عن الزمان
|