الناطق الرسمي باسم المؤتمر الشعبي العام- اليمن
التاريخ: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 11:25 م
ابحث ابحث عن:
قضايا وآراء
الخميس, 27-مايو-2004
بقلم الكاتب/فهمي هويدي -
الغيرة على المقدسات حين تتقدم كرامة الأوطان
مظاهرات الأكفان التي خرجت في عدة دول عربية واسلامية (لبنان والبحرين وإيران وباكستان)، احتجاجا على دخول القوات الأميركية مدينتي النجف وكربلاء، اللتين تحتلان مكانة خاصة لدى الشيعة الاثنى عشرية، تثير قضيتين; إحداهما سياسية والثانية شرعية أصولية.
في الشق السياسي تستدعي المظاهرات أكثر من ملاحظة، أو مفارقة أن شئت الدقة، ذلك أنني كنت في إيران حين علقت الدراسة في الحوزة الدينية بقم، ونشرت الصحف أن طلاب الحوزة خرجوا حاملين أكفانهم في مظاهرة ملأت شوارع المدينة، بعدما تناقلت الأنباء خبر دخول الأميركيين إلى النجف وكربلاء. وفيما رفع المتظاهرون لافتات الاحتجاج ورددوا الهتافات المعادية للولايات المتحدة، فإن بعض الخطباء تحدثوا عن الدعوة إلى الجهاد دفاعا عن «المقدسات» التي وصفت بأنها تمثل «خطا أحمر»، وكانت الأكفان إعلانا ضمنيا عن استعداد المتظاهرين للتضحية بأرواحهم ذوداً عن حرمتها.
سألت من أعرف في طهران: هل علقت الدراسة في حوزة قم، وتظاهر طلابها حين احتل الأميركيون العراق، فأجابو بالنفي، وران على جلستنا صمت ثقيل، قطعه صوت أحد الجالسين وهو يقول: النجف وكربلاء لهما وضع شديد الخصوصية والحساسية، بسبب ارتباطهما بالإمام علي وابنه الإمام الحسين. ولابد انك تدرك أن العدوان على المقدسات يستثير حماس المتدينين ويلهب مشاعرهم أكثر من أي شيء آخر، لذلك فإن غضب الشيعة إزاء دخول الأميركيين إلى المدينتين مفهوم ومبرر.
وجدت الأمر مسكونا بالمفارقة، حيث لم أفهم لماذا يغضب المتدينون ويثورون، حين اقتحم الأميركيون حرم المدينتين، بينما لا يغضبون بنفس القدر لاجتياح العراق كله، الذي يحتضن المدينتين، بما استصحبه ذلك من هتك للسيادة واذلال للشعب ونهب للثروة وتدمير للدولة، وهي ذات المفارقة التي شهدناها حين عم الغضب أرجاء العالم العربي والإسلامي من جراء نشر صور البشاعات التي ارتكبها الأميركيون في سجن أبو غريب، التي لم تختلف كثيرا عن بشاعات النظام السابق، بينما يتعامل كثيرون بهدوء مدهش مع واقع الاحتلال وكأنه شيء عادي، في حين أن جريمة الأميركيين في السجن فرع عن الاحتلال الذي هو «أم الجرائم» بامتياز. وحين يحتل الفرع اهتماما يتجاوز خطوط الأصل، فذلك علامة على وجود خلل في المعايير والتباس يتطلب المراجعة والتصويب.
أخشى ان يقول قائل إن المشهد العربي كله مسكون بالمفارقة ومشاهد العبث، وهي الحجة التي اتفق معها ولا أملك لها ردا، للأسف الشديد، لأن هذه حقيقة تثبتها الأيام حينا بعد حين، فثمة أقطار لم يخرج فيها أحد للتظاهر لا غضبا للعراق ولا غيرة على «المقدسات» فيه، كما أن الجميع التزموا صمتا مدهشا إزاء المذبحة التي وقعت في غزة، في حين خرجت مظاهرة في إسرائيل استنكرتها، وضمت 1500 شخص من أنصار السلام ودعاته من اليهود والعرب، بل ان المفارقة بدت أشد ما تكون ـ والعبث بلغ ذروته ـ حين وجدنا ان بيان القمة العربية أدان استهداف المدنيين «بغير تمييز»، في اطلاق مستغرب ساوى بين المغتصب والضحية، القاتل والقتيل، وبين الفعل المتمثل في الاحتلال، والمقاومة التي هي في الاساس رد فعل، وفي استنكار مبطن للعمليات الاستشهادية التي تتم داخل اسرائيل، ومجتمعها العسكري معروفة خصوصيته، وقد حدث ذلك في توقيت بائس للغاية، اذ بينما أهل القمة مجتمعون في تونس كانت المجزرة الاسرائيلية مستمرة في غزة، بوحشية وقسوة لا نظير لهما، وكان المدنيون الفلسطينيون يقتلون بوتيرة يومية سواء تحت البيوت التي هدمت على سكانها، أو برصاص القناصة الذين لم يرحموا طفلاً ولا شيخاً ولا امرأةً.
نعم، مثل هذه المفارقات المفجعة أصبحت جزءاً من حياتنا في هذه المرحلة، وهي نتاج عوج جسيم في البنيان العربي، يتطلب اصلاحه جهدا هائلا وحثيثا تنهض به صفوف الغيورين على هذه الأمة والمخلصين لها، وتلك مسألة يطول الحديث فيها، من ثم فإنني في هذا المقام لست بصدد تصويب العوج أو الخلل، ولكن لا أتمنى أكثر من تقليص مساحته، والالحاح على ضرورة استمرار التفكير في تداعياته وخطره.
الشق الشرعي له وجهان; الأول يتعلق بالرؤية الفقهية لمسألة الغزو، والثاني يتعلق بمفهوم المقدس، وموقع المكان في اطار ذلك المفهوم، وأحسب ان الشق الأول معلوم للكافة، حيث لا يختلف احد بين أهل العلم على أن غزو بلاد المسلمين يعد من النوازل الجِسام التي تهدد كيانهم، الأمر الذي يصبح الجهاد في ظله فرض عين على كل مسلم ومسلمة دون استثناء، حيث (اتفق حملة الشريعة قاطبة على انه يتعين على المسلمين «في هذه الحالة» ان يخفوا ويطيروا الى مدافعتهم «الغزاة» زرافات ووحدانا)، كما يقول الجويني إمام الحرمين.
الشق الثاني هو أكثر ما يحتاج الى تحرير يزيل ما يكتنفه من التباس، ذلك أننا لا نعرف في ثقافة الاسلام ان ثمة مكانا له قداسة خاصة، صحيح ان ثمة حديثا نبويا يقول ما معناه: «لا تشد الرحال إلا الى ثلاثة مواضع: المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى»، لكن هناك حديثا آخر ينقل عن عبد الله بن عمر قوله انه رأى النبي عليه الصلاة والسلام يتطلع الى الكعبة ويقول: «ما اطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفسي بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك، وفي رواية أخرى «لَدَمُ امرئ مسلم أشد عند الله حرمة منك».
المعنى المراد هنا ان للكعبة في نفوس المسلمين موقعا عزيزا ومتميزا، لا يعادله أي مكان آخر في هذه الدنيا، ورغم علو شأنها ذاك، فإن حرمة المؤمن تحتل عند الله موقعا أعظم منها. بكلام آخر، فإن كرامة الانسان الذي نفخ الله من روحه فيه، واستخلفه عنه في الأرض وسجدت له الملائكة، وسخر له مختلف الكائنات، أعز عند الله من كرامة أي مكان على وجه الأرض.
مقام كرامة الانسان عند الله يعلو فوق كرامة أي بنيان حتى وإن كان مسجدا، وهو المعنى الذي عبرت عنه القاعدة الاصولية التي تقول ان حق الناس مقدم على حق الله، تماما كما ان صحة الابدان مقدمة على صحة الاديان.
والاصوليون الذين قالوا بهذا الكلام انطلقوا من فهم رشيد للنصوص والمقاصد، إذ فضلا عن الحديث الذي سبقت الاشارة اليه، فإن الآية 217 من سورة البقرة أرست الأساس الذي انبني عليه، حيث تقول: «يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكفر به، والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله، والفتنة أكبر من القتل».
فالآية تنهى عن القتال في الأشهر الحرم، التي هي زمن الحج ومقدماته وخواتيمه، كما انها وقت العمرة. وعند المفسرين فإن الحكمة في حرمة القتال خلال تلك الفترة هي «تأمين سبل الحج والعمرة، حيث التحريم ليس لذات الأشهر، فالزمان لا حرمة له في ذاته، وانما حرمته تبعا لحوادث تحصل فيه» ـ غير ان هذه الحرمة تسقط اذا ما وقع ما هو أعظم، من قبيل جرائم الصدّ عن سبيل الله وفتنة المسلمين واخراجهم من ديارهم، ذلك ان استهداف المسلمين، في عقيدتهم أو في حياتهم وأمنهم، وغير ذلك مما يشكل تنكيلا بهم وعدوانا على كرامتهم، مثل هذه الممارسات أهم عند الله مما تمثله الأشهر الحرم، لذلك فإن حظر القتال يُرفع عنهم، ويتعين عليهم في هذه الحالة الدفاع عن عقديتهم وحُرُماتهم.
ما أريد ان أخلص اليه ان الحرمة أو القداسة درجات في النظر الاسلامي، تحتل كرامة الانسان رأسها، بحيث تتقدم على أي شيء آخر في المرتبة، مسجدا كان أو مقاما أو مكانا يعتبره اخواننا الشيعة مقدسا، لكنني اذ أسجل الاحترام لكل ذلك، ألفت النظر الى ان ترتيب الأولويات في التعامل مع تلك المقدسات مهم للغاية، لأن من شأن الخلل في ذلك الترتيب ان يقدم المهم على الأهم، ويؤدي بالتالي الى اهدار مصالح عليا تتصل بمستقبل الوطن وأهله.
انطلاقا من هذا المفهوم، فإن كرامة الوطن التي ينتهكها الاحتلال بمجرد وجوده واستمراره وبمختلف ممارساته البشعة والفاجعة، ينبغي ان تحظى بالقسط الأكبر من الغضب عقلاً وسياسةً وشرعاً، حيث أخشى ما أخشاه ان يتصور البعض انه بانسحاب الاميركيين من النجف وكربلاء تكون المشكلة قد حلت، وانه لم يعد هناك ما يبرر الغضب أو الاستنفار.
الشرق الاوسط




أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر