المؤتمرنت - حرب المليونيات تضع مصر على مفترق طرق وسط مخاوف احراق الاخضر واليابس بين مؤيد ومعارض تقف مصر على مفترق طرق تاريخى تحده الكثير من المخاطر والآمال المشوبة بالحذر، فإما أن تفضى مليونيات الجمعة إلى مسار يرسم خارطة طريق جديدة للمصالحة بين فريقين متضادين بسبب الخلاف على الشرعية، وإما أن تكرس مبدأ الانقسام المخضب بالدماء.
وعلى الرغم من التطمينات التي بعثت بها رسائل المتحدث العسكري للقوات المسلحة بشأن طبيعة دعوة الفريق أول عبد الفتاح السيسى للتظاهر اليوم ، وأنها تأتى إستكمالا لمسيرة ثورة 30 يونيو المجيدة والتي استمدت شرعيتها من إرادة الشعب المصرى، إلا أن لهجة التصعيد التي جاءت كرد فعل من قيادات تنظيم الإخوان ومن يناصره من التيارات الدينية، يمكن أن تزيد الأمور تعقيدا وتدفع باتجاه المزيد من العنف.
وفى الوقت الذي أكدت قيادة القوات المسلحة أن الدعوة للنزول الجمعة ما هي إلا استدعاء للمشهد الثورى التاريخى لشعب مصر والذي طالما أبهر العالم بعبقريته وتطلعاته المشروعة نحو التغيير والإصلاح والديمقراطية بكل سلمية ورقى وتحضر، جاء رد فعل المؤيدين للرئيس المعزول محمد مرسي ممثلا في بيان "التحالف الوطني لدعم الشرعية"، الذي أسسته جماعة الإخوان المسلمين وأحزاب إسلاميه أخري، ليؤكد أن دعوة الفريق السيسي هي دعوة صريحة للحرب الأهلية.
وعلى تلك الوتيرة من ردود الفعل المتضاربة، تمضى مليونيات الجمعة لتعيد تشكيل المشهد المصرى بين من يريد أن يمحو من الذاكرة المشاهد المهيبة لشعب عبقرى يستحق إحترام طموحاته وتطلعاته نحو تحقيق الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، ومن يريد أن يكرس لعبقرية الشعب المصرى في فرض إرادته التي كرست لشرعية تجاوزت الشرعية الثورية والشرعية الدستورية في آن واحد.
وفيما تؤكد القوات المسلحة أن دعوة القائد العام لا تحمل أي تهديد لأطراف سياسية بعينها، بل جاءت كمبادرة وطنية لمواجهة العنف والإرهاب الذي لا يتسق مع طبيعة الشعب المصرى ويهدد مكتسبات ثورته وأمنه المجتمعى، إلا أن بيان المؤيدين للرئيس العزول، والذي دعا الجماهير للاحتشاد في كافة ميادين وشوارع مصر وفي جميع المحافظات في تظاهرة الجمعة التي سماها "إسقاط الإنقلاب" يجعل من المليونيات ساحة حرب جديدة تكرس لمبدأ العنف.
ولعل ما يرفع سقف المخاوف هو نية تحالف دعم الشرعية المؤيد للرئيس المعزول بتنظيم 34 مسيرة مؤيدة في القاهره الكبري وحدها، مما يعنى إرباك المشهد وتوسيع مساحات الإحتكاك مع المنتمين للتيارات المدنية، الذين أعدوا العدة لتلبية دعوة الفريق السيسى بالتجمع والحشد لدعم خطط الجيش لمكافحة الإرهاب.
ويبدو أن إلتحام غالبية الشعب المصرى مع قيادات قواته المسلحة، قد قدمت سلفا المسوغات المطلوبة لمن يقود دفة الأمور في تلك المرحلة الحاسمة بأن يمضى قدما في حماية الوطن من أي مخططات هادفة إلى إحراق الأرض، لكى يعلم دعاة العنف والإرهاب أن لهذا الشعب جيشا وشرطة قادرين على حمايته.
وإذا كانت دعوة الفريق السيسى للتظاهر الجمعة قد جاءت متزامنة مع انعقاد أولى جلسات المصالحة الوطنية برعاية رئاسة الجمهورية أمس الأربعاء، فإن ذلك يؤكد أن دعوة القائد العام للقوات المسلحة جاءت لإستكمال جهود مؤسسة الرئاسة للمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية لتحقيق خارطة المستقبل كأحد مكتسبات ثورة 30 يونيو.
ومع إصرار تيارات الإسلام السياسي على عدم المشاركة في جهود المصالحة الوطنية، تظهر في الأفق دعوات لإلغاء مشروع المصالحة خاصة مع من تلوثت يده بدماء المصريين، إلا أن المؤسسة العسكرية تؤكد على الدوام أن المصالحة الوطنية وتحقيق العدالة الانتقالية هما السبيل الوحيد لعبور مصر من تلك المرحلة الدقيقة إلى بر الأمان دون إقصاء أو تحييد لأى تيار أو فصيل أيا ما كان، وهو ما يعد فرصة تاريخية لمن خرج عن الصف بالعودة إلى حظيرة الوطن قبل فوات الأوان.
وإذا كان هناك من يرى أن دعوة الفريق السيسى للتظاهر الجمعة قد تؤدي إلى حدوث اقتتال أهلي في ضوء الحشد المضاد لمؤيدي الرئيس المعزول، إلا أن الرهان الأكبر سوف يبقى على سلمية التظاهرات من الجانبين.
حيث أكدت المؤسسة العسكرية أن حرية التعبير عن الرأى في إطار سلمى حق مكفول لجميع المصريين تحميه القوات المسلحة والشرطة المدنية وتوفر له التأمين الكامل، كما تعهدت المؤسسة العسكرية بالتنسيق مع أجهزة وزارة الداخلية في إطار المسئولية الوطنية تجاه الشعب المصرى بحماية المتظاهرين السلميين في كافة ربوع الوطن، وهو ما يلقى بالكرة في ملعب قيادات التيارات الدينية والمدنية على حد سواء، باعتبار أن الحفاظ على أرواح المتظاهرين باتت مسئوليتهم جميعا.
ومن هذا المنطلق فإن جميع الأطراف مدعوة لمراقبة سيناريوهات مليونيات الجمعة لمعرفة من يمكن أن يصبح المسئول عن أي أحداث عنف قد تحيل المشهد الحضارى إلى مشهد دموى، وذلك في ضوء تحذيرات المؤسسة العسكرية من الإنحراف عن المسار السلمى لأعمال التظاهر أو اللجوء إلى أي مظهر من مظاهر العنف أو الإرهاب، والذي سيتم مواجهته بكل حسم وقوة وفقا لمقتضيات القانون الصارم في هذا الشأن.
كما أن مختلف القوى والتيارات السياسية مطالبة بالبعد عن أعمال الإستفزاز والإلتزام بضوابط التعبير السلمى عن الرأى، وهو ما يمكن أن يسهم في عبور تلك اللحظة التاريخية بأمان كامل، وربما يجد صوت العقل فرصة سانحة تؤهل كافة الأطراف للدخول في حوار جاد للوصول إلى مناطق توافق مشتركة تنهى حالة الإنقسام المرعبة التي يشهدها المجتمع المصرى حاليا.
ويجب على الجميع أن يدرك أن عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء مهما كلف ذلك من خسائر، وأنه في ظل استمرار حالة الإستقطاب الحادة ستبقى كل الأطراف خاسرة، خاصة في ظل ما برز من مخططات إجرامية لتعكير الأمن، وهى المخططات التي غطت المشهد المصرى بلون الدماء وجعلت رائحة البارود تعلو واجهته.
وليس ثمة شك في أن المضى قدما لإنجاز مصالحة شاملة لا تقصى أحدا وتحفظ الحقوق وتقطع اليد التي تلوثت بالدماء، هو السبيل الوحيد لإنهاء حالة التيه التي كرستها مفترق الطرق شديدة الإنحدار، والتي وجد المصريون أنفسهم مطالبين بعبورها حتى تبدأ مرحلة قطف ثمار حراكهم الثورى الذي تتواصل موجاته لتكنس ما تبقى من عفن يشوه وجه مصر الحضارى.
|