أحمد الحبيشي -
منابع التطرف والارهاب
يخطئ من يعتقد أن بلادنا وحدها هي التي تخوض حرباً مع الإرهاب الذي يمثله تنظيم (القاعدة) لأن المشهد السياسي والأمني والإعلامي الراهن في العالم العربي والإسلامي يشير إلى حروب ضارية ومتواصلة تخوضها اليمن وسوريا ولبنان وتنونس والسعودية ومصر والأردن والعراق وموريتانيا والجزائر ومالي ونيجيريا والنيجر وباكستان ضد الإرهاب الذي تمارسه جماعات ضالة تريد فرض أفكارها ومعتقداتها السياسية بالعنف والسلاح، عبر تفجير المباني والمنشآت الثقافية، والاعتداء على منتسبي الأجهزة الأمنية وفرض أنماط سلفية متشددة ومنغلقة من السلوك على المجتمع، انطلاقا من ثقافة ضالة يعتقد ضحاياها بصواب ما يتلقونه من تفسير أحادي للشريعة الإسلامية على أيدي بعض شيوخ التطرف و التكفير الذين يوهمون أتباعهم الضالين بأن تلك الأفكار والمعتقدات تحظى بإجماع (جمهور علماء المسلمين)، الأمر الذي يستوجب استخدام القوة لمواجهة الطائفة الخارجة عن الطاعة والمفارقة للجماعة والممتنعة عن تطبيق الشريعة في الدولة والمجتمع، كشرط لتغيير المنكر وحراسة الدين.
ومما له دلالة عميقة ان هذه المواجهات التي الحقت خسائر كبيرة بالأرواح والممتلكات الخاصة والعامة، تأتي في سياق مقاومة الميول التي تبديها النخب السياسية والحكومات في بلدان المنطقة لإجراء إصلاحات شاملة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية بهدف توسيع المشاركة السياسية وضمان حقوق الإنسان وإشراك المرأة في الحياة العامة واطلاق مفاعيل المجتمع المدني، الأمر الذي يؤشر على ولادة ثقافة سياسية جديدة تتجاوز ثقافة النخب القديمة التي هيمنت على الحياة السياسية في العالم العربي خلال حقبة الحرب الباردة، وتسعى في الوقت الراهن الى مقاومة الميول الموضوعية للإصلاح والتغيير.
وبوسعنا القول إن لكل جدار سميك نقاط ضعف خاصة به.. ولم تخل جدران الشمولية من الثغرات التي تسللت منها الرياح المعاكسة.. ناهيك عن ان كل النظم الاستبدادية والشمولية لم تسلم من هذه الثغرات، ولم تخل من الهواء النقي والأفكار الجديدة، وهو ما يفسر حقيقة أن الاستبداد بكل أشكاله وألوانه لم يكن عبر التاريخ حائلاً دون ظهور نماذج خالدة من دعاة الحرية والتفكير الحر أمثال الحلاّج وابن عربي وناظم حكمت وغوركي وبابلو نيرودا وسولجنستين وزاخاروف ورسول حمزاتوف واحمد فؤاد نجم والموشكي والسيّاب.. الخ.
المثقف الشمولي هو نتاج طبيعي للثقافة الشمولية التي تحصر نفسها ووظيفتها في نسق الأفكار لا في الوقائع، ثم تقفز فوق الواقع وتهمل تفاصيله وأحداثه.. بمعنى ان المثقف الشمولي هو الذي يستخدم الآيديولوجيا للقيام بوظيفة حراسة الأفكار.. والمعروف ان حراس الأفكار يفشلون على الدوام في سد جميع الثغرات التي تتسلل منها رياح التغيير التي تصيبهم بالذعر.
عندما يتمترس المثقف وراء أفكاره ويدعو الى تطبيق نموذجه، يتحول بالضرورة الى داعية يشرح افكاراً جاهزة ولا يفكر لكي ينتج أفكاراً جديدة.. ولذلك فإن الدعاة يخسرون دائماً المستقبل لأنهم يشتغلون على القولبة والنمذجة في واقع تتغير أنساقه ووجهات تطوره باستمرار، ويحتاج تبعاً لذلك إلى إعادة اكتشاف مفاعيله على نحو مستمر أيضاً.. أمّا صناعة الأفكار فهي صنو لصناعة الواقع.. والذين يعيدون باستمرار قراءة الواقع، يستطيعون تغيير وتطوير أفكارهم والمشاركة الفاعلة والمتجددة في عمليات التغيير التي تحدث في عالم الحقيقة الواقعي.. وبقدر ما تتغير طريقة التعاطي مع الأفكار، يتغير مفهوم المثقف للحقيقة التي تظل على الدوام نسبية ومتغيرة، ويصبح أكثر قدرة على المساهمة في إعادة صياغة الواقع و تغييره من جديد.
لاريب في ان التطرف يحتاج الى مواجهة بوسائل مختلفة.. وعندما يكون التطرف اشتغالاً في مجال الأفكار لابد من مواجهته بوسائل النقد والحوار النقدي.. اما عندما يتحول الى إرهاب دموي فلا يكون امامنا من طريق آخر للتعامل معه سوى طريق إخضاع الجريمة الإرهابية ومرتكبيها الذين أفرزتهم ثقافة التطرف للقوة المشروعة.. أي قوة الدستور والقانون.
الثابت ان بلادنا اكتوت بنارالإرهاب المتستر بالدين شأنها في ذلك شأن بلدان عربية عديدة.. وقد ارتبطت ظاهرة الإرهاب بنوع مدمر من العنف الديني والسياسي المنظم، وأخذت مداها عبر فتاوى فاشية تجيز سفك الدماء وقتل النفوس ونشر الرعب وتقويض أسس الدولة المدنية والمجتمع المدني، سواء تم ذلك من خلال ضرب وتفجير المصالح الأجنبية والمنشآت الوطنية، اواغتيال المفكرين والمثقفين والتلويح بقوائم الموت.
من نافل القول ان الهدف الرئيسي لهذا الإرهاب الدموي هو إزاحة العقبات التي تحول دون قيام دولة دينية وإحياء السلطة المرجعية الكهنوتية للإكليروس استناداً الى فكرة (التفويض الإلهي) لرجال الدين والملوك الربانيين.. ومثل هذه الدولة لا يمكن ان تقوم الاّ على تعصب رجال الدين وهم جماعة من البشر لتأويلهم الخاص للنصوص وفق مصالحهم الدنيوية , وقمع معارضيهم وتصفيتهم وإقامة ما يزعمون انه حكم الله من خلال محاكم تفتيش ميدانية كتلك التي شاعت في العصور الوسطى في اوروبا.
اننا لم نتعرض في اليمن لارهاب مدمر فحسب.. بل لقمع متجسد في أفكار متعصبة تغذي منابع الإرهاب وتصنعه.. وحين تتحول هذه الأفكار المتعصبة الى جرائم إرهابية يرتكبها بعض الجهلة من ضحايا التعبئة الخاطئة التي يمارسها حرّاس هذه الأفكار، ينهض القانون بوسائل سلطة الدولة لمواجهة الجريمة الارهابية المنظمة ومرتكبيها.. لكن ينبوع الجريمة لا يتوقف عن إعداد المزيد من المجرمين المزودين بأحزمة ناسفة، والتمهيد لجرائم إرهابية جديدة.
والحال ان سلطة الدولة لا تكون فاعلة خارج هذا السياق.. فهي لا تنفع لمواجهة سلطة الثقافة القائمة على التعصب والتطرف، الأمر الذي يستوجب نقد هذه الثقافة وتفكيكها، وهي عملية لا بد ان تتم بالأدوات الفكرية على اساس من الصراحة والعلنية والوضوح وعدم المداهنة.
تهدف هذه العملية الى تفكيك العلاقة بين التعصب والقمع.. وفي تقديري ان العلاقة بينهما لا تختلف عن العلاقة بين السبب والنتيجة، فالتعصب يولّد القمع، والقمع يبقى مغلقاً في مدار التعصب.. وأخطر ما في هذه العلاقة هو قيامها على نهج اتباعي نقلي لثقافة تلح وتصر على ضرورة الإجماع وترفض الاختلاف ولا تعترف بالتنوع والتعدد والمغايرة، وتقرن الدخول الى الفرقة الناجية بالخضوع المطلق لما يؤمن به امير او شيخ الجماعة.
وعندما يعتقد المتعصب أنه ينتمي الى الفرقة الناجية، وأن من لا يشاركه أفكاره المتعصبة ينتمي الى أهل البدع والرأي والشرك من الفرق الضالة التي يسري فيها الكفر بالله والمعصية للجماعة، يتحول التعصب تبعاً لذلك الاعتقاد الى ثقافة تبرر قمع المختلف والمبتدع والسعي الى استئصالهما، تطبيقاً لقول ابي إسحاق الشاطبي (ان الناجين من النار مأمورون بمقاومة أهل البدع والشرك والرأي والضلال، والتنكيل بهم وبمن انحاش الى جانبهم بالقتل وما دونه).
هكذا نكون امام جرائم دموية ناتجة عن ثقافة قمعية ومتطرفة لا تعترف بالمغايرة أو الحوار او الخروج على ما يُسمّى (إجماع جمهور العلماء) وهو إجماع لا يحتمله العقل، ولم يتحقق ولن يتحقق عبر التاريخ!!
يذكرنا إصرار بعض النخب السياسية على البحث عن ذرائع لتبرير الجرائم الإرهابية التي ارتكبها المتطرفون في اليمن، بمواقف مماثلة لبعض الذين يحترفون ممارسة العمل السياسي تحت عباءة الدين في العالم العربي حين كانوا يسعون من خلال كتاباتهم في الصحف العربية، الى البحث عن ذرائع لجرائم قتل المدنيين الأبرياء على أيدي الجماعات المصرية المتطرفة التي كانت تبرر جرائمها ضد المدنيين الأبرياء في مصر والجزائر خلال ثمانينات وتسعينات القرن العشرين بذريعة ما تسمى بأحكام قتال الطائفة الممتنعة، وبضمنها فكرة «التترس» الدخيلة على الإسلام، والتي تُجيز قتل المدنيين من الشيوخ والرجال والنساء والأطفال المتترس بهم من قبل الكفار في المدن والقرى والتجمعات السكنية والمصالح الحكومية التي تديرها الطائفة الممتنعة عن تطبيق الشريعة، والزعم بأن هؤلاء المدنيين سيبعثون يوم القيامة على نيّاتهم، فإن كان مسلما ذهب الى الجنة، وان كان كافراً او مرتداً استقر في النار.
ومن المعروف ان هذه الفكرة التي لا يعترف بها رجال الدين المستنيرون والمؤسسات الإسلامية المعتبرة، انتشرت في نهاية السبعينات من القرن الماضي، على تربة التزاوج الحاصل بين الأفكار المتطرفة للجماعات الجهادية الأفغانية والأفكار المتطرفة للجماعات التي خرجت من جبة الأخوان المسلمين والفكر الوهابي في الجزيرة العربية واليمن ودول الخليج و مصر وسوريا وشمال افريقيا، ثم انتشرت في العالم العربي والإسلامي بعد عودة الأفغان العرب من أفغانستان الى بلدانهم، وهي الفكرة نفسها التي أجاز بها شيوخ «التكفير» في اليمن اقتحام مدينة عدن في أسرع وقت ممكن حتى ولو تم «فتحها» على جثث سكانها المدنيين من الأطفال والشيوخ والنساء في فتواهم الشهيرة التي صدرت أثناء حرب 1994م ، ولازلنا ندفع ثمنها حتى الآن !!
ما من شك في أن امتناع بعض القوى السياسية اعن إدانة الارهاب يسهم في توفير تغطية غير شرعية على هذه الثقافة التي شكلت مرجعية فكرية للإرهاب المتستر بالدين في العالم العربي والإسلامي، و يذكرنا موقف بعض السياسيين والاعلاميين من جرائم الإرهاب في اليمن، بالأساليب التى اعتاد عليها الكثير من الكتاب الاسلامويين في بعض الصحف والمواقع الإلكترونية العربية عندما كانوا يتذاكون في التماهي مع الجرائم الإرهابية البشعة التي كانت الجماعات المتطرفة ترتكبها في بلدان أخرى ، من خلال مقالاتهم التي أفرطت في الحديث عن «العنف والعنف المضاد» بقصد البحث عن أسباب وذرائع تبرر الجريمة الإرهابية وتُضفي نوعاً من المشروعية عليها، بدلاً من إدانتها والعمل على تجفيف المنابع التي تغذيها.