الناطق الرسمي باسم المؤتمر الشعبي العام- اليمن
التاريخ: الأربعاء, 27-نوفمبر-2024 الساعة: 06:28 م
ابحث ابحث عن:
قضايا وآراء
الجمعة, 02-يوليو-2004
د . خالد منتصر -
سوبر ماركت الإعجاز العلمي
ما أزال أذكر عندما كنت صغيراً أذهب بصحبة أبى إلى مسجد قريتنا فى دمياط يوم الجمعة .. المشهد محفور فى الذاكرة كأنه الأمس القريب… خطيب كفيف جهير الصوت يكرر ما يقوله كل أسبوع من أدعية مسجوعة وإنذارات للمصلين بالجحيم والثعبان الأقرع، حتى الأخطاء النحوية كانت تتكرر بنفس الكم ونفس الإيقاع ولكن أهم ما علق فى الذاكرة حتى الآن مما كان يكرره الشيخ فى كل خطبه هو تفسيره للآية رقم 34 من سورة لقمان "ويعلم ما فى الأرحام" والتى كان صوته يتهدج حينها بالتحدي لكل من يتجرأ على القول بأنه يستطيع أن يكشف عن جنس الجنين وهو بداخل الرحم فقد كان العلم فى الآية يفسر عنده على أنه العلم هل الجنين ذكر ام أنثى؟،وعرفت بعدها عندما قرأت تفسير الطبرى بأن شيخنا معذور فهذا هو ما كتب فى هذا التفسير وغيره من التفاسير ،وكنت وقتها مبهوراً بالشيخ وأشجع فيه قدرته على التحدى.

وعندما كبرت ودخلت كلية الطب كان جهاز الموجات فوق الصوتية "السونار" وقتها هو أحدث الموضات فى التكنولوجيا الطبية، وعرفت من خلال دراستي قدرته على تحديد نوعية جنس الجنين، ولكن بعض الأخطاء البسيطة التي حدثت فى تحديده من أطباء الأشعة جعلتنى اهتف سبحان الله وأخرج لساني لأغيظهم وظللت على يقيني وتأييدي لشيخ قريتنا فى دمياط، وعندما تخرجت تزامن وقت تعيينى طبيباً مع الضجة التى حدثت حول جنس الطفل القادم للأمير تشارلز والأميرة ديانا وعرفت أنه قد تم تحديده فى بدايات الحمل الأولى بواسطة عينة من السائل الامنيوسى المحيط بالجنين وقد بلغت دقة هذا التحليل نسبة مائة فى المائة وبدأت السنة الزملاء هى التي تخرج لإغاظتى وبدأ يقينى وتأييدى لشيخ قريتنا يهتز رويداً رويداً، وعندما تمت ولادة طفلى الأولى داعبنى زميلى طبيب النساء والولادة بقوله "ما كنت تقولنا علشان نولد هناك فى أمريكا وهم يشكلوه زى مانت عايز" ،وكانت ثورة الهندسة الوراثية واللعب بالجينات قد بدأت تغزو العقول وتسيطر على جميع المنتديات والمجلات العلمية، وبدأت أتجنب الحديث مع الزملاء وبدأ يقينى وتأييدى لشيخ قريتنا ينهار ،وهاجمنى زلزال الشك حتى تصدعت الروح وتساءلت : أين الإعجاز العلمى الذى عشت فى كنفه أقرأ عنه وأفاخر به الأجانب الغرباء الذين لا تحتوى كتبهم الدينية على مثل هذا الإعجاز الذى سبقنا به العلم منذ ألف وأربعمائة سنة.

وإلتمست النجدة عند شيخنا الشعراوى لعله يكون طوق النجاة فإستمعت إلى حديثه التليفزيونى الذى يدافع فيه عن الإعجاز العمى فى هذه الآية بالذات ويقول : إلا أن الله لم يكن يقصد الذكر والأنثى وإنما يعلم ما فى الأرحام يعنى يعلم مستقبلهم وأغلقت جهاز التليفزيون حفاظاً على ما تبقى من قواى العقلية !

كانت هذه المقدمة ضرورية لفهم الخطر الذى ينطوى عليه التلاعب بمثل هذه الكلمات من أمثال "الإعجاز العلمى فى القران"، فالقرآن ليس كتاباً فى الفيزياء ولا البيولوجيا ولا الجيولوجيا، وليس مطلوباً منه ذلك ،ولكنه كتاب دينى يضع ضوابط وخطوطاً عامة للأخلاقيات والسلوك والمعاملات ،ويتعامل مع المطلق والعموميات وربطه بالعلم الذى يتعامل مع النسبى والمتغير فيه خطورة شديدة على الدين وعلى العلم كليهما على السواء، فالدين سيتأثر عندما نربط بين اية ونظرية عملية تثبت عدم صحتها بعد فترة ،والعلم أيضاً سيتأثر عندما نكبح جماحه ونخلخل منهجه الأساسى وهو منهج التساؤل الدائم والقلق المستمر ،فالدين إكتفاء والعلم ظمأ، الدين إنسان يعيش فى يقين حاد والعلم مريض بالشك المزمن،الدين يجمع فى جعبته أقصى ما يستطيع من البديهيات والعلم يلقى أقصى ما يمكنه منها فى سلة المهملات .

الأول وهو الدين مجاله الأساسى ماوراء الواقع أما الثانى فملعبه الأساسى هو الواقع، وعندما نحاول ان نقرأ الثانى بعيون الأول كنا كمن يحاول ان يرسم لوحة بقوس كمان أو يعزف على العود بفرشاة ألوان، أو يحاول التدريس للمصريين فى فصل لمحو الأمية باللغة الصينية !!
كل هذا لا يعنى أنهما على طرفى نقيض ،ولا يعنى أيضاً أن كليهما صورة للآخر فى المرآة، فكل منهما له مجال للبحث لا تطغى فيه أمواج طرف على شاطئ الطرف الآخر وتنحره ،وأيضاً لا يلتهم فيه طرف بأقدامه الأميبية الطرف الثانى ويحاول هضمه وتمثله!

وهذا يقودنا إلى الحرب الخفية التى يعلنها نجم كبير يدعى أنه يدعو إلى العلم وهو الدكتور مصطفى محمود ،والحقيقة أن الحرب هى حرب على العلم والمنهج العلمى فى التفكير وعلماء الغرب الكافر ووسيلتها فيلم مصنوع بأيدى هذا الغرب الكافر ومصور بكاميرا صنعها هذا الغرب الكافر، ومقدمها وهو الدكتور نفسه يرتدى كرافتة مزركشة لونها هذا الغرب الكافر !

وسيناريو هذه الحرب بسيط ولكنه لئيم يبدأ بخيوط العنكبوت اللزجة التى تقوم "بشنكلة" الفريسة وهو المشاهد المسكين الجالس أمام شاشة التليفزيون بفيلم علمى جميل للأسف لا نسمع تعليق المذيع الأجنبى الأصلى عليه، وذلك حتى نستمتع بتعليقات الدكتور مصطفى وهو يتهكم على تكنولوجيا الغرب التى تحاول التطاول على قدرات الإله، وينهى بعدها الحلقة بجرعة شماتة مركزة فى الحال الذى وصل الغرب إليه، وكأننا نعيش نحن الشرق فى جنة الفردوس، ثم وصلة هز رأس بندولية على الغلابة الأجانب الذى ينخر الايدز فى أجسادهم، وينتشر الاكتئاب والفصام فى أرواحهم نتيجة لإيمانهم بالعلم الذى لن يصل مهما فعلوا إلى ما صنعه الخالق عز وجل وينتهى بعدها الدكتور مصطفى مودعاً إيانا بلقاء آخر ولسان حاله يقول "فشر.. لوحد فيكم قدر ينافس ربنا بيجى يقابلنى".

والسؤال المهم هو لماذا محاولة خلق هذا التنافس الوهمى الذى لا يوجد إلا فى تلافيف مخ مقدم البرنامج وعلى رفوف سوبر ماركت الإعجاز العلمى لصاحبه مصطفى محمود وشركاه؟!

لماذا تفسر دائماً محاولات علماء الغرب الطموح فى الكمبيوتر والهندسة الوراثية وعلوم الذرة بأنها محاولات لمنافسة الإله؟

وهل فكر الإخوان " رايت " عندما إخترعا الطائرة بأنها ستصبح أسرع من النسر وصار ذلك الوسواس همهما الشاغل؟

وهل كان مخترع الكمبيوتر لا ينام الليل بغية أن ينافس- أستغفر الله- الخالق عز وجل ويقول له انى سأجعل اختراعى يجرى العمليات الحسابية بأسرع مما يستطيع العقل البشرى الذى صنعته أن يفعل وسأهزم بطل العالم فى الشطرنج وهو عقل مصنوع بيد الله؟!

أبسط ما يقال عن هذه الحرب الوهمية الدون كيشوتية أنها هراء وعبث، وللأسف فهؤلاء الذين نطلق عليهم صفة الكفرة يتقدمون غير مبالين بضلالاتنا وأوهامنا، ونحن نبتسم بمقاس أوسع من ابتسامة وزير الأوقاف السابق المحجوب، ونكتفى بالقول ماذا تفعلون"نقبكم على شونة" نحن قد سبقناكم منذ ألف واربعمائه سنة ومهما فعلتم فنحن أصحاب السبق، وكأننا فى طابور الجمعية المهم مين اللى قطع البون الأول وليس من المهم على الإطلاق نوع الفرخة أو حجمها أو حتى مدة صلاحيتها!!

وأصحاب سوبر ماركت الإعجاز العلمى أصبحوا يبيعون الآيات المقدسة والجليلة كما تباع الشامبوهات فى سوق بور سعيد التجارى،عندنا فلك بالنخاع وبيولوجى بالبيض وآيات عن النسبية بزيت المنك، ولا يتساءلون وهم فى غمرة البيع ونشوة التجارة، هل هذه المعانى إنفرد بها القران بمعزل عن المناخ الثقافى السائد وقتها من أدب ولغة وطقوس وعادات وتقاليد ، فالقران الكريم يحترم عقل الإنسان ، وأعظم ما فيه هو تفاعله مع هذا المناخ وحواره مع الثقافات المختلفة الموجودة حينذاك فأصبح بذلك كتاباً حياً، إيقاعه مع إيقاع الظروف ومتغيرات الواقع بدون أى نشاز فكان أن نشأت علوم مثل الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول وما ألوان ذلك من علوم قرآنية تعتمد على هذا التفاعل والحوار.

ولنفسر أكثر للقارئ الكريم ولنختر فى البداية آية من سورة النازعات وهى الآية رقم 30 "والأرض بعد ذلك دحاها" وهى الآية التى إرتكن عليها أصحاب سوبر ماركت الإعجاز فى إثبات ان القرآن يساير أحدث الآراء الفلكية عن شكل الأرض وهو الشكل البيضاوى" الدحية هى البيضة"، ولننظر فى شعر زيد بن عمر بن نفيل لنجد أنه ذكر نفس هذا المعنى فى أبياته فهو يقول:



دحاها فلما رآها استوت على الماء أرسى عليها الجبالا



فهل نقول ان زيداً بذلك القول صار نبياً وان قصائده قران لما تحويه من إعجاز علمى !!

وأيضاً قصة الرقم سبعة والتى يتندر بها الدكتور مصطفى محمود فى معظم حلقاته ويقول أنها سر كونى خطير أشار إليه القران فى آيات كثيرة بها الرقم سبعة مثل سورة المؤمنون آية 17 "وبنينا فوقكم سبعاً شدادا" … ولننظر فى شعر امين بن عبد الله الثقفى الذى يقول:



بناها وابتنى سبعاً شداداً بلا عمد يرين ولا حبال
سواها وزينها بنور من الشمس المضيئة والهلال



وآخر ما نذكره فى هذا المجال من أشعار هو الشعر الذى يرد على أصحاب سوبر ماركت الإعجاز الذين استخدموا الآية رقم 45 من سورة النجم وقاموا بلى عنقها لكى تتسق مع شعاراتهم كنوع من تحلية البضاعة أمام الزبون، الآية هى "وانه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى" واستخدموها لإثبات أن القرآن قد سبق الغرب فى إثبات أن الرجل هو المسئول عن تحديد جنس المولود ولنسمع شعر زوجة أبى حمزة العيني والذي هجرها بعد أن ولدت بنتاً فقالت:



ما لأبى حمزة لا يأتينا … ظل فى البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا تا لله ما ذلك فى أيدينا
ونحن كالأرض لزراعينا ننبت ما قد زرعوه فينا



السؤال الثانى المهم والذى لابد أن يطرحه أصحاب السوبر ماركت على أنفسهم هو إذا كانت هذه الآيات بهذا الوضوح والجلاء فلماذا لم يصل بهم البحث والدروس وإمعان القراءة فى هذه الآيات إلى اكتشاف النظريات من قلب كلماتها وعباراتها فنكون بذلك قد سبقنا بحق وأضفنا ألى العلم والتكنولوجيا وأرحنا الغرب الكافر بدلاً من إنتظار هذا الغرب حتى يبحث ويكلف نفسه عناء مادياً وذهنياً ومعامل ورسائل ومؤتمرات حتى يخرج بالنظرية ثم نقول له "وضحكنا عليك كنت حاقولها"، مثلنا مثل على بابا الذى كان ينتظر عصابة "الأربعين حرامى" أمام المغارة مع الفارق الضخم طبعاً بأننا نحن الذين نسرق مجهود الغرب على الجاهز ولكننا نسرقه بمزاجهم، وبعد ان يكون قد أصبح موضة قديمة عندهم، ومع فارق بسيط آخر وهو أنهم قد خرجوا من المغارة منذ زمن طويل لينظروا للأمام ويستمتعوا بدفء شمس المستقبل ،أما نحن فقد أغلقت علينا المغارة ونسينا كلمة السر وظللنا ننظر للخلف وتحت أقدامنا باحثين عن مفتاح ،فلا نحن تذكرنا السر ولا عثرنا على المفتاح وللأسف ظلت جلودنا تقشعر من برد التخلف والثقة المزيفة والتعالى الكاذب.
خاص بعرب تايمز




أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر