المؤتمرنت - بقلم : نزار خضير العبادي -
(تسميـة المواليـد).. عالم يوثق العشق بنكهة البُن اليمـني
ليس كمثله شعب يعشق كل ما يؤمن به حدّ الموت، ولا يهمه كم يدفع ثمنا لعشقه.. فاليمنيون وحدهم من يجيد توثيق العشق تاريخا تحمله الأجيال عبر السنين والقرون ليبقى نبض الموقف حيا، كلما نودي على أحدهم- بإسمـه.
ومع أننا جميعا نحتفظ بأسمائنا الخاصة، إلا أنها لن تدل على غير شخوصنا كما هو الحال بالنسبة لليمنيين، الذين يحرصون على جعل أسم الوليد امتدادا لحالة عشق لشخص بعينه، أو موقف ، أو أي أمر نال من هوى النفس ما نال من شغف وحب- وربما ظلت تسمية المواليد في اليمن عالم عجيب، وغريب، وطريف.. بل عالم من الأسرار.
- في الزمن القديم
قديما مثلت العقيدة الدينية والحياة الزراعية منهلان رئيسيان لأسماء المواليد، فالأسماء التي تبدأ بكلمة ( عبد) ثم أحد أسماء الله الحسنى، وكذلك اسم ( محمد، أحمد، علي) تتصدر أسماء الذكور في عموم اليمن، وكان ذلك جزء من هوية المجتمع اليمني الإسلامية، فيما كان انتشار أسماء ( علي، حسن ، حسين، زيد، هادي، يحيى ، فاطمة، زينب) في المدن الشمالية على نحو كبير جدا يمثل جزء من الهوية المذهبية ( الزيدية) لتلك الجهات- رغم وجود هذه الأسماء في بقية الأرجاء.
أما أسماء الإناث، فإن أسماء الله الحسنى المسبوقة بكلمة ( أمة) شائعة جدا في اليمن أكثر من أي بلد إسلامي آخر.. لكن تبقي الميول العامة نحو الأسماء ذات العلاقة بالحياة الزراعية مثل: ( هيلة، ساقية، غرسة، نباتة، زهرة، زبيبة، حمحمة، لوزة، فندة، قطفة، موزة.. الخ).
والعوائل المتعلمة أو المطلعة على أخبار التاريخ تقتبس من آثاره أسماء الشخصيات الخالدة من النساء مثل( بلقيس، سبأ، خديجة، خنساء، عائشة، حليمة، خوله.. الخ.)
· في العصور الحديث ( عهود التحرر)
مع دخول العالم العربي والإسلامي عهود اليقضة والتحرر من السيطرة الاستعمارية أو الرجعية، كانت اليمن تتفاعل مع الأحداث، وتتشبث بقيمها بعشق غير محدود، فصار الآباء يخلدون فلسفة الحقبة بأسماء مواليدهم، فظهرت للمرة الأولى أسماء مثل: ( دولة، جمهورية، حرية، انتصار، إيمان، وحدة، عاصمة، نضال، اتفاق، شهيد.. الخ).
وعندما كانت إحدى المدن العربية تشهد حدثا مجيدا، كان اليمنيون يسكنوها قلوبهم، ويوثقون بطولاتها بأسماء مواليدهم، فشاعت أسماء المواليد، حتى بات أسم الشخص عنوان تاريخ ميلاده. فجيل الستينات واوائل السبعينات شاع بينه أسم ( جمال ، عبد الناصر)، اعتزازا بشخص الزعيم القومي ( جمال عبد الناصر) وأدواره في نصر اليمن. وكذلك إنجرّ الأمر إلى إسم( خالد) وهو إبن الزعيم عبد الناصر.
ثم تداخل مع ذلك إسم ( إبراهيم، حمدي) إعتزازا بالرئيس إبراهيم الحمدي وحركته التطويرية والتحديثية في اليمن، كما دخل إسم ( معمر) نسبة إلى الرئيس القذافي الذي مارس بعض الأدوار السياسية في اليمن.. فضلا عن إسم ( صدام) وإبنيه ( عدي، قصي) أوائل التسعينات بعد أن أثار إعجاب الكثيرين بضربه إسرائيل عام 1991م حتى أصبح إسم ( صدام) من أبرز ما يميز مواليد ذلك العام، وكذا إسم ( فيصل) تيمنا بمواقف الأمير فيصل بن سعود التي نالت إعجاب اليمنيين.
وهناك أسماء من وحي نضال الشعب الفلسطيني وانتفاضته المباركة مثل : (ياسر ، عرفات، عز الدين، حماس، جهاد، عياش، درة، إنتفاضة، قدس، ياسين.. الخ)
كما كانت للحركات السياسية التي ظهرت في اليمن بعد ثورة سبتمبر 1962م آثاراً واضحة في تسمية المواليد ، فقد ظهرت في شطر اليمني الجنوبي- بفعل النظام الاشتراكي- أسماء مرتبطة بالفكر الاشتراكي وزعمائه، مثل( ( شوعي، شيوعية، لين – نسبة إلى لينين- كاسترو، موسكو، روسية، عبد الفتاح- نسبة إلى مؤسس الحزب الاشتراكي اليمني، وجيفارا.. الخ).
ويبدو أن الحزبية في اليمن طبعت بصماتها أيضا على أسماء المواليد، فالأحزاب الد ينية يميل الآباء فيها إلى تسمية مواليدهم بأسماء مسبوقة بـ( عبد أو أمة) ، واسماء الصحابة، والتابعين، وكذا المجاهدين في الإسلام مثل: أبو بكر، عمر، بلال ، معاذ، عائشة، عز الدين ، آية، طوبي، هداية، عبد الرحمن، وليد... الخ)، وبعض الشعية أدخلت أسم ( خميني) أواخر السبعينات، إعجابا بالإمام الخميني في إيران، وكما ذكرنا آنفا- أن اتباع المذهب الزيدي كانت تستهويهم أسماء أهل البيت ( سلام الله عليهم) وكذا أئمة الزيدية.
في حين كان القوميون يميلون إلى أسماء الزعماء القوميين، والمناضلين، وأسماء مدن عربية ضربت مثلا في الصمود والمقاومة خلال مواجهتها للاستعمار أو الإحتلال.
· بصمات الاغتراب
المعروف أن الشعب اليمني يعتز بارضة، وأصله إلى درجة قد يتصور البعض أن الحديث عنها مبالغ فيه، لذلك نجد ضمن الأسماء القديمة الكثير مما هو مرتبط باسم القبيلة، أو كل ما يشير إلى اليمن مثل( صنعاء، عدن، سبأ، سعيد، بلقيس، أروى، سام.. الخ) وأسماء قبائل مثل ( حمير، ذرحان، همدان، خولان، بكيل، حاشد، سفيان، يافع... الخ.).
لكن مع دخول اليمنيين المهجر، واغترابهم في دول مختلفة من العالم ظهر تأثير عالم الاغتراب في أسماء المواليد، فوصولهم إلى مناطق جنوب شرق آسيا أضاف إلى قاموس الأسماء في اليمن أسماء قبل ( ماليزيا، ناوه- اسم جزيرة- هند- غاندي) بينما كان الوصول إلى الولايات المتحد قد أدخل أسماء( دالة- نسبة إلى دولار، مادلين، فيزا، نابليون، سكرمنت، ولاية، اليزابيت، جورج، إيلينا... الخ.
أما الاغتراب في دول الخليج العربي فقد أضفى بصمات واضحة بشكل كبير على قاموس الأسماء، فمن كان في السعودية عاد باسماء مثل( سعود، فيصل، طلال، فهد، جدة، شيخة، سلمان، رياض... الخ) ومن سلطنة عمان( سلطان، قابوس، سعيد، مسقط..) ومن الإمارات: (زايد- وهو كثير الانتشار، إمارة، شيخة..)، ومن الكويت: (صباح، جابر، كويت)، سالم..)، ومن البحرين: (خليفة، حمد).
ويذكر أن البعض تأثر بعالم الفن العربي، فدخلت أسماء مثل: (أم كلثوم، فيروز، عبد الحليم، فريد، أسمهان- وحديثاً شاع اسم "كاظم" نسبة إلى كاظم الساهر). وهناك أسماء متأثرة بالممثلين والممثلات أيضاً.
- تقاليد شعبية
من التقاليد الشعبية اليمنية بهذا الصدد أن يقوم البعض بتسمية الوليد باسم شخص آخر ممن يحبونهم او يحترمونهم- سواء من نفس الأسرة أم من خارجها وفي هذه الحالة جرت العادة أن يقوم ذلك الشخص المسمى باسمه بإهداء المولود بعض الأشياء مثل (هندول، ملابس، أفرشة، ألغاب.. الخ)، ويطلق على ذلك (سَميّة) وفي مناطق أخرى (سُموّة)- وهي غير محددة، وتختلف من شخص لآخر بحسب الحالة المادية، فبعض الميسورين جداً يهبون المولود مبلغاً جيداً من المال، وهناك حالات- وإن كانت نادرة- حصل فيها مواليد على قطع أرض زراعية.
ومن تقاليد تسمية المواليد في اليمن أنه إذا وافق أن أصيب المولود بمرض مزمن، أو يطيل البكاء في يومه، ويستمر به الحال عدة أيام، يقوم الأهل بأخذه إلى أحد المنجمين ليبحث أمره. فينصح الأخير بتغيير اسم الوليد إلى آخر غالبا ما يترك حرية اختياره للأهل، وأحياناً يحدد المنجم صنف التسمية.. وأحياناً قليلة يقوم المنجم بنصح الأهل بإطلاق اسم (قبيح) على المولد بقصد إبعاد الحسد.. وكل ذلك يأوله المنجمون إلى قراءات فلكية وحسابات مواقع النجوم- والله أعلم بما يقولون.
ومن تقاليد بعض الأسر أن ترجيء تسمية المواليد إلى الجد أو الجدة، وهناك من يعتز بتسمية الطفل البكر باسم جده أو جدته، بينما بات هناك من يحاول مناغمة اسم الوليد باسمه، كأن يكون اسم الأب (مبارك) فيمسي ابنه (عيد)، أو يكون اسم الأب (عبدالناصر) فيسمي ابنه (جمال).. وهكذا دواليك.
مما سبق نرى أن تسمية المواليد في اليمن يحمل تراثه الخاص، وطعمه المميز بنكهة البن اليماني الذي تتعرف عليه من بعيد.
ورغم كل تطورات العالم، أو انقلاب المجتمعات العربية نحو المسميات الحديثة، والانتقاء من الشبكات الإلكترونية أو مكاتب الأمومة، ظل اليمنيون وحدهم من يحتضن تراثه بشغف، ويعض عليه بناجديه، ويستوحي كل ثقافته من مناهلها الأصيلة بما في ذلك تسمية المواليد.
ربما اقتبس البعض أسماء أجنبية أو غربية، لكن تلك الأسماء (التي أوردناها) لا تمثل إلا حالات نادرة تكاد تكون واحد أو نصف بالمليون.. فاليمنيون وحدهم من يوثق عشقه باحتراف، ويحملون كل موقف أو رمز عظيم بأسماء أبنائهم.. فلا غريب اليوم إن غابت (رازان) و (داليدا) و (أليزا) عن قاموس اليمن، ما دامت القلوب متيمة بحب (سبأ) و (غزة) و (بغداد).