عبده محمد الجندي -
مخرجات الحوار بين الدعاية وعدم الرغبة في التطبيق..!
حتى هذه اللحظة لا نعرف من هو الرافض لمخرجات الحوار أو المتسبب بعدم تنفيذها، وجميع القوى السياسية تزعم اقتناعها بها وتطالب القيادة السياسية والحكومة بوضعها موضع التطبيق.
ومعنى ذلك أن المستفيد من عدم تطبيق هذه المخرجات النظرية وعدم تنفيذ المبادرة الخليجية هي القيادة الانتقالية المتمسكة بالحكم والتي لا ترغب في الخروج من هذه الفترة والشروع في إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية والمحلية أي إعادة السلطة الى الإرادة الشعبية بعد أن ضاقت ذرعاً بالإرادة الحزبية الفاسدة التي أثقلت كاهل الشعب وحولت حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والامنية الى جحيم.
وإذا كان الدستور الجديد يمثل جوهر تلك المخرجات الحوارية وأولوية المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية المزمنة وبداية الطريق الى بناء الدولة الديمقراطية الحديثة القائمة على التعددية السياسية والحزبية والشرعية الانتخابية كوسيلة وحيدة للتداول السلمي للسلطة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وحقوق الانسان وحرية الصحافة والمواطنة المتساوية وسيادة القانون.. فإن ما تقوم به لجنة صياغة الدستور من رحلات وجولات مكوكية ناعمة قد تجاوزت الحدود المعقولة والمقبولة الى درجة أقرب الى الرحلات السياحية منها الى الانفتاح على التجارب الانسانية والاستفادة من ايجابياتها، في وقت تعددت فيه وتنوعت كل وسائل الطبع والنشر والكتب المطبوعة والمسموعة والمقروءة من الناحيتين الآلية والالكترونية التي تحتوي على كل ما حققته البشرية وفكرت فيه واكتسبته من أنواع المعرفة السياسية والقانونية والدستورية التي لا تحتاج فقط سوى قدر من الرغبة في الاطلاع والقراءة لتجعل هذا الفريق على علم كامل بكل التجارب الاتحادية دون هذا النوع من السفريات والنفقات الخيالية المبددة للمال والوقت في هذه الصناعة الدستورية المؤلمة والمكلفة لشعب أرهقته المحن الناتجة عن الصراعات والحروب الدامية والمدمرة بين ما لديه من الأحزاب والتنظيمات السياسية المستفيدة من تمديد المرحلة الانتقالية وتجميد العمليات الانتخابية الدورية الى ما لا نهاية، أي أن المسيطرين على زمام السلطة التنفيذية بموجب المبادرة لا يريدون لهذه اللجنة إنجاز مهمتها خلال فترة وجيزة.
أعود فأقول إذا كانت مخرجات الحوار الوطني قد استغرقت ما يقرب من سنة كاملة في مؤتمر الحوار الذي يبدد الكثير من الإمكانات المالية بالعملة الصعبة التي أسهمت الى هذا الحد أو ذاك في رفع تكلفة ما نحن بحاجة اليه من الإصلاحات الدستورية والقانونية والسياسية والاقتصادية، فإن الإمكانات المادية التي خصصت للجنة الدستورية التي استوجبتها رحلتها الأولى الى ألمانيا ورحلتها الثانية الى الإمارات وبالعملة الصعبة ايضاًَ سوف تضاف اليها الى الامكانيات المطلوبة للهيئة الوطنية للرقابة على تنفيذ مخرجات الحوار التي تقترب من تسعين عضو مؤتمر حوار وطني لن تكون الأخيرة لأن الدستور يحتاج الى استفتاء والاستفتاء يحتاج الى سجل الكتروني والسجل الالكتروني يحتاج الى شهور والشهور تحتاج الى مليارات الدولارات لإنفاقها على اللجان وعلى الوسائل والمستلزمات، سوف تجعل منه أغلى دستور بالعملة الصعبة في العالم يستنزف الكثير من الاموال في مجتمع فقير ودولة فاشلة تعاني من عجز مهول في موازنتها المهددة بالإفلاس، ناهيك عما تحتاجه القضية الجنوبية وقضية صعدة من أموال طائلة لإعادة الموظفين المدنيين والعسكريين وتحسين أوضاع المتقاعدين وتسوية عشرات الآلاف من العسكريين ومعالجة عشرات الآلاف من الجرحى والمعاقين وتعويض ما لحق بالاراضي والمساكن من الخراب والنهب الى غير ذلك من الإمكانات المادية المهولة التي نحتاجها، ونحن بصدد الحاجة الملحة لبناء الدولة المدنية الديمقراطية وتطبيق قانون العدالة الانتقالية التي لها بداية وليس لها نهاية، اللامعقول فيها اكثر من المعقول.
أعود فأقول إن دستور اليمن الجديد يحتاج الى خطة طويلة الأمد قد لا يتم بلوغها على المدى المنظور بصورة تباعد بين الشعب وبين استعادة حقوقه الانتخابية يستدل منها على فساد الأحزاب والتنظيمات السياسية المستفيدة من حكومة الوفاق ومن حكومة الكفاءات والتي لا تثق بما لديها من قدرات تنافسية انتخابية.
لماذا لا نتعظ من التجربة المصرية التي أعدت دستوراً من أرقى الدساتير الديمقراطية في الوطن العربي خلال فترة زمنية قياسية ومن غيرها من التجارب الديمقراطية الناشئة والناضجة في كتابة دستور يستوعب مخرجات الحوار وبأي مداد سوف يتم كتابة هذه المخرجات التي تبدو أغلى من الذهب.. هل نحن دولة غنية لا تحتاج لما لديها من الموارد المحدودة حتى يتم بعثرتها بهذه الأساليب الارستقراطية الترفية، وصرفها على ما لدينا من طبقة سياسية فاسدة، في وقت تعاني فيه الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب اليمني من حياة أسوأ من الموت؟
لا أعتقد أن العقل اليمني سوف يصدق مثل هذه السفسطات التي تخفي خلفها رغبة الاستمرار في السلطة الى ما لا نهاية بعد أن أقصيت منها الاحزاب الفاعلة وانحصر التقاسم في نطاق تلك المكونات السياسية والاحزاب الصورية الهاربة من الانتخابات.
وهنا أجدها مناسبة لأسأل أولئك الساسة الذين يستهبلون الشعب ويستغفلونه وهم يتحدثون عن مخرجات الحوار الوطني ليل نهار ولا يعملون شيئاً يُذكر لوضعها موضع التطبيق، وهل أصبحت عبارة عن أمنيات مثالية تشبه الأدوات التي لا تستخدم إلا من باب الاستعراض الذي ينزلها منزلة الزينة الدعائية.. ما هو الشيء الصحيح الذي اسفر عن عدم إمكانية تطبيق ما تقدم هذه المصفوفة الحوارية من مستقبل جميل بغض النظر عن التكرار والتناقض وعدم القابلية للتطبيق قياساً مع ما لدينا من الموارد والامكانات المحدودة والمكبلة بأغلال الفساد.
وعلى سبيل المثال لا الحصر هل عدم تمكن الحكومات المتعاقبة من إنشاء المباني الجديدة للسجون وتجهيزها بما يتوجب توفيره من الوسائل والمستلزمات ذات الصلة بالأثاث والخدمات الصحية والتربوية والتعليمية كان ناتجاً عن فساد تلك الحكومات؟! أم كان ناتجاً عن نقص في الامكانات التي تتطلبها تلك الطموحات التي لا حدود لتطلعاتها الخيالية لأنها عبارة عن رغبات في حياة ديمقراطية وحياة معيشية متطورة تحاكي ما وصلت اليه البلدان الغنية لا يمكن بلوغها بمخرجات نظرية مستحيلة التطبيق إذا علمنا أن الذين يحكمون قبضتهم على السلطة والثروة يقدمون رغباتهم وملذاتهم الكمالية العاجلة على رغبات وحاجات شعوبهم الضرورية داخل وخارج السجون المظلمة.
تتحدث هذه المخرجات عن تعويضات لما حدث بالأمس من انتهاكات للحقوق والحريات وتفترض عدالة اجتماعية لجبر الضرر، لكنها تتعمد تناسي ما يحدث في فترتها الانتقالية المفجعة من حركة قتل نشطة حولت البلد الى غابة لا نشاهد فيها سوى القتل والدموع والدماء والسلب والنهب بلا قيود ولا حدود.
مَنْ هم أولئك الفاسدون والمفسدون الذين يحكمون قبضتهم على مؤسسات الدولة ومواردها ويستخدمونها للحيلولة دون تنفيذ مخرجات الحوار الوطني ودون تطبيق المبادرة الخليجية؟
إنهم ينظرون لمخرجات الحوار الوطني وللمبادرة الخليجية ولاتفاق السلم والشراكة من زاوية الحفاظ على مصالحهم الخاصة وبقائهم في مواقعهم القيادية حتى يتمكنوا من اجتثاث ما تبقى من القيادات الوسطية والتنفيذية في الإدارة المحلية، ويحاولون من خلال هذه الحركة البطيئة التخلص من أي ولاءات لقيادات سابقة بعد أن ضمنوا بعض التوصيات الدستورية لإبعاد هؤلاء من أي مواقع قيادية حزبية كانت أو حكومية ورئاسيةٍ في سابقةٍ تنتقص من الحقوق الطبيعية للمواطنة المتساوية بنصوص تشبه نصوص العزل والحرمان السياسي.
إنهم لا يؤمنون بهذه المخرجات وبهذه المبادرات وبهذه الاتفاقات كمنظومة متكاملة ومترابطة تهدف الى بناء دولة يمنية ديمقراطية حديثة تكفل الحقوق والحريات العامة والخاصة وتربط الحقوق بأداء الواجبات الوطنية وتحمي الدستور وتحترم إرادة الشعب ومصالحه العليا وترسخ بالتزامن القيم الديمقراطية ذات الصلة بملكية الشعب للسلطة وقيم العدالة ذات الصلة بملكية الشعب للثروة كأساسين قويين لترسيخ القاعدة الصلبة للوحدة الوطنية المرادفة للحرية بما لا يؤدي الى اختلال التوازن وظهور النزعات الطائفية والمذهبية والمناطقية والانفصالية ذات الصراعات والحروب الأهلية حزبية كانت أم عشائرية أم قبلية تستهدف النيل من الوحدة اليمنية.
أقول ذلك وأقصد به أن حماية مخرجات الحوار ووضع المبادرة الخليجية واتفاق السلم والشراكة يستدل منها على تحويل الحق الى باطل والباطل الى حق مسؤولية شعبية ومجتمعية تجبر الصفوة والنخبة السياسية على الاحتكام لإرادة الشعب واستبدال الحكومات الارستقراطية للأحزاب بالحكومات الديمقراطية المنتخبة من الشعب باعتباره المصدر الوحيد للسلطة عبر انتخابات برلمانية ورئاسية ومحلية ملتزمة بالشفافية والحرية والنزاهة وغير ذلك من المعايير الدولية المعمول بهما في جميع الدول الديمقراطية.
ومعنى ذلك أن مخرجات الحوار الوطني في معظمها وتطبيق المبادرة الخليجية واتفاق السلم والشراكة ليست مجرد مصفوفات مثالية نظرية غير قابلة للتطبيق، بقدر ما يجب أن تتحول الى قوانين وسياسات علمية وعملية حاملة لما نحن بحاجة اليه من المنجزات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية والأمنية المتناسبة مع ما لدينا من الطاقات والامكانات الممكنة والمتاحة، وإلا تحولت الى أفكار سرابية ومثالية غير قابلة للتحقيق قد يكون لها مكان فيما لدينا من الأحلام والرغبات والتطلعات الحالمة وليس لها على الأرض ما هي بحاجة اليه من المكان والزمان في ميادين التجربة والممارسة العلمية والعملية التي تقاس بالإبداع والانتاج الذي يوفر للحاجة ما هي قادرة عليه من الكفاية المادية التي يقاس بها الحكم الديمقراطي الرشيد وسيادة القانون.
وبدون الاسراع في الانتقال من هذه المكونات غير الديمقراطية سوف تسير البلاد من سيئ الى أسوأ ومن الصراع الى الحرب.
أقول ذلك وأقصد به إن مخرجات الحوار الوطني والمبادرة الخليجية واتفاق السلم والشراكة يجب أن تخرج من الأدراج المخزونة في مكاتب الوزراء والقادة الى حيز السياسات والخطط والبرامج العملية المزمنة بدلاً من بقائها مادة إعلامية للزينة والدعاية تندرج في نطاق الوسائل الاتهامية والاساليب الانتقامية يستخدمها مَنْ هم في الحكم للانتقام ممن هم في المعارضة عبر اتهامهم بعرقلة التسوية السياسية لإزاحة من يعتقدون أنهم أكثر خطورة على مواقعهم القيادية بحكم ما يمثلونه من قاعدة شعبية عريضة في أول عملية انتقال من الحكومات الشمولية ومن التسويات الانتقالية الى الممارسة الديمقراطية القائمة على التعددية الحزبية والسياسية والتداول السلمي للسلطة.
إن الشعب ينظر الى مخرجات الحوار الوطني بأنها فرص عمل قادرة على استيعاب العاطلين الذين تسحقهم البطالة وبأنها مستويات دخل معقولة ومقبولة وقادرة على تحسين الأوضاع المعيشية لأولئك الفقراء، والمحتاجين الذين يمزقهم الفقر ويجعلهم عبيداً لما لديهم من الحاجة وانها اسعار يقوى عليها أبناء الشعب بكل طبقاتهم الاجتماعية المتفاوتة.
وينتظرون لهذه المخرجات بأنها أمن واستقرار واستثمارات يمنية وعربية وأجنبية متجددة تؤمّن للدولة ما هي بحاجة اليه من الموارد السياحية وزيادة الإيرادات الخاصة بالضرائب والرسوم وما تحظى به هذه المنشآت من تجهيزات ووسائل ومناهج وهيئات تدريس قادرة على انتهاج سياسات تعليمية متجددة ومتطورة تربط مخرجات التعليم بمتطلبات التنمية وتنظر للحاضر والمستقبل من حركة صناعية وتجاريةمنظورة ومنتجة لفرص العمل الجديدة..
كما تنظر لها من منطلق الرغبة في إحداث ثورة زراعية متجددة الإنتاج في شتى المجالات ومن خلال منظومة دستورية وقانونية منظمة للحق والواجب على قاعدة السيادة للنظام والقانون، وقد تنظر للمخرجات من منطلق الرغبة في شق وسفلتة الطرق والشوارع الترابية التي تربط المحافظات بعواصم المحافظات وتربط العاصمة بعواصم المحافظات، ومن خلال حركة مواصلات واتصالات برية وبحرية وجوية داخلية وخارجية قادرة على استيعاب الجديد.
وقد تنظر لها من خلال الكهرباء التي تمثل أرقى ما وصلت اليه المدنية من تبدلات تميز بين الماضي وبين الحاضر، وتمد الشعب بحاجة الى الطاقة وفي مقدمتها الحركة الصناعية والزراعية والخدمية.. وقد تنظر لها من خلال بنية تحتية ضاربة جذورها في شتى المجالات المدنية والخدمية والإنتاجية، وقد ينظر لمخرجات الحوار أيضاً من زاوية المدن المخططة والشوارع الفسيحة والمباني الجميلة والحكومية والمدن السكنية ومن خلال الحدائق المتعددة والمتنوعة التي تميز اليمن الحديث والمعاصر عن قبله من العصور.. وقد تظهر لنا من خلال ما نحن بحاجة اليه من وجود قضاء عادل في الحقوق ويصون الحريات وذكر الحق والعدل ويجد به رجال المال والاعمال أحد الحوافز المشجعة على الاستثمار في أجواء آمنة دائمة الأمن والسلم، ومن خلال حرية الصحافة وحقوق الإنسان والممارسات الديمقراطية التي ترسخ التداول السلمي للسلطة وقيم العدالة الاجتماعية وتضع الحلول التي تؤمّن الوحدة الوطنية وتجنبها مغبة الصراعات والحروب على السلطة والثروة.
أخلص من ذلك الى القول إن تنفيذ مخرجات الحوار الوطني ضرورة وطنية ومسؤولية حكومية ملحة لا بديل أمام الأحزاب والتنظيمات السياسية التي شاركت فيها سوى الضغط على خلافاتهم والعمل بروح الفريق الواحد لبلورتها وتنقيتها من التكرار والتناقض وما يفهم بأنه تقييد للممارسة الديمقراطية وتدخل في الشؤون الداخلية للأحزاب والتنظيمات السياسية!؟