عبدالكريم المدي -
هذه حكاية الطائرة الرئاسية وطائرات سوق مستبأ..!
في الوقت الذي أقلعت فيه صبيحة الثلاثاء 15 مارس من مطار الملك خالد الدولي في الرياض طائرة سعودية متجهة إلى مطار الكويت وعلى متنها عبدربه منصور هادي الذي استهل منها جولة خليجية جديدة يطلب فيها مزيدا من الدعم ومزيدا من الطائرات الحربية لدكّ ما تبقى من مصانع وأسواق ومدارس ومخازن للحبوب والغذاء في اليمن، اقلعت في نفس الوقت ثلاث طائرات حربية سعودية/ خليجية f16 من قاعدة خميس مشيط الجوية جنوب المملكة وأتجهت صوب محافظة حجة اليمنية ،أهدافها وإحداثياتها كانت محددة وواضحة وما على طواقمها إلا الضغط على زر اطلاق الصواريخ والقنابل الموجهة ومباغتة العدو الذي كان يستعدّ لمهاجمة عروبة الخليج انطلاقا من سوق شعبي معظم مرافقه أكواخ وطرابيل..
لم يكن يعلم المواطنون الذين تدفقوا منذُ الصباح الباكر إلى سوق الخميس في مستبأ، إن ذلك اليوم والساعات هي الأخيرة من حياتهم، ولو علموا لكانوا ودّعوا أهلهم وأطفالهم بما تستحقه مناسبة كهذه من جلال ومشاعر ومعاني إنسانية، ولم يكن – أيضا – يعلم الأطفال الذين حملوا الحرمان والأحلام الملائكية في عيونهم ونفوسهم، متطلعين في ذلك اليوم للحصول على لعبة بسيطة وعشرة كيلو دقيق، إن أجسادهم ستتفحّم وتتمزق لتضيع معها معالمهم وملامحهم ويصعب على أمهاتهم معانقة واحتضان أرواحهم وأجسادهم التي ضاعت وأختلطت بالتراب والحطب ودماء وأشلاء رفاقهم، الذين خسروا حياتهم ، وكسبوا الشهادة، خسروا مرحاً متقطعاً ربما كانوا سيحصلون عليه فيما كُتِب لهم من حياة ، وكسبوا فضيلة تعرية القتلة ، نعاهم الشعب اليمني، وهم كسبوا شرف نعي ضمير الأمة والإنسانية المتوحشة.
هل تعلمون ما هو الخطر الذي كان يُمثّله أولئك الضحايا على التحالف السعودي؟ سأجيب لكم: لم يكن هناك أي خطر يتهدد المملكة أبداً، أكثر من أنهم يمنيون خرجوا باكراً من عششهم وبيوتهم المتواضعة من أجل الحصول على بعض أساسيات البقاء ومقايضة منتجاتهم وسلعهم البسيطة التي كانت عبارة عن بيض بلادي وكباش وماعز وأعلاف وحطب ، بأخرى ،ومن ثم العودة إلى أهلهم بقليل من الزاد وكثيرمن السعادة والأحلام الصغيرة التي لا تتعدى أحلام العودة إلى ذلك السوق في ثلاثاء قادم قد يحالفهم فيه حظّ جديد يُساعدهم على مواصلة الحياة على طريقة الكفاح والكدّ اليمني الذي عنوانه الدائم (الألم) و (الأمل).
المهم ..بينما كانت طائرة هادي تقترب من الكويت وتستعد للهبوط في مطارها الدولي الذي فُرِش بالسجاد الأحمر، كانت طائرات الـ f16 قد أفرغت حمولتها وأخلى طياروها ما بعهدتهم من صواريخ وقنابل أستقبلتها رؤس وأجساد الأبرياء في سوق الخميس بمديرية مستبأ حاصدة حياة (110) إنساناً يمنياً ، فقيراً، ما بين طفل وشاب ،أمرأة ورجل ، ومعهم (48) جريحا.
وكالعادة السيد (هادي) لم يعلم بهذه الجريمة إلا من خلال وسائل الإعلام ، تماما مثلما عَلِم بشن دول (التحالف السعودي ) حربها المفتوحة على بلاده في 26 مارس 2015 والتي لم يكن – كما قالها باسماً في إحدى المقابلات – يتوقعها ،مؤكداً بإنه كان ساعتها يقطع الصحراء صوب سلطنة عمان، في رحلة العمر التاريخية لإعادة (الشرعية) التي فرّت منه ذات مساء.
أما الذي يقفز إلى ذهنه سؤال من هذا القبيل : كيف كانت ردّة فعل (هادي) بعد أن عَلِم بهذا الانجاز العسكري الجديد في سوق الخميس ؟ سنقول له : لا جديد في الأمر ، يا صديقي، ولم تكن ردة فعل وملامح فخامته إلا طبيعية، سيما والبروتكولات تحتم على القادة أن يكونوا ثقالاً ، لا ينبغي أن تؤثر في برستيجهم وتصرفاتهم، أثناء زياراتهم الخارجية ،لا الخسائر ولا المكاسب ، ولهذا لم تظهر عليه أي تغيرات، ولم يتأثر مثلما تأثرت رئاسته في الرياض، يوم قُتِل عشرات الجنود الإماراتين والسعوديين والبحرينيين في صحن الجن بمأرب وبادرت حينها طواقمه بإرسال برقيات المواساة والتعازي المكلومة لقادة السعودية (المستضيفة لغرف النوم والكراسي الوهمية ) وللإمارات والبحرين، وليس ذلك فحسب ،بل أن (الرئيس) سرعان ما طار إلى أبوظبي والمنامة لمشاركة الأشقاء واجب العزاء وتقاسم الفاجعة معهم والتضرُّع لله بأن يسكنهم إلى جوار سادتنا (أبي بكر وعمر وعثمان وعلي) رضوان الله تعالى عليهم ، مؤكداً إنهم رواو بدمائهم الطاهرة تراب العروبة المهدد بالجفاف والتصحر في اليمن، وسقوا شجرة الحرية التي يخاف عليها من شتاء قادم .
على أية حال ..خلوا في بالكم إن آلاف المدنيين قد سقطوا في الأسواق والمدن السكنية وقاعات الأفراح والمصانع والمستشفيات اليمنية ، ولم نسمع يوماً إن (هادي) وحكومته الموقرة أو أصغر مسؤل فيها قد عزوا أسر الضحايا أو أبدوا تعاطفاً ما مع أهالي الشهداء والجرحى ولو كان ذلك شكليا .
صحيح لم تكن هذه الجريمة الأولى من نوعها ،وإنما هي إستمرار لمسلسل شبه يومي لمئات الجرائم المماثلة ، لكنها في تقديرنا تُعدُّ بمثابة بيان نعي أخير من اليمنيين لضمير الأمة الذي كان ميتاً سريرياً، واليوم مات تماماً، وأصبحت هذه الأمة والإنسانية جمعاء التي تستمتع بمشاهدة (هولوكستات) السعودية والسلاح الغربي، الذي يحول إنسان هذا الشعب إلى أشلاء وأطفاله إلى قطع من اللحم المتفحم، بدون ضمير مثلها مثل بحيرة ممتلئة بمياه آسنة وملوثة.
اليمنيون لم يراهنوا على ما تبقى من أنظمة عربية حوائطها تميل كل يوم خمس درجات نحو السقوط، لكنهم راهنوا ومنّوا النفس في بعض الأوقات بصحوة تقودها الشعوب العربية التي لم تتأثر حتى الساعة بعشرات المجازر كمجزرة (سوق الخميس بمستبأ) ولم تُرحكها- أيضا– بعض صور أجساد أطفالنا التي تكفي لتوقيف الدماء في عروق كل من ينتمي للإنسانية هوى وهوية ، معنى ومبنى ، قيماً واخلاقاً ، مشاعراً وأحاسيس .
للأسف الشديد الجميع قابل مأساتنا ومسلسلات قتلنا ببرود شديد وبصمت مطبق ، ولم نر بلداً عربياً واحداً نكُست فيه الأعلام ولا جامعة أو أكاديمية عربية توشحت فيها القاعات والساحات بالسواد ولا شاشة تلفزة واحدة نعت شهداءنا ،أو أعلنت الحداد على ضحايا مجزرة واحدة من المجازر العديدة التي يُذبح فيها اليمنيون هنا بشكل جماعي.
يا إلهي ..لم نر أو نسمع عن أي شكل من أشكال التضامن العربي ولو كان من باب إسقاط الواجب ،الكل يمارسون الغواية والتجاهل وغض الطرف عما يجري في اليمن وفلسطين وسوريا والعراق وليبيا ،الكل يُشاهد ما يحصل في اليمن منذُ عام وكأن يقع خارج كوكب الأرض ولا يعني أحداً بشيء .
الجميع يُقابل مذابحنا بالصمت المخجل واللامبالة، وهذه وصمة عار في جبين أحرار ما يسمى بالعالم الحر وأصحاب شعارات الديمقراطية ، وصمة عار في جبين كل من يهتف بحقوق الإنسان ويتغنى بمظالم الشعوب ويدعي الدفاع عن المضطهدين والمعذبين في أنحاء العالم والعمل من أجل الأمن والسلم وحماية ميثاق الأمم المتحدة والمواثيق الدولية والقانون الدولي الإنساني ..
بعد الذي حدث ويحدثُ في اليمن وفلسطين وسوريا وغيرها على كل الأصوات الناعقة بحقوق الإنسان ، المتشدقة بالحرية أن تصمت وإلى الأبد ، لا نريد أن نلوث أسماعنا بهرطقات أحد ..وعلى هذا العالم أن يتوارى أكثر ويكفّ عن الكذب والتضليل، وعلى شركات بيع الأسلحة والشركات النفطية والإمبراطوريات الإعلامية وغيرها أن تحترم نفسها ولا تتاجر بقضايانا ومظالمنا وحقوقنا وتقتل شهداءنا مرتين، أما نحن فلن ننقرض ، ولن تفنينا هذه القنابل ومواقف الخذلان، ولن ينضب ضوء جروحنا وأحلامنا في الإنتصار على الظلمة والقتلة تحت أي عنوان تدثّروا.