بقلم/الدكتور رضوان السيد -
مشكلة دارفور والجراح العربية الجديدة
ما أن بدأت مشكلات جنوب السودان تتجه إلى نوعٍ من التهدئة عن طريق التفاوُض بوساطةٍ أميركيةٍ وإفريقية، حتى ظهرت مشكلاتٌ جديدةٌ في غرب السودان وشماله أبرزُها مشكلة دارفور حيث تنشبُ منذ سنواتٍ اضطراباتٌ اتخذت طابعاً إثْنياً بين العرب والأفارقة، تقوم فيها القبائل العربية (الزريقات) وفرسانها (الجنجاويد) بدور المضطِهد ومرتكب المذابح والتهجير لأكثر من مليون من الفلاحين من ذوي الأُصول الإفريقية في ما يقال في التفرقة بين الطرفين. وإذا كان النزاع بين الشمال والجنوب قد أُعطي صبغةً دينيةً، باعتبار أنّ أكثر الشماليين مسلمون، وأكثر الجنوبيين مسيحيون ووثنيون؛ فإنّ الأمر في دارفور أُعطي صبغةً إثنيةً لأنه، ولسوء حظّ اللاعبين الدوليين أو لحسن حظّهم أنّ كلَّ أبناء مقاطعة "الفور" هم من المسلمين، على المذهبين المالكي والشافعي، وتسودُ بينهم الطرق الصوفية التي لا تفرّقُ بين عربيٍ وإفريقي. وقد عرفت منطقة "الفور" دولاً وسلطناتٍ إسلامية منذ خمسة قرون. وعندما ذهبتُ للتعلُّم بالأزهر أواسط الستينيات كان "رواق" أو وقـف "الفور" ما يزال قائماً، ويسكن في قاعاته طلبةٌ سودانيون نعرفُ نسبتهم إلى سنار أو كَسَلا دون أن يخطر بالبال سؤالهم عن أُصولهم الإثنية، ليس لأنَّ كلَّ أبيض عند العرب صابون، بل لأنهم جميعاً ما كانوا يفترقون في اللـون والقسمات والطباع، ولا ينتسبون لغير السودان. وقبل ستة أشهرٍ فقط، وعندما بدأت أخبار المذابح بدارفور تظهر في وسائل الإعلام، عرفنا معنى وجود حركة سياسية/ عسكرية اسمها حركة تحرير السودان. كما عرفنا أنّ الاضطرابات بدارفور موسمية، وبالذات في سني الجفاف، وتنشب بين البدو الرحّل الباحثين عن الكلأ والماء، والفلاّحين الذين يربون أعداداً ضئيلةً من المواشي الصغيرة على حواشي مزارعهم المتواضعة والفقيرة. والجديد في الأمر بحسب المراقبين أنّ الجفاف استمر هذه المرة لزمنٍ طويل، وأنّ الحكومة السودانية سلّحت ميليشيا عربية في مناطق دارفور المحاذية للحدود التشادية عندما كانت تلك الأقاليم مضطربة لمنع امتداد الفوضى من تلك النواحي إلى داخل دارفور السودانية؛ بيد أنّ الجنجاويد المسلَّحين هؤلاء بدأوا منذ عامين أو أكثر يشكلّون عصاباتٍ تجتاح المناطق الزراعية المسكونة من جانب ذوي الأصول الإفريقية هناك، تارةً للغنيمة، وطوراً للاستيلاء على الأراضي الخصبة، وأخيراً من أجل مساعدة الحكومة السودانية على إخماد التمرد الذي بدأ يظهر في بعض القرى والبلدات بالتنسيق مع جون قرنق أو بعض الأحزاب السودانية الأُخرى، التي كانت ما تزال وقتها تتبع تكتيـك العنف المسلَّح ضد حكم الإسلاميين في السودان.
والذي يبدو، أنّ الحكومة لم تأبه كثيراً للاضطرابات في دارفور في العامين الأخيرين، لأنها حَسِبت فعلاً أنّ التمرد صغير، وأنّ الجنجاويد يستطيعون قمعه بمساعدة بعض كتائب الحرس الوطني، ثم إنّ المفاوضات الناجحة مع جون قرنق، زعيم التمرد الحقيقي الكبير، كفيلٌ بإسكات كلّ تذمرٍ آخر. وربما شجَّع الحكومة على هذا الاقتناع، بالإضافة للسببين السابقين، أنّ الولايات المتحدة دخلت شريكاً كاملاً فـي عمليات التفاوُض، وبدا أنها تغضُّ الطرْف عن ماضي الحكومة الإسلامية، ما دامت قد أبعدت حسن الترابي، الزعيم الديني الأصولي، ووضعته في السجن.
في الشهور الستة الأخيرة، ظهر أنّ كل افتراضات الحكم السوداني في ما يتعلق بدارفور مخطئـة. فالتمرد على الحكومة لم يضعُفْ رغم ابتعاد جون قرنق عنه. وقد انضمّ إلى تنظيم حركة التحرير فيه، تنظيمٌ آخر سمَّى نفسه حركة العدل والمساواة، بدا أنّ له علاقةً بجماعة الترابي القابع في السجن. والجنجاويد "الشجعان" هؤلاء تجنبوا مقاتلة المتمردين، وانصرفوا لاضطهاد السكان المدنيين غير المسلّحين في عمليات نهبٍ وقتلٍ وتهجيرٍ قاسية، أسقطت حوالي الخمسين ألفاً، وهجَّرت حوالي المليون. والحلفاء الأميركيون البشوشون منذ ثلاث سنواتٍ أظهروا مع البريطانيين والفرنسيين (ثم كوفي أنان) اهتماماً مفاجئاً بسلامة أهل دارفور، وسارعوا للقيام بزياراتٍ لمخيماتهم، وتقديم المساعدات لهم، وحمل قضيتهم إلى المحافل الدولية، باعتبارها قضية إبادةٍ عنصريةٍ من جانب العرب بدارفور ضد الأفارقة، تُعاونُهم في ذلك حكومة البشير بالسلاح أو بالسكوت عنهم. وتوشكُ القضيةُ الآن أن تصل لمجلس الأمن، ليصدر قرارٌ بالإدانة والعقوبات على الحكومة السودانية، وقد يؤدي الأمر إلى تدخل عسكري لحماية المدنيين بدارفور إن وجدت الحكومة الأميركية لنفسها مصلحةً في ذلك.
ووسط تصاعُد المطالب الدولية، سمحت الحكومة السودانية بإدخال المساعدات، كما سمحت بزيارة الوفود ووسائل الإعلام. لكنها قبل أيام، ومع تصاعد الاتهامات ضدها، وطلبات التدخل الدولي الإنساني، عادت للقول إنّ المقصود إسقاط الحكم الإسلامي بالسودان، كأنما قد بقي هناك شيء لم يسقُطْ، بسبب الإسلاميين وشيخهم الترابي بالذات. فقد اغتصبوا السلطة عام 1989 بمئة ضابط ينتمون إلى تنظيم الترابي، ويقودهُمُ الترابي نفسهُ الذي تظاهر في البداية بأنه لا يعرفُ شيئاً عنهم. وقد بدأوا عملية الأسلمة (كأنما السودانيون ما عرفوا الإسلام من قبل، والترابي الذي سبق له أن أعلن البيعة بإمارة المؤمنين للنميري، هو الذي سيقود السودانيين المبتلين به وبالبشير وضباطه إلى الجنة بالسلاسل!) باستبعاد كل القوى السياسية والاجتماعية السودانية، والزجّ بها في السجن، أو مطاردتها في المنافي. ثم اندفعوا إلى الجنوب لإنهاء التمرد الجنوبي بالقوة، واصطدموا في مسيرتهم ليس بقرنق فقط ؛ بل بإثيوبيا ومصر وليبيا وتشاد وأريتيريا وأوغندا. وما أن أتى عام 1996 حتى كان التمرد قد تعاظم، وانضمت إليه سائر أحزاب المعارضة الشمالية التي اتخذت من أريتيريا مركز قيادةٍ لها، فضلاً عن ظهور تمرداتٍ جديدةٍ في أعالي النيل وشرق السودان وغربه وشماله. والطريف أنّ الترابي أيديولوجي المفاصلة بين الكفر والإيمان، والولاء والبراء، هو الذي سارع للقاء سراً بقرنق، وعقد اتفاقٍ معه يتخلَّى بمقتضاه عن كل شيء تقريباً. ولا علّةَ لذلك إلاّ خوفه من أن يسقط نظام الحكم تحت وطأة الضغوط العسكرية والسياسية، ويعود هو إلى السجن أو المنفى. وقد اتخذ تلامذته الإسلاميون (المخلصون) من حركته تلك ذريعةً لإقصائه وإقصاء أنصاره، ثم للدخول في مفاوضاتٍ مع الأميركيين على كل شيء يهمُّهم. وكانت للأميركيين وقتها مصلحةٌ في اختبار نوايا النظام. كانوا يريدون معلومات السودانيين عن ابن لادن بعد أن غادر البلاد إلى أفغانستان. وكانوا يريدون الاشتراك في مصائر النفط السوداني المكتَشَف. وكانوا يريدون موطئ قدمٍ في المنطقة الفاصلة أو الواصلة بين العرب والأفارقة. وكانوا يريدون الدخول في مصائر مصر عن طريق الوصول إلى منابع النيل، والقرن الإفريقي، بعد أن استطاعوا هم والإسرائيليين الدخـول إلـى مضيق باب المندب وأريتيريـا وإثيوبيا. وقد شجّعهـم على تصديـق أنّ "الإسلاميين" غيَّروا جلدهم بالسودان، إقدامهم على تسليم كارلوس الشهير إلى الفرنسيين، في عمليةٍ افتخر بها الترابي الذي كره وقتهـا "الإرهاب" فجأةً.
وعلى أي حال فقد نجح البشير ونائبه ووزيـر خارجيته (وكلهم من أتباع الترابي السابقين) في الاختبارات المتعددة التي أجراها عليهم الأميركيون. وكانت نتيجة ذلك "نجاح" المفاوضات مع قرنق في ما بين العامين 2001 و2003 بعد نكساتٍ كثيرةٍ من قبل. ولذاك النجاح ثمنه ومسؤولياته. فبمقتضى الاتفاق العتيد على اقتسام السلطة والثروة إعداداً للاستفتاء على تقرير المصير للجـنوب بعد ست سنوات، صار للسودان جيشان وعملتان وبنكان مركزيان، ونظامان قانونيان (مدني وإسلامي). وكان اتفاق التقاسُم هذا بين ميليشيا جون قرنق، وضباط البشير وحزبه. وهكذا انعزلت حتى الأحزاب السودانية الشمالية التي كانت متحالفةً مع قرنق، كما انعزل الترابيون الذين كانوا في رأس سلطة الحكم في الأصل. وطبيعيٌّ في مثل هذه الظروف أن يسأل كلُّ فريقٍ أو فئةٍ أو منطقةٍ عن نصيبه وحظّه ليس من الثروة والسلطة فحسب؛ بل ومن الجغرافيا السكانية والسياسية أيضاً. وأحسبُ أنّ الواقع الجديد كان بين أهمّ أسباب ازدياد التمرد في شرق السودان وغربه وبعض مناطق شماله. فما دام قرنق قد استطاع الحصول بفريقه وحده على ثلث ثروة البلاد كلّها، وثلث حياتها السياسية ؛ فلماذا لا يحاول الآخرون وبالأسلوب نفسه (الميليشيا المسلَّحة) الحصول على بعض الغنائم أو الاستيلاء عليها قبل حصول الاقتسام؟!
ليس الوقت وقت أخذ الثأر أو التشفي. فالمعرَّضُ للخطر ليس وحدة السودان فحسْب؛ بل وسمعة العرب والإسلام أيضا. فقد استخدم النظام السوداني الإسلام والسلطة باسمه من أجل "المفاصلة" كما قال الترابي، أي التقسيم والفصْم وليس التوحيد. ويوشكُ السودانُ إذا تغلغل فيه الأميركيون أن يتصوْمل. أمّا العرب والمسلمون، فهم بعد 11/9/2001 متعصبون وعنصريون، وما يجري في دارفور دليلٌ إضافيٌّ على ذلك! وقد عملت دوائر استعمارية كبرى ومنذ الخمسينيات من القرن الماضي لدقّ أسافين بين العرب والأفارقة (المسلمين وغير المسلمين) ، بحجة أنّ العرب كانوا دائماً تجار عبيدٍ وتمييزيين عنصريين. وقد ظهر ذلك بوضوح في الاضطرابات بزنجيبار مطلع الستينيات، كما في موريتانيا، وكينيا، وأريتريا، والصومال / إثيوبيا، ومصائب القذافي في التنقل ذهاباً بين العروبة والإفريقية، كأنما هما ضدان أو نقيضان، والآن ما يحدث في دارفور. بيد أنّ المحاولات الأولى جوبهت آنذاك باستراتيجيةٍ مصريةٍ وعربيةٍ بعيدة المدى، وأمكن تجاوُزُ الآثار السلبية بالعمل الجادّ من ضمن منظمة الوحدة الإفريقية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والبنك الإسلامي للتنمية، والمساعدات التنموية، والتواصل المباشر ضمن حركة التحرر من الاستعمار، والتضامن في نطاق مكافحة نظام التفرقة العنصرية بجنوب إفريقيا. أما الآن فلا يحضُرُ شيء من ذلك. وقد كشفت تجربةُ الإسلام الأصولي بقيادة الترابي وابن لادن عُوارَ العرب، ووضعتنا في مواجهةٍ مع العالم، ما استطاعت أنظمتنا المتمركزة حول الذات أن تخفّفَ من شدّتِها، ولا أن تتطلع إلى خياراتٍ وبدائل أُخرى للعلاقة بالدين، كما في ممارسة السلطة. ورغم شراسة النظام في السودان، فالـواقعُ أنّ مشكلاتـه لم تحظ باهتمامٍ يستحق الذكر، من جانب العرب، والأميركيون والأفارقة هم الذين ساعدوا في حلّ مشكلة الجنوب، وهم الذين يتدخلون في دارفور دون أن يحرّك العرب ساكناً. وقد صار الأمر مثيراً للهَلَع بعد الذي حدث ويحدث بفلسطين والعراق. وأفهمُ أن يقال عنا إننا مستضعفون ومتعصبون أو متشددون في الوقت نفسه، أما أن يقال عنا إننا عنصريون ومرتكبو مذابح، ويخرج الإسرائيليون باعتبارهم نموذجاً للاستنارة والديمقراطية، فهذه ثالثة الأثافي، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
# الاتحاد الإماراتية