نبيل عبدالرب -
قافلة الإرهاب.. من تحالف "الدم" الوهابي السعودي إلى خلافة البغدادي (2-7)
3- كونها سنية: وهنا لا يمكن التفسير الديني والبحث للمفهوم السائد عن السنة باعتبارها مفهوماً يشير إلى تلك الفرقة الإسلامية المتمسكة بالسنة النبوية، بسبب أن كل الفرق الإسلامية – باستثناء قلة نادرة ظهرت قديماً وحديثاً لا تعترف إلا بالقرآن- تعترف بالسنة كمرجعية إسلامية أساسية، وبالتالي لا عقائدياً ولا فقهياً (عمليا) يمكن تعريف السنة تعريفا يفصل فصلا واضحا بينها وبين غيرها من التيارات المنتسبة للإسلام لكن ذلك يبدو ممكنا في إطار السياق السياسي. إذ أن نشأة الفرق الإسلامية بدأ سياسياً ليتخذ تالياً رداءً دينياً. فعقائدياً تداخلت الفرق الإسلامية المتصارعة فأخذت الشيعة الاثنا عشرية بأهم مبادئ العقيدة المعتزلية، التوحيد والعدل، واعتمدت الشيعة الزيدية على معظم المبادئ والكثير من تفاصيل مقولات المعتزلة، والأخيرة هي في الأصل فرقة متفرعة عن الجماعة السنية. وداخل هذه شهد الجانب العقائدي نزاعاً فكرياً بين السلفية والأشعرية وهما عقيدتان سنيتان. أما فقهياً فيقترب الفقه الإثنا عشري من الفقه المالكي السني فيما يكاد الفقه الحنفي السني يشكل الفقه الزيدي الشيعي بمعظمه.
وإن كان تفسير معنى السنة كفرقة يكمن في النطاق السياسي فإنه لا يتعلق أساساً بنظرية الحكم القائمة على الشورى كخط فاصل بينها وبين الفرق الشيعية القائلة بالاختيار الإلهي وتوارث السلطة السياسية في ذرية فاطمة بنت الرسول، باعتبار أن الخوارج على اختلاف فرقهم يقولون بمبدأ الشورى وعلى أسس ديمقراطية - إن جاز التعبير- أكثر من السنة.
لكننا نجد التفسير مناسباً في القول إن أساس الافتراق الإسلامي يكمن في الموقف من خلفاء الرسول الأربعة أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، فالسنة ينظرون بإيجابية إليهم جميعاً، بينما الشيعة ينظرون بسلبية إلى الخلفاء الثلاثة الأولين على تفاوت يتراوح بين التكفير، والنظرة المتوازنة لأبي بكر وعمر والتوقف في عثمان دون القول بإيمانه أو تكفيره، في حين أن الخوارج ينظرون بسلبية لعثمان وعلي.
وبناءً على هذه المواقف الثلاثة مارست كل فرقة عمليات انتقائية ذات طابع ديني من مرجعيتي القرآن والسنة النبوية لتتشكل في القرن الرابع الهجري الملامح الأساسية للفرق الإسلامية.
وبذلك تولدت مقولات سياسية – وليست نظريات سياسية متكاملة – أكدت التداخل بين المجالين الديني والسياسي، اعتماداً على نصوص دينية في المرجعيتين الأساسيتين ذات إشارات سياسية، ولأن النبي بالأصل كان زعيماً روحياً وسياسياً للمجتمع المسلم الأول.
وبشكل عام وبالنظر إلى الخارطة الزمنية والمكانية للتاريخ الإسلامي نجد أن التيار السني كان في وضعية الحاكم غالباً لذا انصرف اهتمامه للنقاشات العقائدية والفقهية لإيجاد قاعدة فكرية وقانونية للسلطة السياسية، إضافة لبعض مقولات سياسية تتسم بالشرعنة للحاكم ومهادنته وعدم الاصطدام العنيف معه- في أغلب الأحيان- دون إغفال ظهور معارضات من علماء دين سنة لا تعتمد العنف نهجاً لها، في المقابل نشط التياران الشيعي والخارجي في معارضة السلطة الحاكمة بطرائق تتراوح بين الدعاية والعمل السري، والمواجهة الدموية خصوصاً بالنسبة للخوارج والشيعة الزيدية.
ونظراً لأهمية الدين كأساس للشرعية سواءً للحاكم أو للمعارضة فقد أخذت المقولات الدينية دوراً محورياً في العملية السياسية حتى في حدودها المتطرفة، العنف. وسعت الأطراف الأساسية الثلاثة إلى تكوين أيديولوجيات مترابطة عقائدياً وسياسياً وحتى فقهياً تعزز من مواقعها إزاء الأخرى فلجأت لتجزئة التعليمات القرآنية والنبوية ومن ثم الانتقاء منها بما يخدم توجهاتها السياسية والعقائدية والفقهية المميزة لكل منها، واستعارة طرق تفسيرية مختلفة للتعاطي مع النصوص المرجعية أكانت المؤيدة أو المعارضة.
وفي الصدد، كان طبيعياً أن يختلف أسلوب التعامل مع النصوص الدينية المرجعية بدءا بالتمييز بين القرآن والسنة من حيث الأهمية، أو بين ما هو يقيني وما هو مظنون. فاعتبر القرآن كاملاً عند سائر الفرق الإسلامية – بخلاف مقولات متطرفة لدى بعض الشيعة – يقينياً في ثبوته عن الله ونقل الرسول لأتباعه وسريانه بين مختلف الأجيال دون أي تحريف أو زيادة أو نقصان.
في حين أن السنة المنقولة عن النبي أتت في المرتبة الثانية لأسباب تتصل في مدى ثبوتها عن النبي، وفي كونها بدرجة أساسية شارحة ومفصلة لنصوص قرآنية، وما أضافته من مسائل اعتقادية وعملية يستلزم أن تكون منسجمة ومتوافقة مع القرآن. وفي السنة يبرز الخلاف أكثر لناحية قبول فريق لروايات عن النبي لا يقبلها الطرف الأخر بمبررات ظاهرها علمي فيما لا تخفى نزعاتها المبنية على الصراع السياسي، مثال على ذلك أن الشيعة لا يقبلون أحاديث بعض من عايشوا الرسول مؤمنين به كمعاوية بن أبي سفيان في حين يقبلون أية رواية مسنودة عن سلسلة من أولاد علي بن أبي طالب، بالمقابل يرفض السنة كثيراً من الأحاديث والمرويات المقطوع بصحتها عند الشيعة إذ لم تخضع للمعايير الإسنادية التي بادروا بوضعها لإعطاء درجة صحة للمرويات في ثبوتها عن النبي. جانب آخر في موضوع السنة أنها لدى الفرقة السنية – حسب التسمية السائدة – تشمل إلى جوار الأثر المنسوب للنبي الآثار المنسوبة للعديد من صحابته، وبينما يستبعد الشيعة المنقول عن أغلب الصحابة فإن المنسوب للأئمة – لدى كل فرقة منهم – يدخل ضمن مفهوم السنة كمرجعية ثانية بعد القرآن، وهنا تتسع الفجوة أكثر بين الفرق الإسلامية.
ورغم الاتفاق على القرآن كمرجعية أولى في الإسلام، يقينية في تعليماتها، بيد أنها لم تسلم كذلك من خلاف حولها، عبر ربط تفسير نصوص قرآنية بمرويات من السنة خاصة بكل طرف، وأيضاً من خلال اعتماد مناهج تفسيرية للنصوص القرآنية تتراوح بين التأويل الباطني وبين التفسير الحرفي الظاهري، مع عدم إغفال أن النهج الأخير لا يعني في نزعته الظاهرية المتطرفة إنكار المجاز في بعض النصوص القرآنية. وفي الموضوعة القرآنية كذلك نشأ الخلاف في تقدير درجة وضوح النصوص القرآنية من نص لآخر، وبعبارة أخرى الاختلاف في إدراج بعض النصوص في خانة المحكم أو في خانة المتشابه.
وبشكل عام يمكن القول إن اتفاق الفرق الإسلامية على أولوية القرآن على ما عداه في بناء المواقف العلمية والاجتماعية والسياسية وغيرها، ظل في الدائرة النظرية، في حين أنها شيدت بنيتها الأيديولوجية على بعض مرويات من السنة، كحديث الفرقة الناجية الذي جيره كل طرف لصالحه، رغم شكوك حول نسبته للنبي، وكبناء الشيعة مذهبهم على أحاديث في فضائل علي بن أبي طالب أبرزها.. من كنت مولاه فعلي مولاه.. ، وعلى أحاديث عن المهدي المنتظر، وبالموازاة بناء السنة أجزاء من مداميك مذهبهم على الأحاديث المروية في جملة الصحابة مع التوسع في مفهوم الصحابي، ومن السنة التزمت السلفية بأولوية مرويات عن البدعة، وخيرية القرون الأولى.
بمعنى مقتضب أعادت الفرق الإسلامية بناء الأولويات وفق مرويات نبوية محتملة وظنية، قامت بانتقائها حسب توجهاتها السياسية، لتعيد تالياً تفسير النصوص الأخرى وتفكيكها عن سياقاتها وتجييرها لخدمة أولوياتها في ضوء المرويات الحديثية، بما في ذلك النصوص القرآنية اليقينية.
وانطلاقاً من مواقفها السياسية من الحكام الأربعة الخلفاء للرسول واستكمالاً لبنيتها الأيديولوجية كونت كل فرقة تصوراً للعصر الذهبي أو المجتمع النموذجي في مسار التاريخ الإسلامي. وهنا سنتجاوز الخوارج بسبب أن معظم فرقهم اندثرت، وبقيت منها الإباضية كفرقة ضئيلة العدد في عُمان وبعض بلدان المغرب، رغم بقاء وتأثير مقولاتها المشرعنة للتمرد العنيف على السلطات في عديد من أيديولوجيات طوائف الفرقتين الأخريتين الكبيرتين القائمتين لليوم، السنة والشيعة.
وفي سياق المجتمع النموذجي أو العصر الذهبي تربض إحدى أهم نقاط الافتراق والاختلاف بين السنة والشيعة، الأولى تعتبر أن العصر الذهبي للإسلام يقع في الثلاثة القرون الأولى لا سيما القرن الأول الهجري الذي ضم مجتمع الصحابة والتابعين، وتابعي التابعين، فيما تتفق معها الشيعة جزئياً بانتقاء مجتمع مثالي في العصور الأولى للإسلام يتشكل من الأئمة من نسل فاطمة لكن هذا المجتمع محدود العدد ولا يأخذ مداه إلا في المستقبل عند ظهور المهدي المنتظر، خصوصاً لدى الشيعة الإثنى عشرية، أكبر المذاهب الشيعية من حيث عدد المنتسبين وأماكن الانتشار، ومن حيث تراثه العلمي.
إذن المجتمع النموذجي عند السنة يقع في الماضي، بينما يقع المجتمع النموذجي لدى الشيعة الإثني عشرية في المستقبل، مع ملاحظة أنه مجتمع متخيل في المسار التاريخي الإسلامي بعكس مجتمع السنة الواقع فعلاً في فترة ماضية أمكن رصد بعض تفاصيلها على اختلاف في دقة ويقينية هذا الرصد فضلاً عن الاختلاف في تقييم وتفسير نسبة لا بأس بها من تلك التفاصيل.
3-كونها سلفية: في جزئية "المجتمع النموذجي" تبرز السلفية كأحد التيارات السنية الأكثر تشدداً في محاولة إعادة خلق ذلك المجتمع بالالتزام بتفاصيل المقولات والأفعال المنقولة عنه بصرف النظر عن عاملي الزمان والمكان، ولأن أحمد بن حنبل وأتباعه اعتبروا رؤوس السلفية فإن تسليط الضوء عليه وعلى مذهبه، ولو بصورة عابرة. يعني فيما يعني توضيح بعض جوانب الصورة السلفية.