الناطق الرسمي باسم المؤتمر الشعبي العام- اليمن
التاريخ: الأحد, 24-نوفمبر-2024 الساعة: 01:06 ص
ابحث ابحث عن:
قضايا وآراء
الجمعة, 22-يوليو-2016
المؤتمر نت - قافلة الإرهاب.. من تحالف "الدم" الوهابي السعودي إلى خلافة البغدادي نبيل عبدالرب -
قافلة الإرهاب.. من تحالف "الدم" الوهابي السعودي إلى خلافة البغدادي (3-7)
5- كونها حنبلية: الحنبلية بالأساس مذهب فقهي ينسب للفقيه المحدث أحمد بن حنبل المولود في عاصمة الخلافة العباسية، وحاضرة العالم آنذاك، بغداد التي قضى معظم حياته فيها، ومنها بزغ اسمه واشتهر.
عاش الإمام ابن حنبل أغلب النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، والنصف الأول من القرن الثالث، وهي الفترة التي شهدت تبلور ملامح المذاهب الإسلامية الرئيسية السياسية، والعقائدية، والفقهية، وكما كانت بغداد عاصمة أقوى امبراطورية في العالم فقد كانت حاضرة العلم وتلاقح الثقافات. ووجد ابن حنبل نفسه في بيئة عامرة بالنقاشات والجدل بين المسلمين مع بعضهم، وبينهم وبين غيرهم من أتباع الملل الأخرى. وإلى جانب هذا الزخم العلمي والحراك الثقافي مثلت مدن العراق الرئيسية وبينها بغداد تجمعات سكانية مختلفة المشارب الدينية والسياسية، ومتفاوتة على مستوى الأفراد المسلمين في درجات الالتزام بالأوامر والنواهي الإسلامية المعلومة والمتفق عليها، فوجد المتهتكون والمنغمسون في الملذات من تناول للخمور، والجهر الأدبي بالكلام الجنسي، وانتشار الطرب، وإلى جوارهم كان هناك الزهاد والمتدينون.

ومن وسط هذا التنوع الذي أمته بغداد بدا أحمد بن حنبل ومذهبه كنوع من ردة الفعل على الجدل العام الدائر بما فيه الجدل الديني الكلامي والاعتقادي، والفقهي، وعلى السلوكيات المنحرفة عن التعاليم الإسلامية في مجتمع بالأصل يمثل مركز الحكم الإسلامي. ورغم تحاشيه واستنكاره للاهوت الإسلامي (علم الكلام) المستهدف التوفيق بين النصوص الدينية المرجعية وبين العقل، إلا أن القدر وضعه في دائرة علم الكلام من خلال ما عرف تاريخياً بمحنة خلق القرآن في عهد ثلاثة خلفاء عباسيين، المأمون، والمعتصم والواثق، وتحمل في سبيل موقفه الرافض لقول المعتزلة بأن القرآن مخلوق، السجن والجلد والمنع من إلقاء الدروس، ما أضفى على حياة الرجل بعداً نضالياً، وزاد من استمساكه بمعتقداته الدينية القائمة على الالتزام التفصيلي بطريق السلف خصوصاً الصحابة والتابعين كطريق وحيد لإعادة الاعتبار للإسلام المنتقص بالمجادلات الكلامية وبعض مظاهر التحلل من التعليمات الإسلامية.

ويبرز التتبع الحنبلي للسلف- حتى اعتبر أحمد بن حنبل رأس السلفية- في خصائص ميزته لحد كبير عن بقية المقولات السنية يمكن إجمالها في تجنب ما لم يخض به السلف من مسائل عقائدية، واعتبار ما ورد عنهم من تفسيرات وفتاوي واجتهادات مقولات تقدم على غيرها من اجتهادات المتأخرين، وفي حين حاولت المذاهب السنية الفقهية الأخرى الترجيح بين اجتهادات الصحابة، اعتبرها أحمد بن حنبل وجوهاً لمذهبه مقبولة كلها. أيضاً عدّت المذاهب السنية الأخرى اجتهادات التابعين غير ملزمة وقابلة للنقد والرفض، لكن ابن حنبل غالباً قبلها جميعاً كوجوه في مذهبه، وفيما معظم المحدثين خفضوا من قيمة مرويات التابعين عن النبي مباشرة، دون أن يتوسط النقل صحابي بين النبي والتابعين (الحديث المرسل) فقد عدّها ابن حنبل صحيحة وذات حجية، وخلافاً لغيره من رؤوس الفقه السني قدم الإمام أحمد بن حنبل الحديث الضعيف على القياس مهما كان دقيقاً ووجيهاً.
ومع كل ذلك من الصعب وصم المذهب الحنبلي بالتشدد لمجرد تحريه طريقة السلف، بل أنه فقهياً أكثر المذاهب مرونة في جانب المعاملات الحياتية بين الناس لا سيما في ناحية المعاملات المالية والعقود، كما أنه في الأصول الفقهية أكثر تعدداً من غيره كالشافعية والمالكية.
ويمكن تلخيص الأساس الفقهي للحنبلية في، أولاً، التوقيف في العبادات، بمعنى أن كل ممارسة شعائرية باطلة ما لم تكن مؤيدة بنص، وثانياً، العفو في المعاملات، بمعنى أن كل تعامل حياتي بين الناس صحيح ما لم يكون محظوراً بنص.

ويشار هنا أن مسألة التوقيف في العبادات كانت عاملاً رئيسياً في صراع الحنابلة مع غيرهم وبمقدمتهم الصوفية والشيعة، حيث أن الحنبلية ترفض أية إضافات شعائرية منفصلة أو ملتصقة بالشعائر الوارد فيها نص. وبالمناسبة يمكن تعريف الشعيرة الدينية بأنها طقوس أو ممارسات قولية أو فعلية رمزية (كثيراً ما تتسم بالغموض المنطقي) تؤدى بكيفيات معينة وأحياناً في أوقات وأماكن معينة.

وإن كانت وجهة التوقيف في العبادات وتطرفها لدى الحنابلة تساهم في رسم صورة ذات ملمح متشدد عنهم، إلا أن تطرفهم يكمن في مركزية القاعدة الأصولية الفقهية "سد الذرائع" بمعنى أن كل ما يؤدي إلى أمر أو نهي ديني منصوص عليه فإنه يأخذ حكمه حتى وإن لم يكن فيه نص ( ما يؤدي إلى واجب فهو واجب، وما يؤدي إلى حرام فهو حرام)، وهو ما جعل دائرة التحريم تتمدد لديهم ورفَع قضايا ثانوية وهامشية عند غيرهم إلى مستوى قضايا أساسية، ما وسع قاعدة الالتزامات العملية وبالنتيجة اعتقادهم بتفلت غيرهم عن الكثير من التعليمات الدينية، ما جعل المذهب الحنبلي يبدو وكأنه يفتقر لتعدد المستويات القيمية للتوجيهات الإسلامية، أو أظهره كمذهب يضع المسائل العملية الدينية في مستوى واحد بدلاً من ترتيبها في سلم قيمي.

وفي النطاق العملي الحياتي، رغم انفراج الاضطهاد عن أحمد بن حنبل والحنابلة وتحول الاضطهاد نحو المعتزلة – سبب اضطهاد الحنابلة – في عهد المتوكل إلا أن الإمام لم يقم بأية أعمال انتقامية ضد خصمائه وآثر الاستمرار في حياته العلمية، وهو ما لم يلتزم به أتباعه بعد وفاته بفترة بل عمدوا إلى التدخل في أعمال السلطات تحت يافطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أمثلة ذلك ضرب المغنيات، وكسر آلات الغناء، والتحقيق مع المارة من الرجال بصحبة نساء أو صبيان لاشتباه عدم القرابة أو اللواط، والاعتراض على عمليات البيع والشراء، وغيرها من الممارسات العملية التي ألصقت بهم – بجانب مقولات نظرية كقاعدة سد الذرائع – صفة التشدد الديني.

6- تأثير بني تيمية: ولد أحمد بن تيمية في الشام قريباً من دمشق في القرن السابع الهجري (661هـ) في ظروف سياسية وأمنية معقدة أبرزها سقوط عاصمة الخلافة الإسلامية لأكثر من خمسة قرون على يد الغزو المغولي التتري، وكان من نتائجه نزوح الكثير من رواد العلم إلى دمشق والقاهرة اللتين اصبحتا معاقل العلم بعد تحوله عن مدن العراق، وبين الحاضرتين العلميتين تنقل ابن تيمية، وساعده في تحصيل العلوم الدينية وغيرها أنه ينتمي لأسرة علمية ميسورة الحال، حيث كان والده أحد علماء الدين والحديث بدمشق.

شب ابن تيمية في ظل آثار انهيار مركز القيادة السياسية الإسلامية بغداد، ولاحظ خيانات بعض المنتمين للإسلام بتعاونهم مع التتار الذين ظلوا شبحاً مدمراً يتهدد الشام طيلة عقود بما فيها دمشق التي وصلوا أبوابها ما أدى بابن تيمية إلى تصدر العلماء في المناداة بالجهاد والدفاع عن مدينته، وحشد الناس واستنهض سلطان مصر حينها ناصر الدين قلاوون، وتمكنا من هزيمة التتار وإبعاد خطرهم عن دمشق، فاكتسب بسبب دوره العلمي والعملي شهرة والتفاف تلاميذ شديدي الإخلاص والتأثر به، وبسبب من تأثير والده نشأ على السلفية الحنبلية، وإن كان من الناحية الفقهية متحرراً لدرجة أخذه ببعض آراء الشيعة في عدد من مواضيع الطلاق.

وإذا كان إمامه أحمد بن حنبل جاء في فترة تشكل المذاهب الإسلامية فإن ابن تيمية أتى في مرحلة استقام فيها عود الكثير من الفرق الإسلامية بينها فرق لم تكن على عهد ابن حنبل كالفرقة العقائدية الأشعرية المصرة على تمثيلها العقيدة السنية، ونضوج أهم فرق الشيعة، الإثني عشرية، والإسماعيلية وهذه الأخيرة كان لابن تيمية احتكاك مباشر معها لوجود كثير من أنصارها في الشام، وفيما لم تكن الصوفية شيئاً يذكر على عهد ابن حنبل فإنها كتأملات فلسفية وباطنية، وممارسات شعائرية، ضارت إلى جانب الأشعرية سائدة بين المسلمين ومحل تبني ورعاية رسمية. وكان ذلك بموازاة انحسار الاتجاه السلفي عقائدياً، وعلى المستوى الفقهي كان المذهب الحنبلي من أضعف المذاهب الإسلامية من حيث عدد أتباعه ومدى انتشاره.

وإذا كانت السلفية التي مثلها ابن تيمية ترفض الخوض في العقائد والعبادات خارج ما هو منقول عن السلف ولا يستند لنص من قرآن أو سنة صحيحة، فإن بعض الشيعة والصوفية تجاوزوا في التفلت من الضوابط النقلية إلى تفسيرات باطنية استعانت بالفلسفة اليونانية لحد أخذ تيار ابن عربي الصوفي بمبدأ وحدة الوجود الذي لا يميز بين مخلوق وخالق، إلى جانب تعدد الإضافات الطقوسية والشعائرية وكثرتها لدى الشيعة والمتصوفة المحسوبين على السنة، وبروز وانتشار ظاهرة تقديس الموتى، الأئمة عند الشيعة، والأولياء عند الصوفية، وإحاطة قبورهم بهالات من القداسة وممارسات طقوسية، وكلها أمور ذات حساسية عالية بنظر السلفية، وجراء ذلك وجد ابن تيمية نفسه أمام مهمة الدفاع عن السلفية عقائدياً وشعائرياً، سيما أمام التيارات الصوفية الطاغية على الحياة الإسلامية السنية والشيعية على السواء.

كما وجد نفسه معنياً في تخليص العقائد السنية من المقولات الأشعرية السائدة أيضاً والمتضامنة مع بعض التيارات الصوفية ذات الصيغة المعتدلة، وتحديداً تيار الإمام الغزالي.
كل هذا جعل ابن تيمية في مواجهة مع كثير من الأعداء، وعلى عدة جبهات، وتعرض بسبب ذلك وخصوصاً اصطدامه مع الصوفية للسجن عدة مرات، غير الضرب من العامة والشتم من الفقهاء رغماً من علاقته الطيبة بالسلطان قلاوون. الأمر الذي أضفى عليه، كما على إمامه ابن حنبل من قبل بعداً نضالياً في حراكه العلمي والفكري بل والفقهي.

وفي صراعه مع الجبهات التي صنعها ابن تيمية لنفسه ولتلاميذه استخدم سلاحه المعرفي بالنقل الديني، وبالعلوم العقلية لتفنيد مقولات الخصوم وتعزيز وجهته السلفية، لكنه في خضم ذلك أعاد تعريف مفهوم السنة والجماعة ليحصره في أهل الحديث، ولعل السبب يرجع إلى كون الكثير من خصومه ينتمون إلى الفرق السنية.

ولعوامل مرتبطة بالهوة الواسعة بين الوجهة السلفية وبين الوجهات الشيعية والصوفية سواءً في العقائد أو الممارسات العملية بما فيها الشعائرية، التي تقترب أو تقع فعلاً حسب المنظور السلفي في خانة الكفر، فقد اتسم كثير من آراء ابن تيمية بحدة العبارات والانتقادات لخصومه، وكان من أبرز الذين نظروا وفصلوا في مسائل الكفر والشرك والبدعة. ومن أظهر مؤلفاته في التمييز والتفنيد والرد على خصومه وتقييم مناهجهم في التعاطي مع المسألة الدينية، كتاب "منهاج السنة".

ويجدر التنويه هنا إلى أن صراع ابن تيمية في دفاعه عن السلفية وهجومه على غيرها اقتصر في معظمه على النقاش النظري والفكري. أما في الواقع العملي فقد كان على درجة عالية من التسامح. وكأمثلة، رفض أية محاولات انتقامية ضد علماء دين في مصر تسببوا في سجنه عند ترك صديقه السلطان قلاوون الحكم، وأيضاً في عفوه عن كل من أذاه لما ذهب إليه وزير دمشق في مرض موته ملتمساً منه أن يحلله من أي تقصير أو أذى وقع منه.





أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر