بقلم-فيصل جلول -
سعر "العروبة" هابط... لا تَبِعْ أسهمك الآن
في بيروت يرى سمير ان الناس في لبنان، وربما في انحاء عديدة من العالم العربي، مصابون باحباط شديد تجاه العروبة وانهم قد لا يصغون كثيرا الى ما اردده حين ادعى الى الادلاء برأيي حول بعض المشكلات التي يعاني منها العرب. عندما اقول على سبيل المثال ان المقاومة هي الوحيدة المؤهلة لرسم مستقبل العراق قد لا يصادف هذا القول محبذين كثرا. ويرى رائد ان مشاركتي في النشاطات التي تنظم في اطار قومي ليست مجدية لأنها تصب في خانة "علاقات الاخوة" التي يعاني اللبنانيون من آثارها السلبية. ويتساءل كريم وطانيوس عن مقدار الجَلَد الذي اتمتع به للاستماع الى خطب قومية تقليدية لم تعد تحمل رداً مناسبا على اية مشكلة جدية، في حين يسأل احمد الذي يتحدث ككاردينال مرموق بتعجب ممزوج ببعض الحيرة الخفيفة "شو بدك بهالشغلة"؟!
ولبعض الاصحاب في بيروت آراء في هذه المسألة اشد قوة اخشى من ذكرها فتؤدي الى استئناف نقاشات حماسية وانفعالية لا تخلو من اللوم والعتب. ولبعضهم الآخر ملاحظات يختلط فيها الموقف الجدي بالدعابة شأن جهاد الذي يروي نتفا من تجربته الشخصية ثم يختم بابتسامة مرفقة بحركة يد عملاقة تقترب عادة من وجه محدثه: "مش لألك هاي". اما لقمان فقد قرر منذ سنوات انه "متسامح" مع اصحابه الذين ينتمون الى كل التيارات وبات يكتفي بالتعليق على بعض التفاصيل بدعابات سلبية مرحة تنطوي على اقتناع واثق لا تتخلله برهة شك واحدة.
في اطر النقاش القومي تتسلل ملاحظات شبيهة بتلك الوارد ذكرها للتو، فريدة تحذرك من مساعدة المستبدين من غير قصد لأنك تسخر من عبارة "الاحتلال الداخلي" التي يرددها بلا حذر بعض المعارضين الماركسيين العرب للقول ان الانظمة العربية تحتل شعوبها وبلدانها كما يحتل الاجانب العراق!! وترى فداء انك تعيش في الغرب مرتاحاً اذ تتحدث عن اولوية الصراع مع الاحتلال الاجنبي على القضايا والخلافات الداخلية، وهي تعتبر ان الاولوية بالنسبة للعربي المقيم تكمن في التغيير الداخلي. وتؤكد فاطمة بلا تردد ان اي شيء افضل من الدول العربية القائمة... ولكن في امكنة مختلفة وخلال وقت راهن وماض سمعت وتسمع كلاما آخر.
تطل ساحة "الالما" على نهر السين في ضفته اليمنى في احدى دوائر العاصمة الفرنسية المميزة. يحتل مطعم "شي فرانسيس" زاوية مفضلة في هذا المكان. فهو يجمع طرفي جادة جورج الخامس وجادة "مونتاني" الاشهر بواجهات ابنيتها العريقة ومحلات الملابس النسائية الفاخرة المتلاصقة في صف يصلها بفندق "بلازا آتينيه" الساحر. في "شي فرانسيس" مازحنا زميلي الوافد من بلد خليجي وأنّا، النادلة المغربية بالقول ليس لدينا حجز مسبق وانت عربية مثلنا فهل يرضيك ان نبيت على الطوى. تبتسم وحيدة وتتدبر لنا طاولة ثم تعود بعد دقائق لتقول "انا عربية وفخورة بعروبتي اقولها مرفوعة الرأس". اعتقدت ساذجا ان اعلانها العروبي ينطوي على استدراج قدر اكبر من "البخشيش" فكان عليّ ان اعتذر بشدة عندما لاحظت انقباضها ازاء عرضي الغبي. في اليوم التالي كان عضو في حزب كردي معارض يحاول جادا!!! اقناع معارضين عرب مشدوهين التقوا في العاصمة الفرنسية لبحث شؤون بلدهم ان القومية الكردية مظلومة ويجب دعمها عبر التخلص من القومية العربية، وفي يوم آخر كان اسامة يحضني على تشكيل هيئة دولية تجعل من مروان البرغوثي نلسون مانديلا العرب...
في بهو فندق "بيرنرز ستريت" في شارع متفرع من "اوكسفورد ستريت" شانزيليزيه العاصمة البريطانية قال لي النحات احمد وهو ناشط في التيار التروتسكي انه يعمل بحماسة الى جانب النائب البريطاني جورج غالوي دفاعا عن العراق وانه لا يقر بأي تناقض بين عروبته وتروتسكيته في حين يعتقد السائق حسين ان العرب يمكن ان ينهضوا مجددا اذا ما نهض عرب المهاجر المتمسكين بدينهم ذلك ان الناس في "البلاد" حياتهم "مقفلة".
في تاريخ سابق قال لي بائع الفطائر التونسي على شاطئ مدينة حمامات ان ثمن الفطيرة نصف دينار للعربي ودينار بالتمام والكمال للاجنبي وفي شارع المكلا الرئيسي في حضرموت اليمن اجتمع عشرات الشبان حول زميلي العامل في فضائية عربية صاعدة لتحية قناته على ادائها العربي وفي نواكشوط كانت ام كلثوم تغني "اسأل روحك" في الدائرة الخامسة من العاصمة الموريتانية في مصنع للخياطة يعمل فيه عرب سود البشرة فيما صورة جمال عبد الناصر وحيدة في المكان الذي خلا من رسم لرئيس البلاد. وفي الكويت اكد لي عبد الجليل الذي لم يغادر بلاده طيلة الغزو انه لم يكن يشعر بالحقد على الجندي العراقي فهو "عربي مثلي. مصيبتنا صنعها صدام وحده"...
ما من شك ان ردود فعل الاصدقاء والاهل والمعارف في بيروت تفصح عن ضيق بالعروبة آخذ في الاتساع وتطرح سؤالا حول معنى ان يكون المرء عربيا اليوم؟ السؤال يزداد الحاحاً وحرجا عندما يكون بين "زملائك" في العروبة مستبد او ديكتاتور او عدد من الجنرالات المهزومين الذين لا يجدي نكرانهم. ويكبر السؤال عندما تكون عروبتك في مواجهة نصف الجيش الاميركي في العراق والذي يقول قادته انهم جاؤوا الى المنطقة من اجل تحطيم التيار القومي في المشرق العربي بعد ان نجحوا في تدمير التيار الاسلامي الاصولي الحاكم في افغانستان. ويعد الغزاة بمليارات الدولارات لهذه الغاية ويلوحون بديموقراطية وهمية تستمد قوتها من مناخ الاستبداد السائد في معظم بقاع العرب. بيد ان التحدي الاهم للعروبة يكمن في مواجهة رغبة الدولة الصهيونية بتصفية كل اشكال التضامن والتعاون العربي التي ما انفكت على هشاشتها تصيب القادة الاسرائيليين بالدوار.
معنى ان تكون عربيا اليوم لا يختصر بما سبق من مؤشرات. فالعروبة تجابه العديد من التحديات من بينها الخراب الاجتماعي الآخذ في الانتشار حيث تهب جماعات اتنية مندمجة منذ قرون في العالم العربي مطالبة بالانفصال عنه ومدعية لنفسها بعض ثرواته ومواقعه الاستراتيجية واراضيه ورموزه، الى تسرب القسمة الى الجماعة العربية نفسه، فهنا تشجيع لفرق مذهبية وهناك تدبير لقسمة بين القحطانية والعدنانية، وهنالك حض على تشطير المذاهب الاربعة وفي جانب آخر دعوة للقسمة بين الافارقة العرب وغير العرب وبين الافارقة والآسيويين العرب او المشارقة والمغاربة والخليجيين (بلا وادي النيل؟!) بحسب ترويسات صحيفة عربية صادرة في لندن. وفي جانب خامس تبذل جهود لفصل شمال هذا البلد او ذاك عن جنوبه ومن يدري قد يأتي يوم تصل فيه دعوات المجابهة والقسمة الى حي البسطة وحي المصيطبة في بيروت او الدقي والحسين في القاهرة او الحميدية والمهاجرين في دمشق او التواهي ومعاشيق في عدن او بلكور وحيدرة في الجزائر او ساحة عبدون ودوار مكسيم في عمان...
معنى ان تكون عربيا اليوم يواجه تحدي الاحكام القيمية الحضارية التي تطلق على العرب (غير جديرين بالانتاج والتقدم. لم يساهموا في بناء الحضارة الانسانية. يهربون قبل بدء المعركة مع اعدائهم... الخ) فأنت تنتمي الى امة عادت مجددا الى المسرح السياسي الدولي منذ نصف قرن فقط وبعد غياب متواصل لأكثر من اربعة قرون. عادت وفي جوفها دولة صهيونية عسيرة الهضم محمية من قوى العالم العظمى وترى ان مصيرها رهن بالسيطرة اليهودية التامة على الاراضي العربية الواقعة بين الفرات الى النيل والسيطرة غير المباشرة على الشرق الاوسط. امة ما لبث الغرب يشحذ هويته من خلال الصراع معها تارة بواسطة الحروب الصليبية واخرى بالكولونيالية المتحججة بالتحديث وثالثا بالحروب الاستباقية المتذرعة بالديموقراطية ومقاومة الاستبداد.
ان تكون عربيا اليوم يعني ان تعيش في رعاية حكام محليين لا يدين معظمهم بكراسيه لشعبه وانما للقوى المسيطرة على هذا العالم والتي ترعى صعود الحكام وهبوطهم وتصنفهم وفق اولوياتها وهواجسها. فالافضل هو الاكثر استجابة وخدمة لمصالح القوة الاعظم ومن لف لفها والاسوأ هو الذي تسول له نفسه القيام بشيء آخر.
"طل الصباح ولك علوش..." مطلع اغنية لعلي الديك جعلها فواز موسيقى صباحية في هاتفه النقال توقظه يوميا من النوم. لم يختر وهو طالب في الجامعة الاميركية في بيروت وخريج مدارس النخبة قبل الجامعة، مقطعا من اغاني فناني جيله الاجانب: "مايكل جاكسون ومادونا وشاكيرا وسيلين ديون وغيرهم" او فناني جيل اهله: "بينك فلويد" مجموعة "آبا" ليو فيري او جو داسان... الخ اختار علي الديك لكلماته البسيطة وموسيقاه المصنوعة بأدوات محلية صافية وادائه الفطري لأن فواز ربما يشعر بحاجة ماسة، كغيره من ملايين الشبان العرب، الى الدفاع عن انتمائه العربي بما يتيحه محيطه على الرغم من كل التحديات والاثقال الوارد ذكرها.
مع علي الديك يمكنك ان تقول هذا ما عندي في الوقت الحاضر. قد لا يرتقي الى اقصى درجات الفخر لكنني لا استطيع ان افخر بما عندكم فهو لكم وعالميته لا تغير طبيعة المنشأ قيد انملة. ان تكون عربيا اليوم يعني ان تصر على ان تكون انت على الرغم من هبوط اسهم امتك الى الحضيض في بورصة اسعار الامم. فالمهم الا تبيعها في انتظار ظروف افضل والا خسرت الحاضر والمستقبل في آن واحد.
v كاتب وصحافي لبناني مقيم في باريس
v نقلاً عن صحيفة النهار اللبنانية