بقلم-حلمي موسى - عن لقاء أكثر عفوية مما قدّرت.. أن تذهب لمقابلة رئيس لجمهورية عربية يعني أن تضع إحباطاتك كمواطن جانبا وتتصرف وفق قواعد اللياقة وربما بتصنع شديد. وكان هذا انطباعي وقناعتي عندما تقرر السفر إلى الجمهورية اليمنية لإجراء مقابلة مع الرئيس علي عبد الله صالح. واستغرق الاستعداد النفسي للقاء وقتا طويلا خاصة أن هذه هي المرة الأولى التي ألتقي فيها رئيسا عربيا وجها لوجه وشعرت بالحاجة إلى تمرينات شاقة. فقد كنت أفكر في كيفية مد اليد للسلام وكلمات الترحيب والمجاملة بل والنظرة إليه.
والواقع أن الخشية من اللقاء كانت أكبر من أن تدفع شخصا مثلي للشعور بالارتياح. فقد كانت صورة الرئيس العربي كل رئيس كما حاولوا أن يقنعونا صورة الشخص الذي يملك كل شيء بما في ذلك رقاب العباد ويعرف كل شيء بما في ذلك قراءة المستقبل. والأهم أن الرئيس في نظري يمتلك الجرأة للشعور بأن الفاصل بينه وبين رعيته يجعله في مكانة أخرى فوق البشر ودون الآلهة رغم أن بعضا منهم يتخيلون أنفسهم فوق الآلهة أيضا. وطوال الوقت كنت أتذكر قول صديق لي عن لقاء كهذا وكيف أن المحيطين بأي رئيس يضعونك في أجواء تحبس فيها أنفاسك لزوم الفخامة.
ورغم الأدب الفطري والبساطة التي يتسم بها اليمنيون فإن انتظار اللقاء زاد في هذه الخشية والارتباك. وزاد الطين بلة في نظري أن موعدنا المقرر كان فورا بعد استلام الرئيس اليمني لأوراق اعتماد خمسة سفراء جدد. إذ إن مثل هذه المراسم تشكل ذروة الرسميات التي يصعب التكيف معها.
وهكذا في دار الرئاسة اليمنية كان في استقبالنا حشد من المسئولين اليمنيين بلباس رسمي. ولم يخطر ببالي سوى أن أسوأ كوابيس منامي حول هذا اللقاء ورسمياته قد تحقق. ومن بوابة إلى بوابة، كما من غرفة إلى أخرى في انتظار اللقاء. ولم يستغرق الأمر سوى دقائق قليلة بدت لي دهرا. وفجأة دعونا إلى خارج البناء، إلى الحديقة الكبيرة في دار الرئاسة. ولم أعرف أين سيأخذوننا.
ولكن ما إن خرجنا حتى بدا الرئيس على بعد أمتار منا يتمشى حول عريشة خشبية.
ومن بعيد بدأ يرحب بنا، خاصة أنه على معرفة قديمة بالأستاذ طلال. والواقع أن هذا المشهد أضاع مني الصور الكثيرة التي رسمتها في نفسي لهذا اللقاء. وبعيدا عن الغرف الأنيقة واللياقات المصطنعة وقف أمامنا رجل تملأ صوره الصفحات الأولى للصحف الرسمية والمؤسسات الحكومية والشوارع.
وللحظة بدا أن الرجل لا يتصرف هنا كرئيس وإنما كصديق وبحرارة أنستنا أوقات الانتظار. وكان معنيا بالهبوط السريع عن سلم الرسميات ليتصرف كإنسان ودود. وقد نجح بسرعة في إضفاء الطابع الأخوي على اللقاء وإخراجه من الأجواء الرسمية. بل إن وقتا طويلا مضى في النقاش قبل أن ينتبه الحاضرون إلى وجوب تسجيل الحديث لإنجاز المقابلة.
لم يكن <<الأخ الرئيس>> كما يسميه اليمنيون الرئيس الذي كنت أتصوره. كان أشد عفوية وأكثر مودة وأعظم أثرا. وكان وهو الذي علم نفسه بنفسه وبلغ أرفع مرتبة في الجيش اليمني ثم في الهرم السياسي اليمني أكثر ميلا للتعبير عن اليمني الجديد. فهو الرافض للملكية حتى بشكلها الجمهوري وهو الذي أنجز الوحدة اليمنية وأقام هذا النظام الخاص من الديمقراطية لم يتفاخر بشيء. وكان يوحي أنه الأول بين أنداد وأن همه الأول هو بناء المؤسسات.
وبطريقته في الحديث لم يشر مرة إلى خصومه السياسيين والمعارضين بسوء. بل كان يردد أنه بحاجة إليهم. وفي الوقت الذي يصعب فيه في عالمنا العربي الحديث عن حرية صحافة تحدث بفخر عن حرية الصحافة في اليمن. وهو لا ينكر أن هناك الكثير من الأخطاء ولكنه يعتقد أن اليمن يسير على الطريق الصحيح رغم المصاعب.
كان الرجل يتصرف باعتداد الواثق ويرد على الأسئلة بمنطق من ليس لديه ما يخشاه لا في الداخل ولا في الخارج. ومع أنه أبدى من التواضع الكثير إلا أنه كان يعبر عن ذلك اليمني الذي، رغم ضيق الحال وبعد المسافة، ما زال يرى في نفسه أصل العرب. وهكذا كانت فلسطين حاضرة في كل حديثه كما كان لبنان وسوريا والعراق ومصر وأقطار الجزيرة والمغرب العربي. ففي كل مكان هناك اليمن واليمنيون.
خرجت من اللقاء بصورة أخرى عن رئيس عربي وحد شطري بلاده ولم يطلب من أحد تسميته <<غاريبالدي>>. وحقق انتصارات عسكرية في كل حروبه ولم يسم نفسه <<نابليون>>. وفي كل مكان في اليمن تجد نهضة عمرانية يلعب فيها دورا بارزا. لقد شعرت بأنه ككل عربي يعرف أن المنصب تشريف إلا أنه يحاول أن يلبي فيه واجبات التكليف.
لقد كان <<الأخ الرئيس>> علي عبد الله صالح أقرب إلى الناس مما ظننت ليس فقط لأن اليمن أكثر بساطة ولكن لأنه أكثر توازنا. ويبدو أن المراس الذي يتطلبه حكم اليمن جعل منه أكثر ميلا إلى أن يكون أول بين أنداد وليس حاكما منفصلا عن محيطه.
نقلاً عن صحيفة السفير اللبنانية
|