المؤتمر نت -
البيت الصنعاني ..أصالة فن العمارة في مواجهة الخرسانة
تعلو الدهشة والانبهار وجوه الزائرين لمدينة صنعاء القديمة وهم ينظرون بإعجاب إلى ذلك الفن المعماري البديع الذي يتميز عن غيره من الفنون المعمارية ..
فاليمنيون ـ الآباء والأجداد ـ صنعوا وسطروا أشكالاً متميزة في تاريخ العمارة , اصبح فيه المسكن متحفاً بديعاً يتميز بالدقة والترتيب والتنظيم, يحكى مهارة وإبداع الإنسان في صناعة العقود المزركشة ـ القمرية ـ و''المفارج'' والأبواب الخشبية المزينة بالأشكال الجميلة ومهارته في بناء الأدوار وتخصيص الغرف وملحقات المسكن الأخرى .. تاريخ يحكي روعة البيت الصنعاني .
البيت الصنعاني عادة ما يتكون من 3 إلى 7 أدوار , ويبنى الدور الأول من الياجور واللبن ويسمى ب''الحزام'' وكذا ''الحوش'' وهو عبارة عن مزرعة صغيرة فيها بئر خاص بالمسكن .. ومما يؤسف له أن معظم آبار مساكن صنعاء القديمة قد جفت في الفترات الماضية نتيجة للاستنزاف العشوائي لمياه هذه الآبار, فيما جرى إغلاق البعض منها بعدما أدخلت الدولة قبل عقدين أنابيب وعدادات المياه إلى مساكن المدينة القديمة .
ويحوي الدور الأول أيضاً مكاناً للماشية والأغنام والدواجن ومكاناً للعلف وحطبا للطهي ومخزنا لتجميع وحفظ الحبوب والقمح والشعير والذرة وله عدة نوافذ صغيرة للتهوية وتسمى محلياً بـ''طبقة الحبوب'' .. وحرص السكان على حفظ الحبوب لفترات طويلة يعود بالدرجة الرئيسية إلى تأمين غذائهم الأساسي, خاصة وأن اليمن تعرضت خلال النصف الأول من القرن الماضي لموجات جفاف ومجاعة شديدة وحصار وآخرها حصار السبعين يوماً 68م .
وكانت توجد في أسفل البيوت الكبيرة إلى وقت قريب عدة مطاحن للحبوب ـ يدوية ـ ومطحن واحد في البيوت الصغيرة والمتوسطة , وقد اختفت نتيجة لوجود المطاحن الآلية الكهربائية والأخرى العاملة بالديزل في كافة مدن وقرى اليمن .
وأول ما يشد انتباه الزائر للبيت الصنعاني هي تلك العقود (القمريات) التي توضع فوق نوافذ المسكن وهي عبارة عن ألواح من ''القمري'' الناصع البياض الذي اختفت صناعته في العقدين الماضيين وتم استبداله بـ''القمري'' الزجاجي .. ووظيفة ''القمري'' الأبيض إعطاء ضوء كاف ويمنع دخول أشعة الشمس الساطعة إلى المسكن بخلاف الزجاجي .
ويرى الزائر أن الدور الثاني يتكون عادة من غرف النوم ومرافقها وغرفة الاستقبال ـ الديوان ـ التي تخصص للقيلولة ومضغ أغصان ''القات'' وأيضاً لاستقبال الضيوف .. كما يوجد في هذا الدور ''المغفرة'' وهي عبارة عن دولاب محفور في الجدار يستخدم لحفظ الملبوسات والأشياء الثمينة من ذهب وفضة ونقود أيضاً إلى جانب بعض الوثائق الخاصة .
ويلاحظ الزائر للبيت الصنعاني ـ صنعاء القديمة ـ أن الدور الثالث عبارة عن عدة غرف صغيرة للنوم تتوسطها غرفة واسعة نسبياً تستخدم للسمرة ولقاء أفراد الأسرة ومشاهدة التلفزيون .. ويوجد في هذا الدور المطبخ ـ ''الديمة'' كما يطلق عليها محلياً وفيه التناوير ـ جمع تنور ـ و''الساحل'' لغسيل الأواني .. و''الديمة'' عادةً ما تكون بعيدة عن غرف النوم, وفي أعلى دور في المسكن لعدم تسرب الدخان إلى الغرف ونافذة يصعد منها الدخان إلى الأعلى .
أدوات المطبخ الصنعاني تشتمل على ''البرمة'' و''المقلى'' وكذا ''الحرض'' لحفظ حرارة المأكولات ويستعمل أيضاً اللحم والمرق و''السبايا'' و''السوسي'' و''الفتوت'' و''الحلبة'' وجميعها وجبات شعبية في اليمن.
أما إذا كان المسكن أكثر من ثلاثة أدوار فإن الدور الأخير يوجد فيه غرفة مستقلة بحسب حجم ومساحة المسكن, وتسمى ''المنظر'' أو ''المفرج'' ومنه تطل على ''الحوش'' أو البستان'' الذي يتوسط الحي .. وتخصص ''المناظر'' و''المفارج'' لاستقبال الزائرين في أيام الأعياد الدينية والأفراح ويفرشها السكان بالسجاجيد والوسائد والمساند ومفروشات ''المجلس العربي'' .
ويلاحظ الزائر أن سكان صنعاء القديمة يتقنون زينة الأماكن ويهتمون بها, حيث يضعون في كل مكان ما يسمى ب'' الصفيف'' فوق كل نافذة, وتوضع في كل صفيف المزاهر النحاسية .
و''المرشات'' الخاصة بماء الورد وكذا مباخر بالعود .. كما تعلق في الأماكن الصور الحديثة سواء كانت لرب الأسرة أو الأب أو الجد أو الأولاد وأيضاً بعض لوحات لآيات من القرآن الكريم .. كما توضع وسط المكان ''معشرة'' من النحاس تستخدم للمدائع والشيشة .
ويحتوي البيت الصنعاني على فتحات صغيرة للتهوية في الغرف, وعند رأس السلم الداخلي توجد ''شواقيص'' كانت تستخدم في السابق لقذف الرماح والنبال في الحروب والعدوان على صنعاء القديمة .
الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية تسعى إلى المحافظة على النمط المعماري للبيت الصنعاني فقد ألزمت جميع سكان صنعاء القديمة بعدم إجراء أي استحداثات تشوه من هذا النمط القديم .. كما كلفت المهندس محمد الروضي وأبناءه المعماريين الذين اكتسبوا خبرة طويلة من والدهم بالإشراف على المنظر الخارجي والتقسيمات الداخلية للبيت الصنعاني ..
يقول المعماري نبيل الروضي أن الهيئة منعت سكان صنعاء القديمة من استحداث أو ترميم أي جزء من البيت الصنعاني القديم إلا بعد العودة إلينا, حيث نقوم بحكم خبرتنا الطويلة بالترميم باستخدام مواد البناء الداخلة في نمط بيوت صنعاء القديمة فيما تتكفل الهيئة بإحضار هذه المواد بأسعار مناسبة ومدعومة .
ويشير الروضي إلى وجود العديد من مخالفات البناء التي تتم عادة في فترتي المساء والليل, إذ يقوم البعض باجراء عدة استحداثات دون العودة إلى الهيئة أو المجموعة الهندسية المكلفة .
وتتمثل أبرز المخالفات القائمة في استخدام بعض مواد البناء الحديثة والخرسانة المسلحة وإضافة أدوار جديدة وإجراء بعض التعديلات الخارجية التي تشوه وتسيء للطراز المعماري البديع لمدينة صنعاء القديمة .ويشدد الروضي على ضرورة إصدار قانون وتشريعات بهدف حماية صنعاء القديمة والمدن التاريخية الأخرى من المخالفات الأخرى التي تشوه مدينة صنعاء القديمة والبيت الصنعاني,ومنها قيام بعض الميسورين بشراء بيوت من ملاكها بمبالغ مغرية وتركها مهجورة فترة من الزمن ومن ثم يعملون على هدمها وإعادة بنائها بطراز حديث كمباني سكنية ومراكز تجارية مستخدمين المواد الحديثة في البناء .
كما أن بعض السكان يعملون أيضاً على تغيير منازلهم التاريخية الواقعة في نطاق المدينة القديمة بعمل استحداثات فيها باستخدام المواد الحديثة سواء فيما يتعلق بالتوسعة أو تغيير نوعية النوافذ والأبواب والطلاء ويتم ذلك تارة بدون وعي بالقيمة التاريخية للمواد التقليدية المستخدمة في البناء مما يترتب أثر ذلك على حاضر ومستقبل الطابع المعماري الذي يميز البيت الصنعاني عن غيره من البيوت الحديثة والعصرية, وتارة أخرى بوعي ولكن تحت مبرر الحاجة المادية.
عن : عكاظ