بقلم الروائية الكويتية-ليلى العثمان -
صنعاء ليلها عيون تحرسك ونهارها بحر لا يغرقك (الحلقة الأولى)
«صنعاء
أجيئك - ثالثة لأرتوي -
فصبي غيثك على شعري وفي فمي
لترد الروح لصوتي الذي غاب
أجيئك مثل طير يتوق إلى عش أمه بعد السفر
فأدفئيني.. املئيني بالوعود وبالأماني الجميلة»
للمرة الثالثة خلال هذا العام، تحملني أجنحة السفر إلى صنعاء، تلك العاصمة التي لا بحر فيها، ورغم ذلك احبها واحسها تملك جاذبية، رجل عاشق ينادي محبوبته كلما استبد الشوق بقلبه، فتطير إليه ملهوفة مضاءة بأحلام ملونة. وكما ذكرت سابقا، فإن هناك مدنا تفرح بك وتفتح ذراعيها وقلبها لك، ومدنا أخرى تكشر في وجهك وتحجم عن الترحيب بك. صنعاء مدينة الحنان لا تفعل ذلك، انها تسقطك في حضنها مثل طفل تشرد فالتقى أمه. مثل حبيبة والهة تنتظر عاشقها فتتحول في لحظة الى قلب مفتوح يغدق حبا وينثر ورودا فتسري في مرابعه آمنا مطمئنا.
وأنا أغادر من مطار الكويت، التقيت بعض الأصدقاء والعائلات المسافرة إلى أصقاع العالم وكان السؤال: إلى أين؟ جنيف؟ لندن؟ ام أسبانيا؟ وكنت أجيب وأنا أدرك ما لوقع الإجابة من اثر: بل إلى اليمن، إلى صنعاء، فتطل الدهشة من العيون وربما الاستنكار: اليمن؟ من ذا يفكر أن يقضي صيفه في اليمن؟ قلت: أنا. عاشقة صنعاء الخضراء وقلوب أهلها الأكثر اخضرارا.
قد لا يعلمون إن صنعاء في هذا الشهر يوليو يبدأ ربيعها الزاهي فتصير عروسا ترتدي حلتها الخضراء تتزين بالورود وعقود الفل ذي الرائحة الصاخبة، وتتبلل بالمطر الذي تغتسل به بين حين وآخر، وكأنها في كل مرة تستعد لزفاف جديد. جوها بارد ونسيمها لا يختلف عن نسائم جبل لبنان او جبال سويسرا، فنادقها فخمة لمن اعتاد الترف (امثالنا نحن اهل الخليج) وفنادق أخرى بسيطة مبنية على الطراز اليمني القديم القريبة من «باب اليمن»، حيث الأسواق القديمة الشعبية والمتاحف والآثار التي تبرز الحضارة القديمة وجماليات العمارة التي تنفرد بها صنعاء من دون كل المدن، وغالبا ما يختارها السياح الأجانب من يستهويهم بشكل كبير تاريخ المدن القديمة.
وأنا في الطائرة أغمضت عيني وجالت بي أحلام اليقظة إلى عوالم سفرتي الأولى والثانية بكل ما زهتا به من أفراح واكتشافات وتأثر جميل من المدينة واهلها.
كان الفرح يغمرني واللهفة تتقافز داخل قلبي، والسؤال أيضا: هل تدرك صنعاء أنني العاشقة الصادقة الباحثة عن الراحة والسكينة؟ الطامعة في التحرر من عناء الحياة اليومية وثقل - العقد الاجتماعية - التي تحاصرنا؟ هل تدرك صنعاء ذلك ولهذا تناديني وتغويني لأن اترك بلاد الدنيا واطير إليها فراشة بأجنحة ملونة أو عصفورا من عصافير الحب المغردة؟ انك إن أحببت انسانا بكل هذا الشعور فلا بد انه يبادلك الحب، والمدن كالإنسان تحب أو تكره، وهي تملك بعض خصائص الرجل: حنون تدفئ أحضانه، او حاد غاضب كالرياح، رقيق عذب كالنسمة، صامت كالسماء ثائر كالصباح، إنها المدن تتلون كما يتلون الرجل، لكنها تظل حريصة على أن يحبها الآخر، راغبة ان يطأ أرضها ويرقص على عزف قلبها الواله، وصنعاء كذلك، رجل يشتهي الحب وان أحجم عنه، يحتاج الحنان وان كان حذرا، هي مدينة صعبة لا تكشف أسرارها بسهولة الا حين تعتاد صفاء الآخر، فتهب روحها وتفتت صمتها وتعلق على صدور القادمين الوالهين أجراسها وورودها، هي في الليل تتلألأ بأضوائها فتحسها عيون حراس تسهر عليك وتحنو على احلامك، وفي النهار بجلبتها وضوضائها تحسها بحرا يصخب لأجلك ولا يغرقك، وفي ساعات - المقيل - صامتة تتأمل دهشتك وتدعوك «ان كنت في روما فافعل ما يفعله الرومان» فتتسرب الى الاصدقاء في مقيلهم وتتنشق عطر «القات» وتستمع الى حوارات دافئة او ساخنة، تستمع الى الشعر من افواه الشعراء، وتقرأ مقالات الصحف المهمة - سياسية وادبية او فنية - ولا بأس ان يقوم احدهم بقراءة «حكمة اليوم»، والابراج «ليشيع جوا طريفا - وان كذب المنجمون ولو صدقوا - الا ان البعض يوافق على ما يجيء به برجه من كشف سر بسيط او تفاؤل بما قد سيأتي.
حاجة روحية
غادرت الكويت وانا في اقصى حالاتي النفسية والجسدية، فقد قضيت اكثر من شهر وانا انتقل من بيتي الى بيت آخر موقت لحين اعادة بناء القديم. كانت روحي بحاجة الى بلد يرفع عن كاهلي ونفسي كل هذه الاوجاع.. قال أولادي: روحي اليمن. انت لا ترتاحين الا هناك. وهذا صحيح فبلدان العالم كلها لن تحقق لي هذا بالسهولة والوسائل التي تحققها «صنعاء». وكان «لا بد من صنعاء ان زاد التعب»، ففررت اليها ابحث عن حضن أمي لتهدهد وجعي وتمسح جروح جسدي الذي امتلأ بالكدمات والحروق وكأني ايضا أبحث عن صدر الرجل الذي أحببته وعاش معي نصف العمر حتى افترقنا مرغمين وظلت تلك السنوات بحلوها ومرها أشهى وأعذب من النسيان.
فجر صنعاء
هذه المرة لم يستقبلني فجر صنعاء الذي كنت اصل اليه عبر الخطوط اليمنية. اخترت الخطوط القطرية لأصل ظهرا كي لا أزعج الاصدقاء الذين ينتظرون في المطار. لكنني شعرت بالغصة حين لم أصافح فجر صنعاء البرتقالي المنعش الذي لا يضاهيه بجماله إلا فجر بحمدون «الضيعة» في لبنان حين تبدأالشمس تتثاءب من خلف الجبال الخضر وتصدح الشحارير بالغناء وتتمايل الاشجار كخصور النساء. كانت شمس صنعاء دافئة والنسيمات طرية كأوراق ورد تداعب الوجنة. الشوارع قليلة الزحام فهذا وقت المقيل والراحة. اتنشق عطر الشوارع، اعانق صنعاء بعين المحب وقلب العاشق الذي امتلأ في الزيارتين السابقتين، وأحس أنني ما زلت بحاجة للامتلاء.
«ايه يا صنعاء: انت أنت لا تتغيرين. ترتدين ثوبك الزاهي وتفرحين. بيد تهدين زهرة. وبأخرى تحضنين».
الفندق بيتي
وصلت الى «تاج سبأ» الفندق الذي صار بيتي، رأيت كل الوجوه تتهلل بالفرح من حامل الحقيبة الى عامل التفتيش الذي اعتادني ولم يعد الشك يخامره بنواياي لأنه تأكد انها نقية وأمينة.. مرورا بموظفي الاستقبال والمطعم ثم عامل الأسانسير حتى «كوافيرة الشعر» الهندية انشرحت حيت رأتني وأطلقت أرق كلمات الترحيب.
ماذا يريد الزائر غير هذا الاحساس بالألفة والحميمية والابتسامات التي لا تذوب؟ كان تعب الرحلة واضحا علي، لكنني وللمرة الأولى في اسفاري اترك حقيبتي مغلقة ولا افكر ان ارتب ملابسي واشيائي ـ وما اكثر كراكيب النساء ـ انطلقت مباشرة مع الذي استقبلني الى حيث هو السبت يوم مقيل د. المقالح، المكتظ بالاصدقاء الاعزاء، وما أشهى اللقاء بعد الغياب. في اليمن يتعامل الناس معك ببساطتهم وعفويتهم، لا يزورون مشاعرهم ولا يتقنون فن الاتيكيت المراوغ «هذا الفن الذي تدهش صورته ولكنه قد يخفي من النوايا ـ ربما السيئة ـ أكثر من الحسنة. وأهل اليمن مرتاحون من هذا الفن المصطنع. أدخل وسلم ولا غرابة الا يقف البعض، اختر مكانك واجلس. هكذا هم يتركونك على راحتك وهذا ما يعطيك الاحساس بأنك في بيتك وبين احبابك.
في اليوم التالي لا بد من زيارة «قبلة صنعاء» لكل زائر من الوطن العربي والعالمي «مركز الدراسات والبحوث اليمني» حيث يستقبل د.عبدالعزيز المقالح ضيوف المركز والاصدقاء بهدوئه المعتاد «وحزنه المحير» وابتسامته التي تقطر عذوبة ورقة. تجد المكتب أشبه ـ بسوق عكاظ ـ خلية من الاصدقاء والمراجعين والضيوف، تكاد تشعر في هذا الزحام ان لا مكان لك، لكن الأمكنة كلها في الحال تفتح ذراعيها لتقول لك «تفضل اهلا وسهلا بك في بيتك». انظر الى مدير مكتبه الوسيم المبتسم دائما ـ محمد الشرفي ـ فيفهم سر نظرتي ويأمر بإحضار «منفضة السجائر»، ورغم ان التدخين ممنوع الا انني حين احضر يتكسر الممنوع لأجل خاطري وأعتبر هذا نوعا من الاحتفاء بوجودي الجميل على قلوبهم.
موسم الأمطار
هو موسم الامطار في صنعاء، لكن الشكوى جاءت بأنها قد تأخرت وان جاءت تأتي قليلة وليست سيولا كما يشتهون، اتصلت بابنتي وقلت لها: أهل اليمن يشتكون من قلة المطر.
فقالت: قولي لهم انت الغيم وأنت المطر. «كم تعجبني ثقة اولادي. هم يدركون ان اهل اليمن يحبون امهم ولا يخالجهم الشك في انني حين احط رحالي بينهم فإنني اكون في قلوبهم كالغيم والمطر، نقلت كلامها لهم فوافقوها لكنني في داخلي تمنيت ان تهطل السحابات لتتحقق مقولة ابنتي ويكون حضوري بالفعل غيمة ومطرا».
بعد يومين ارعدت وأبرقت وأمطرت. آه يا صنعاء جاءك الغيث فغني واشرئبى نحو كف الله وصلي. ها هي الأشجار تغتسل وكأنها عرائس تستعد لليل الزفاف، والقطرات تحط على حواف الشبابيك ليتهامس العشاق ويتذكروا صدى خطواتهم الأولى تحت المطر وهم يتلاصقون تحت المظلات الملونة.
زيارة حرة
كانت زيارتي هذه المرة - حرة - لا اصبوحة قصصية ولا محاضرة مسائية ولا اي نشاط ثقافي، كنت قد قررت ان تكون رحلة سياحية وجزءا من «الصيفية» التي عادة ما نقضيها في دول اوروبا متجاهلين بعض دولنا العربية التي تزخر بالجمال والخدمات السياحية التي لا تقل عن تلك الدول. لكن الرحلة وان كانت للسياحة، فان صنعاء (عاصمة الثقافة لهذا العام) تمتلئ بالفعاليات الثقافية والفنية ولا بد من طلة هنا او هناك خاصة حين تأتي الدعوة بأسلوبها الانيق من وزير الثقافة والسياحة الاستاذ خالد الرويشان، فأجدني سعيدة ألبي دعواته.
حضرت جزءا من برنامج الايام الثقافية لمحافظة حضرموت واستمتعت بوصلات من فن «الدان» الحضرمي الشهير ورقصات «الغية والقطني» لفرقة الفنون الشعبية الحضرمية، ثم اكمل السهرة الفنان الكبير كرامة مرسال الذي بدا صوته متعبا الا انه يعوض هذا بحضوره المتميز على المسرح، وفي امسية ثانية حضرت الحفل الذي قدمه الفنان الكبير ابو بكر سالم. وغصت قاعة المدرج يومها بعشاق هذا الفنان وخصوصا انه غاب عن اليمن اكثر من عشرين سنة «وربما له اسبابه». وكان خروجه من المسرح بعد ذلك صعبا فقد احتشدت الجماهير وحاصرته راغبة في السلام عليه او التوقيع لهم، وبذل رجال الامن جهدا واضحا حتى وصلوا به الى قاعة الاستراحة. كان في غاية التعب. وفي تلك الامسية تم تكريمه فكانت تلك اللحظة مؤثرة اذ ضجت القاعة بالتصفيق والزغاريد والهتافات المتنوعة، كان الجمهور سعيدا ان يرى فنانه الكبير يعود الى وطنه ويكرم ويمتلئ صدره بعقود الورد والفل.
ان افضل ما قامت به وزارة الثقافة في هذا العام هو هذا التكريم «المعنوي والمادي» للعديد من الشخصيات الفنية والادبية من الرعيل الاول الذين كانوا شبه غائبين او منسيين. هذه لفتة طيبة من الوزير الحريص على التكريم الذي لا يكتفي باللحظة وحدها بل يفتح لهم منافذ الاذاعة والتلفزيون لتسجيل اعمالهم الفنية القديمة الاصيلة التي كاد الناس ينسونها في غمرة الهجمة الغنائية الحديثة، كما قامت وزارة الثقافة بطباعة العديد من كتب الادباء والشعراء «المنسيين».
«أمة طربية»
في كل مرة اشاهد فيها - ان على المسرح او من خلال التلفزيون الذي ينقل مهرجانات «الغناء» - هذه الحشود البشرية اتساءل في سري: لماذا لا يحظى الادباء والشعراء بمثل هذه الحشود؟ هل امتنا العربية «امة طربية» لهذا الحد وان كنت مع ان يحظى الطرب الاصيل بهذه الجماهير فإنني اشعر بالغيظ والحسرة حين ارى مطربي هذا الزمن - الرديء - يحظون بما لا يحظى به الفنانون الآخرون من شعر وادباء وفنانين تشكيليين خاصة ان مستوى الاغنية العربية قد انحدر انحدارا مؤلما، فلا كلمات الاغاني ترقى بالذوق الانساني العام ولا الالحان تمت بصلة لتراثنا الشرقي الاصيل، بل ما هي الا اغنيات تعتمد على شكل المطربات و«درجة عريهن» وحركاتهن الفاضحة، اما بالنسبة للمطربين من الرجال فقد اصبحت «النطنطة» على المسرح وسيلتهم البائسة لاثارة الحماس لدى الجمهور فهم في الغالب يتشابهون في الاصوات التي تغلب عليها نبرة الانوثة. ولا نجد هذه الظاهرة التي اكتسحت الوطن العربي متفشية في اليمن، فما زال اليمنيون يتمسكون بتراثهم الجميل ويعتزون به. وقد سعدت جدا وانا استمع لاغنيات الفنانين «رشيد الحريبي» و«محمد الصنعاني» يوم تكريمهما. لقد اعادتني تلك الاغنيات لسنوات «العز» الطربية التي زخرت بكبار الفنانين والفنانات امثال ام كلثوم وفريد الاطرش ومحمد عبدالوهاب وسعاد محمد واسمهان وفايزة احمد وعبدالحليم حافظ و..غيرهم من الفنانين العظام ممن تركوا لنا زوادة نلجأ اليها في هذا الزمن العقيم.
في دعوة اخرى من وزير الثقافة حضرت جانبا من الايام الثقافية لمحافظة صنعاء فشاهدت الرقصات الشعبية مثل رقصة البرع الحارثية ورقصة المزمار الحرازية والبلدية لفرقة الرقص الشعبي واستمعت الى وصلة من الغناء الصنعاني المتنوع، ورغم حلاوة الفقرات وتعدد الفنون فإنها تطول في بعضها مما يجعل الجمهور يتجاوب في بدايتها ثم يبرد حماسه ويتسرب بعضه من القاعة. مثل هذه الحفلات يفترض ان تقدم وصلات سريعة لكل فن من الفنون اشبه بالسندويشات الشهية حتى تظل القاعة محتفظة بجمهورها.
مركز توثيق الـحياة الصناعية وبيت الأزياء
يحـمي حـرف أهل اليـمن من النســيـان
في صبيحة فاضت نسائمها الباردة المنعشة، قمت بزيارة مع الشاعر احمد العواضي الى مركز توثيق الحياة الصناعية. ولا بد ان تخترق حشود البشر في سوق «باب اليمن القديم» المبهر بما تزدان به الحوانيت من فضيات يدوية وملابس واوزرة وشالات بألوانها الزاهية المقصبة بخيوط فضية وذهبية، ثم الى سوق الملح الشهير المكتظ بحوانيت العطارة والتمر واللوز والحناء فتثير الروائح ذكريات طفولية لا تزال تشتهيها. اذهلني المقر ببنائه القديم الساحر لولا ان الزائر سيبذل مجهودا كبيرا ومشقة وهو يعتلي درجات السلالم العالية، وهكذا هي بيوت اليمن فنادرا ما تجد الدرجات قليلة الارتفاع وغالبا هي في البيوت الحديثة المفروشة بالسجاد الانيق.
يتكون المبنى من خمسة طوابق تتوزع فيها الغرف وفي كل منها حرفة من حرف الصناعات اليدوية التي تكاد تنعدم اليوم لكنهم بإصرار يواصلون صناعتها كي لا ينام عليها غبار النسيان. في سطح المبنى القليل الارتفاع تصافح العين اروع منظر لصنعاء القديمة وحركتها الدائبة.
استقبلتنا الاخت - د. آمنة السوسوة - وشرحت لنا ما يقوم به المركز رغم الامكانات البسيطة من عمل مهم، وقد اسفت انني يومها لم احمل الكاميرا معي لألتقط تلك المناظر العجيبة. في هذا البيت هناك ما يشبه «الباقدير» الذي كان في بيوت واسواق الكويت القديمة وهو ما يقوم مقام - جهاز التكييف - بفتحاته التي تمرر تيارات الهواء الباردة. بعد هذه الزيارة القصيرة توجهنا الى مبنى آخر لا تقل درجاته صعوبة عن الاول عليك ان تلتقط انفاسك حتى قبل السلام. في هذا البيت ذي المعمار الجميل سترى ما هو اجمل، فهو يحتوي تراث الازياء اليمنية القديمة لكل منطقة من مناطق اليمن المتنوعة التي تغري السائح بالشراء ولم اقاوم سحر المشغولات وحرصت على شراء «الثوب الصبري» نسبة لمنطقة صبر وجبلها الشهير.
تجولنا في غرف المبنى حيث ضمت احدى غرفه - الأنوال - التي تستقبل الراغبات في تعليم النسج، ثم الى غرفة انيقة مفروشة بالمطارح والوسائد متعددة الالوان تتوسطها طاولة كبيرة صفت عليها - استكانات الشاي وفناجين القهوة والمباخر - وكأنها تستعد لاستقبال الضيوف في اي لحظة، زجاج النوافذ المزخرفة ككل البيوت اليمنية تعكس اشعة الشمس الدافئة وتنفرش على السجادة والوسائد لتضيف لأجواء الغرفة جمالا وروعة. من احدى النوافذ ادس رأسى ونظرتي الفضولية فأطل على مشهد مثير للمدينة وشوارعها وحركة البشر فيها. وثار السؤال:
هذا المكان الجميل هل يؤمه السياح ممن تغريهم المشغولات التراثية اليدوية؟ وهذه الصالة الانيقة الاشبه بالمقيل الصيفي هل تستقبل ضيوف الثقافة والسياحة كما هي الحال في - بيت عسلان - الجميل؟
لمحت حسرة وأسفا على الوجوه، وتمنت المشرفات عليه ان يحظى باهتمام الوزارة فنادرا ما تصطحب ضيوفها الى هذا المكان المبهر. ومني بكل تواضع الى وزير الثقافة والسياحة النشط ان يأخذ هذا المكان حقه من زيارات الضيوف والسائحين. خرجت ممتلئة بالعطر القديم من هذا المبني وفرحة بما اشتريت من مشغولات زاهية لعل اجمل ما بينها الثوب الصبري الذي فاجأت به اصدقائي في احد المقيلات فأعجبوا بالثوب وربطة الرأس - وليس بي على كل حال - فاليمنيون لا يعبرون عن اعجابهم بالمرأة كما في البلدان العربية الاخرى التي ترضي غرورها في هذا الجانب، هو نوع من الخجل والتهذيب الشديد والاعتياد على احترام المرأة لذاتها، لكنني - بيني وبينكم - لا أحبذ هذا الحذر الشديد فطبيعة المرأة رغبتها في المديح والاعجاب واهل اليمن «لا يفشون القلب» من هذه الناحية.
الغاليري
في نهاية السوق ستجد «غاليري» الفنانة التشكيلية آمنة النصير. لم اتمكن من زيارتها في ذلك اليوم فعدت في الخميس الآخر الذي تستقبل فيه الفنانة اصدقاء الغاليري من الفنانين والشعراء والنحاتين وبعض السياح المهتمين بالفنون التشكيلية. كانت الفنانة قد تسلمت للتو كتابها الجديد المطبوع في وزارة الثقافة «مواقيت لأحزان سبأ» وهو كتاب مشترك بينها وبين الشاعر احمد العواضي الذي حقق شهرة واسعة داخل اليمن وخارجها لما يتميز به شعره الحداثي من عمق ورقة ولغة رشيقة. كتاب يجمع الشعر واللوحة، انيق الطباعة لولا ان الخط الذي استخدم في كتابة الشعر لا يتناسب واناقة الكتاب رغم التشكيلات الهندسية في توزيع المقاطع الشعرية، لكن اختيار الخط لم يكن موفقا وحجم الحرف لا يتناسب ورقة الشعر وجمال اللوحات. أهدتني الفنانة كتابها الآخر «مقامات اللون» وهو عبارة عن مقالات ورؤى في الفن البصري وحفل باللوحات الجميلة الملونة لمجموعة من الفنانين اليمنيين والعرب والعالميين.