بقلم الروائية الكويتية- ليلى العثمان -
اليمن أجمل مع شعرائها وصوت فيروز جبل صبر قطعة ما بين السماء والأرض (الحلقة الاخيرة)
تقطع السيارة التي يقودها فيصل بجدارة، الطريق الى جبل صبر الذي لم أعرفه في المرة السابقة وثقتي، كما عودني اليمن، ان كل مكان جديد له خاصيته وجماله. بدأ الطريق يرتفع بنا حتى صرنا في علو وكأننا نعتلي طائرة هليكوبتر فتبدو الارض بعيدة وتصغر القرى والبيوت.
يرتفع جبل صبر ثلاثة آلاف ومائة متر عن سطح الارض. انت ما بين السماء والارض تحرسك الاشجار المكتظة وتفوح روائح الزهور. الطريق رغم تعرجاتها و«أكواعها» المخيفة ناعمة وأنيقة ونظيفة وعلى جوانبها تتناثر الصبيات الجميلات بلا «شراشف سوداء» فملابس الصبريات زاهية وعلى رؤوسهن الربطات الملونة او عقود الزهور. والوجوه سافرة وما يلفت النظر حقا هو عيون الصبريات الواسعة ذات الرموش الطويلة الملتوية، هناك سحر غريب يطل منها وربما دعوة «شوق» لمن يحب الجمال. الصبايا هناك يتوزعن على طول الطرق وعرضها، كل واحدة تمسك بباقات وردها لتبيعها.. والباقات مغرية تشتري منها الكثير ويهدونك باقة «فوق البيعة».
هذا التناثر الجميل للصبايا وحتى الاطفال وألوان الزهور وعطورها الفائحة، يشعرك وكأنك سقطت في جنة من الزهور. ومنها الى أعلى القمة المسماة «قمة العروس».. ما اجمل اسماء الاماكن في اليمن، اسماء شاعرية لا نجد ما يشبهها في اي بلد من البلدان، هنك مثلا قرية تسمى «بيت بوس» ولا أدري سر التمسية هل لأن أهلها يكثرون من «البوس»؟
استراحة فخمة
في «قمة العروس» تتربع استراحة الشيخ زايد بن سلطان، هذا المكان كان في الأربعينات مبنى يسمى دار النصر، اما اليوم فهو استراحة فخمة، لكنها مع الأسف لا تستغل سياحيا رغم انها بنيت لهذا الغرض، فالمطعم الزجاجي مقفل والساحات تخلو من مقاعد ومقاه وأحواض النباتات والاكشاك التي تعرض المشغولات اليدوية وغيرها من وسائل الترفيه.لقد شعرت بالحزن الشديد ان تغيب هذه البقعة عن عيون وزارة السياحة.
التفت حولي لأرى في هذا المكان بعض الفتيات الصبريات الجميلات، احداهن، وهي في الحادية عشرة، ألحت علي ان أذهب معها الى البيت وهي تقول: «سأنقش لك يديك وألبسك البدلة الصبرية فتصيرين كالعروس» فمازحتها: وأين العريس؟ قالت: سأختار لك أحلى شاب تتزوجينه. قلت: أنا لا أريد شابا، أريده كبيرا وشعره أشيب. ضحكت وقالت: عندنا كثير فاختاري. ودعت «يمن» وهذا اسمها، وقد تعلق قلبي بها وهفا لعروضها من زينة ولباس صبري و«زوج شايب». التقطت معها بعض الصور واستلمت هديتها باقة من الزهور. ويا فيصل: كلما مررت بجبل صبر ابحث عن «يمن»، قل لها انني احببتها وسأزورها ثانية لتنقش يدي وتلبسني الصبرية ولا تنسى ان تجهز الأشيب الذي طلبت.
ما كنت أود مغادرة ذاك المكان، وتمنيت لو كان هناك فندق صغير لاقضي فيه اياما للتأمل واستنشاق الهواء النقي وعطر الزهور ورائحة «يمن» الطفلة البريئة. وكم أود ان يصبح جبل صبر قبلة للمصطافين من كل انحاء العالم فلا جبال سويسرا ولا قمة ايفرست بأحلى من قمة العروس.
عدن
من قمة العروس الى - الثغر الباسم - «عدن»، زيارة قصير وغذاء متأخر ثم مقيل حاشد يجد الشعراء دائما فرصهم لقراءة الشعر، حلوه ومره.. ماذا سنقرأ نحن القصاصون والرواة؟
ذات يوم وفي بلدعربي اضطهدنا اثنان من الشعراء «النص نص» اخذا يقرآن ويتباريان على حساب اعصابنا التي تلفت واصبحت الجلسة لا تطاق، فإما ان نهرب او نخترع وسيلة للخلاص لنسعد ببقية السهرة التي تضم اجمل الاصدقاء، فما كان مني الا ان استللت من رفوف مكتبة صاحب البيت رواية ضخمة واعلنتهم انني سأقرأها ثم يكملون اشعارهم. فخافوا وتنازلوا عن قراءة الشعر. يومها شكر لي صاحب البيت سعيي الذي اراحه واراح ضيوفه.
ولست هنا ضد قراءة الشعر في سهرات البيوت الحميمة، خصوصا حين يكون في الجلسة شاعر مهم او آخر محبوب، او ضيف قادم لايام قليلة، فيصر الحضور على سماعه، لكن ما يحدث احيانا ان يتصور بعض الشعراء ان جلسات البيوت هي منصات لقراءة اشعارهم فلا يكتفون بقراءة قصيدة او قصيدتين قصيرتين «مجاملة لمن يحب ان يسمع» بل يختارون «ملحمة» من ملاحمهم الطويلة وهنا يكون السامعون هم الضحايا. وان كان الشعراء يحظون بالمنابر فان الشعراء في اليمن لهم خطوة اخرى «فالمقيل» ليس فقط - للتخزين - كما يتصور من لا يعرف العادة اليمنية، انه بالفعل مكان اشبه بالمنتدى الثقافي والسياسي والاجتماعي والفكري الذي يتيح لرواده فرصة الحوار وسماع الشعر، وقصصا قصيرة جدا، ان وجدت، ومناقشة احداث الساعة وتحليلها وكل يدلو بدلوه الملآن.
لقد سعدت بزيارتي هذه بوجود بعض «القضاة» في اكثر من جلسة مقيل، مما اثار حوارات مهمة حول التشريعات والاحكام وهموم القضاء والمواطنين ولا اخفي انني اعجبت اعجابا بالغا بأحد القضاة وقد كان لدي سؤال يشغلني وجدت اجابته الشافية لديه.
غادرنا - عدن - في الليلة نفسها، كان الطريق - غير المضاء - موحشا وخطرا تكثر فيه الشاحنات والحفر والخوف يستبد بي وكان الافضل لي ان اهرب الى النوم لكنني دائما في مثل هذه الظروف اتيقظ واراقب واظل على اهبة الاستعداد للخلاص لو حدث حادث لاسمح الله. وكان احمد ومحمد يواصلان مشاكستي واثارة خوفي الذي يتندران به ويستغربانه. حين وصلت الفندق تشهدت وحمدت الله على سلامتنا وسلامتي بالذات لان الموت يقلقني واتمنى لو ينساني. بتنا ثانية في - تعز - وفي الصباح شددنا الرحال الى حيث «صنعاء» حبيبة قلبي.
أصدقاء من مصر
كانت صنعاء تستقبل «اسبوعا ثقافيا مصريا» فحضرت ما تبقى من الاسبوع حفلة «لفرقة رضا» - التي لا تزال تكرر فنونها - واصبوحة شعرية للشاعر الكبير «حسن طلب» الذي ابدع في اختياراته والقائه.
مع الاصدقاء تنتعش الروح ويحلو السهر ودعوات اليمنيين تنهال الى بيوتهم الدافئة التي تعمر بأطايب الأكلات اليمنية او ما تشتيه النفس من اكلات العراق حين تكون الزوجة عراقية.. هكذا تذوقت «عيش الباقلاء» و«الكبة الموصلية» ولا تخلو سهرة كهذه من عزف العود والغناء اليمني والعربي ولا بأس من بعض الشعر ما دام في الجلسة اكثر من شاعر غير مستبد.
تمضي الايام سريعة، دائما هي قصيرة لحظات السعادة، نتشبث بها لتكون زوادة لايام الفراق القادمة نحمل وجوه اصدقائنا الذين نعرف واصدقاء جدد يضافون الى اجندة القلب الذي فرح بهم واحبهم. ونحمل ايضا كميات من الكتب الصادرة حديثا او تلك التي لم نعرف اصحابها من قبل، فسعدنا بمعرفتهم. وكتبهم كالشاعر الكبير «محمد الشرفي» من يطلقون عليه «شاعر المرأة» والذي وان كان يهتم اهتماما كبيرا بالمرأة، الا انه شاعر تشغله قضية ويناضل من اجلها وتعرض لما يتعرض له كل من يحارب «الظلاميين واساليبهم» التي اوصلت بلداننا والعالم الى ما وصل اليه من ارهاب وتشويه لديننا السمح. كما تعرفت على الناقدة د. وجدان الصائغ وزوجها د. صبري عميد كلية الآداب في جامعة - ذمار - وقد سعدت بطفلتيهما «ألق وشمس» كنت وأنا احتضنهما احسني احتضن حفيداتي «ليلى وغادة ونور» واشبع عاطفة - الجدة - التي تشتاق الى رائحة الاحفاد. تعرفت ايضا على الشاعرة «ابتسام المتوكل» وقرأت ديوانها - يشبه موتها - واعجبت به جدا. كان لحضور بعض الشعراء والقصاصين الشباب من السعودية فرصة للتعرف على مواهب متميزة. وكلهم فرح بما صدر له حديثا من دواوين او مجموعة قصصية قامت وزارة الثقافة بطباعتها. ولا بد هنا من الاشارة الى ان الوزارة وبمناسبة ان - صنعاء عاصمة للثقافة - قامت بطباعة اكثر من ثمانمائة كتاب من كل الفنون، ولم تختصر هذا على المؤلفين اليمنيين وحدهم بل اصدرت لشعراء وكتاب خليجيين وعرب وبعض المترجمات وهذا ما تحمد عليه وزارة الثقافة الذي كان شأن الكتاب من اولى اهتمامات وزيرها النشط الاستاذ خالد الرويشان.
وهبية صبرة
من النساء اللآئي تعرفت عليهن الاخت وهبية صبرة زوجة الاخ علي الحبوري الذي تشرفت بزيارة مقيله لمرتين. وحين استقبلتني فوجئت بامرأة في غاية الاناقة، ترتدي زيا من ازياء الموضة الحديثة المتناسب ورشاقة جسدها.. في اليمن كل النساء رشيقات وليت نساءنا يقتدين بهن.
وهبية امرأة متعددة فهي سياسية تنتمي إلى حزب وهي باحثة واديبة وربة بيت ممتازة (يبدو ذلك من اناقة بيتها ونظافته) وهي ام صديقة لابنائها كما لاحظت وانا اتعرف على بعضهم.
الحديث مع هذه المرأة المليئة بالحماس والروح المتفائلة رغم احباطات هذا الزمن الرديء يجعل الجلسة متوهجة وعامرة ولا اظنني الا ازددت حماسة واصرارا على التمسك بمواقفي ومبادئي ومواصلة طريق الكتابة الصعب «وإن جر علي ما يجر من مصائب».
إلى المحويت
ان تحلم برحلة الى مكان يؤكد كل من زاره قبلك انه من اجمل البقاع في اليمن فهذا امر سهل، احلم كما تشاء، وتخيل ما تشاء، لكن تحقيق الحلم له مذاق خاص لأن من يرافقنا هذه المرة مع مجموعة من الاصدقاء شاعر اليمن الكبير د. عبدالعزيز المقالح، وكانت اعجوبة ان يوافق على السفر، وهو الذي لا يفارق صنعاء الا نادرا. وقد شعرت بالافتخار انه اكرمنا بحضوره الجميل. كان القرار ان نتغدى في فندق المحويت لكن المقالح العاشق للطبيعة اقترح ان نتناوله في الهواء الطلق.. كل تمسك برأيه لكن الغلبة كانت له ولم نندم على ذلك.
الطريق الى المحويت، كما هي كل الطرق في اليمن، ستمر بين الجبال ذات الاشكال والالوان المختلفة وبين السهول والقرى المتناثرة ومزارع القات الكثيفة. ستمر على جبل المنقب وهو جبل رمادي قاتم لا تكاد تميز لون بيوته ويبدو كمن يرتدي نقابا بالفعل، ثم تمر بشبام كوكبان ويبدو هذا الجبل من البعد وكأنه رأس امرأة والبيوت التي تستقر على قمته اشبه بالأكاليل، اما وادي النعيم، فهو اسم على مسمى بجماله المدهش وخيراته، هناك جبل آخر يدعى «جبل العروس» وتنسب إليه قرية العروس، نمضي منه الى الأهجر والطويلة، وهذه مدينة تستوقفك بدهشة فكل بيوتها معلقة فوق الصخور الناتئة، فلا تمر بصخرة هائلة الا وتجد فوق قمتها بيتا حتى لتكاد تشك ان البيوت نتأت من الصخور. شغلني امر هذه البيوت: كيف يصل إليها سكانها؟ هل يتسلقون الصخور ام يستخدمون الحبال؟ لا ادري لماذا كتمت فضولي هذه المرة ولم اسأل وما زال الامر يشغلني. تمنيت لو اقضي اياما في احد هذه البيوت التي تشرف من العلو على جهات الدنيا الجميلة ويتنشق اهلها «أكسجينا» نظيفا بعيدا عن زحام الشوارع وضجيجها.
من الطويلة الى وادي الرجم، ولا ادري سر التسمية، لكنني ارتعشت وانا اتخيل انه واد لرجم النساء العاشقات.
صوت فيروز
كان صوت فيروز لا يفارقنا طوال الرحلة وكلنا عشاق صوتها الملائكي، لقد اصبحت جزءا من تاريخ عواطفنا واحلامنا وهي الدفء الذي نلجأ إليه حين تبرد قلوبنا او تصيبنا الخيبات، ولا بد ان نشكر الله مانح هذه الهدية النادرة. كان المطر شحيحا ذلك النهار وكنا ونحن في رحلتنا نصادف الراعيات مع أغنامهن الراكضة هنا وهناك بين السهول والمنعطفات، فتجيء اغنية فيروز الى راعية: «سوقي القطيع الى المراعي، نمضي الى خضر البقاع» حتى تصل إلى وصف كوفية الراعي: «كوفية بيضاء تسبح في المرابع كالشراع».
مع فيروز تصير الرحلة اشبه بالحلم لا يود المرء ان يصحو منه، وان صحا فالمناظر الخلابة حلم آخر نسبح فيه كما تسبح كوفيات الرعاة.
حين وصلنا الى الفندق كان الجوع يلح بشدة فأوصينا بشواء اللحم، وكي نسكت الجوع ركبنا السيارة لمشوار آخر الى منطقة لا اتصور ان في هذا العالم شبيها لها «الريادي». هل رأى احدكم يوما نفسه معلقا بين الصخور؟ العلو شاهق والصخور تندفع من الجبل بأشكال غريبة او كمثل اجنحة طيور خرافية مطلة على الوادي البعيد البعيد الى درجة تحس انك لا تقف على الارض، وان اي هبة من الهواء قادرة ان تطيح بك الى الهلاك.. لا بد ان تكون حذرا للغاية وانت تطاوع فضولك لتجلس على صخرة وتلتقط صورة نادرة. اصابتني الدوخة وقبلها كان الخوف من المشهد الذي لاحقني في الحلم تلك الليلة فاستيقظت اكثر من مرة قبل ان اسقط. لا اتصور انني سأزور هذا المكان مرة أخرى، فرغم جماله هو مرعب. سترى في الجبال المقابلة التي لا تقل رعبا، كثيرا من الكهوف الفاغرة افواه صخورها وتسأل: هل من اناس يسكنونها؟ البعض يفضلها اذ يشعر بالراحة بعيدا عن البشر واذيتهم ليحلم، وقد تفاجئه الاشعار او ربما جنيات الليل الجميلات الراغبات في الانس مع ابناء البشر. لقد خانتني الكاميرا فلم احظ بصورة لذلك المشهد المرعب الجميل.
عدنا الى الفندق، شي اللحم لم يكتمل وكانت فرصة لأشرب القهوة فوق سطح الفندق المطل على الطريق الساكت لحظة الظهيرة، اصابتني حالة من الوجد القاهر، تمنيت حبيبا معي يبث حنانه ويدفن كفي الباردة بين كفيه، ويهمس لقلبي بأحلى كلمات الحب، فهذه الاجواء الرومانسية تفقد شيئا من عذوبتها ان لم يكن هناك حبيب يضيء شموعه ويمزق صمت المكان. نزلت مرغمة وكأني افر من سياط لا ترحم لحظتي ولا تعوضني ولو بقطرة باردة.
جلست على الاريكة في بهو الاستقبال واخذتني غفوة صغيرة، سمحت لبعض الاحلام السريعة ان تتسلل وكأنني ما زلت بعد فوق تلك الصخور في الريادي. كان محمد عبدالسلام يشرف على عملية الشواء وبحجة اختبار الطهو يلتهم منه فقلت له: لقد اكلت نصيبك ولن نعطيك شيئا.
اخذنا اللحم ومؤونتنا من الحمص والخبز والخضار والفاكهة وتوجهنا الى المكان الذي حدده المقالح عند «سد الشاحذ»، افترشنا الارض عند حدود السد الممتلئ بزرقة صافية وتحلقنا بلهف حول مائدتنا السخية، ما هي الا لحيظات حتى فوجئنا بقطيع من الماعز الصغير يندفع الينا وتبدأ العنيزات تتخاطف الخبز وتنط لتستقر في احضاننا، وكأنها اطفالنا الصغار تبحث عن رائحة الام المفقودة. كان منظرا لا اجمل ولا ارق، كانت المرة الاولى التي احضن فيها ماعزا او تيسا فأخذت أتأمل العيون الواسعة واسمع المأمأة الطفولية، ولم نتخلص من هذا القطيع الا حين اقبلت راعيته ذات العيون اللوزية لتجمع شتات اطفالها الاعزاء. كان نهارا فريدا بجماله وبكمية السعادة التي امتلأت بها.
(انتهى)
في الوداع.. أجمل الهدايا والدموع يمنحها بسطاء الناس
لا يتركك اليمنيون تغادر من دون ان يملأوك بالهدايا من كل نوع، العسل والزبيب واللوز الذي يعتبر من اجود الانواع في العالم، والبخور والبن اليمني، وعقود الفضة المرصعة بالعقيق والمرجان والفيروز. «وان كان الضيف يفرح بهدايا الاصدقاء المقربين، فكيف تكون حاله حين تجيء الهدية من بسطاء الناس؟».
«عم عبده» حارس اتحاد الكتاب جاء الى الفندق في غيابي، وترك لي هدية عبارة عن اطباق من القش الملون متعددة الاحجام، وقد ارفقها برسالة عذبة عامرة بود صادق يأتي من انسان بسيط رآني مرة واحدة في زيارتي السابقة، وقد عبر عن فرحه «برائحة الكويت واهلها»، وكم أسفت لأنني لم استطع تقديم الشكر له.
الهدية الاخرى فاجأني بها السائق اسماعيل الذي لم يكن يحب فيروز، قدم لي العلبة الملفوفة بورق الهدايا الانيق والشرائط. شعرت بقلبي يبكي فرحا بحب هؤلاء الناس البسطاء الكرماء، واستطعت ان اشكم دموع قلبي لكنني ما استطعت ذلك في اللحظة التي طلبت ان آخذ شرائط فيروز قبل رحيلي، فتمسك السائق بواحد منها وقال: اتركيه لي اريد ان اتذكرك به، فاندفعت دموعي وفوجئت باسماعيل يبكي مما زاد تأثري وتدفق دموعي.
هكذا ودعتني صنعاء بالدموع، دموع أصدقاء وصديقات بعضهم لم يخجل ان يذرفها وبعضهم برباطة جأش تمالك نفسه، لكنها لم تخف علي لأن اصحابها محبون حقيقيون ويملكون قلوب اطفال. كم جميل ان يحبك الناس بهذا العمق والصدق لذاتك؟ حب يتجرد من المصالح والنفاق والماديات التافهة، حب لا يستطيع ان يمنحه الا شعب لا يزال يتألق بالعفوية التي لم يدمرها الترف. ان الحب مسؤولية كبيرة فعليك دائما ان تستأثر الآخر، تعطيه ولا تنتظر مقابلا كذااحبتني صنعاء واحببتها، اهدتني كل ما تستطيع ان تهدي من عواطف صادقة «او صامتة»، ولا اجد في الدنيا كلها هدية قادرة ان ترد الجميل والحب غير قلبي الذي ينبض، سأظل احبك ايها اليمن السعيد، واظل وفية لأهلك الكرام الاوفياء، اما انت يا - صنعاء الحلم - فأقول:
لن يصدأ الحب في قلبي، هل خطيئة ان احب جبلك الشاهق وقمرك النعسان؟ ما احلى خطيئتي، هل ذنب ان اصطفيك محطة لصيفي وشتائي؟ آه كم احب ذنوبي، ويا صنعاء اغفري ان ملأتك برسائل عشقي فهي عصير القلب الصافي، واغفري ان اسريت في مضائق ليلك وساحات نهارك، ان استقصيت اخبارك من الصحف والشاشات. صنعاء انت، انت من ناديت فراشات قلبي نحو ضوئك فترفقي بمن اطاع امرك، واعذري ولها لا يكشف المنجمون - وان صدقوا - اغواره. انه وله لا تحتمله سوى امرأة مثلي تعلمت «فن الصبر»، كلما احبت، وانتظرت مطر الحبيب حتى يلين، صنعاء لا تسرفي في «غرورك» والدلال، لا تحجري عل وله تسامى وحرف تعبق بالجمال.