عبد الحميد الغرباني -
حين استشهدت صمود ومات كل العالم .
غارتان ضربت ليل (الأربعاء) العاشر من مايو منزل المواطن عبدالرحمن عبده علي الريسي في منطقة الأزرقين مدخل العاصمة صنعاء الشمالي وقد أسفرت عن استشهاده وزوجته وفاء علي الريسي وطفلتيه فرح ( 8سنوات ) و صمود ( 8 شهور ) فيما استيقظ أربعة من أطفاله وأنقاض منزلهم تجثم على صدورهم وكتل الأسمنت تحاصر أجسامهم الصغيرة وهم الطفل أمجد ومحمد وأفنان وأكبرهم سيئون (13سنة ) ..
كان الصبية الأربعة يستنجد بعضهم بعضا بين أنقاض منزلهم في ظلمة حالكة قبيل أن يأتي المسعفون ولربما كانوا يسألون بعضهم بعضا لماذا لا يسمعون والدهم و والدتهم وحتى بكاء صمود (بي بي المنزل) الذي تعودوا عليه لثمانية أشهر مضت .. كان ليطمئنهم ولو صراخ وجع أو حشرجة احتضار من وسط دمار هائل يسجنهم وبارود يجدونه في جفاف أفواههم وضيق أنفاسهم .. في لحظات ازدحمت على حواسهم هواجس الموت والخوف والوحشة تداعت كل قواهم للاحتشاد برمق أخير للتمسك بأمل وحيد .. بأن لا يتجدد عليهم قصف الطيران بعد الغارتين .. بأن صفير آذانهم من دوي الغارتين هو ما يحجب أصوات والديهم وشقيقتيهم .. بأن الجيران والمارين على الطريق آتون لا محالة .. قبيل أن تأتي كاميرا قناة المسيرة التي سجلت ضمن مشاهد المأساة تساؤل إحدى الطفلتين الناجيتين والحبيستين بين الأنقاض وهي تردد " والدي مات " ؟ "والدي مات " ؟ قبيل أن يرد عليها أخوها " ماشي ياختي ما احد مات"
وهو ما ردده المسعفون أيضا الذين تكفلوا بانتشال وإنقاذ الأطفال وبخطى حذرة تخاف تصدع أنقاض المنزل أو انطباقها بما يقلل من فرص نجاة النصف الآخر من الأسرة المستهدفة بغارات للعدوان ضربت منطقة الأزرقين في العاصمة صنعاء ..
(نجا أمجد ومحمد وافنان وسيئون لكنهم لايستطيعون حراكا من بين أكوام المنزل المتراكم على أجسادهم النحيلة ) كانت هذه النتيجة معضلة بالنسبة لمنقذين يسابقون القاتل الطائر الذي مايزال يحلق في
المكان ككل مرة يبحث عن قتل المسعفين ..
في المشاهد الحية تقدم أحد المسعفين وسأل الطفل أمجد إن كان يستطيع حراكا إلى اليمين او إلى الشمال .. فرد أمجد بصوت مكلوم ملؤه الشعور بخذلان العالم له " أنا خاذل ولا استطيع " ، في هذه اللحظات كانت شقيقته سيئون تنادي المسعفين أن ينقذوها وخاطبت احدهما وهي تصرخ بألم بالغ (دبر نفسك بهذا الصفا ) إشارة إلى عمود المنزل الذي يحتجزها تحته وتضيف بحرقة وهلع " ابعد الصفا من فوقي ، الله يحفظك" وفي
هذه الأثناء شقيقها أمجد ينادي احد المسعفين " اهف عني هذا الصفا وبيد نحيلة ومحاصرة و"خاذلة "وفق تعبير أمجد كان يحاول أن يزيح عن نفسه أنقاض منزل دمره التحالف عليه وأسرته واختطف منه ماهو أغلى وأهم من المنزل ومن كل شيء آخر ..
في هذا الوقت انتشل المسعفون أول طفلة ( افنان ) وصيحات الفرح والشكر لله ترتفع ويواصل المسعفون مهمة المواجهة مع أنقاض المنزل أملا بأن تنتهي تداعيات وأضرار الغارات على الأب والأم وطفلتيهما (صمود وأفراح)، العين على الطفل محمد اصغر الأطفال المحاصرين بأنقاض الغارة ، كان محمد يشغل لسانه ويديه بتسبيح الله وفجأة تتداخل أصوات الأخوة الثلاثة يرجون المسعفين سرعة الإغاثة ومع مرور الوقت وببصيص من ضوء اتاريك _حذر أن يعاود الطائر القاتل قصف المقصوف _ينجح المسعفون في انتشال محمد وحين وصلوا به إلى سيارة الإسعاف باشرهم محمد وهو يكاد يتحطم من الألم " أين امي " ؟ كان السؤال صادما بالنسبة للمسعفين، لكنهم قالوا له إنها موجودة وعليه أن لا يقلق وتعود الكاميرا من سيارة الإسعاف إلى شقيقه أمجد وهو حبيس الأنقاض والمسعفون يبحثون الوسيلة المثلى التي يخرج معها دون اثار إضافية على جسده ،وقطعوا وقتا اخر حتى انتشلوه وكان كما قال لهم " خاذل " وفي حالة يلين لها الصخر ألما ، لم استطع أن امسك دموعي عند هذا المشهد الذي سيشاهده العالم المنافق ثم لا يرف له جفن بل يقبض جزء كبير من زعماء ورؤساؤه ثمن الصمت وتوفير الغطاء لكل المجازر الوحشية التي تضرب اليمن على مدار الساعة ..
بين الأنقاض وتحتها ظلت سيئون كانت تتألم بشدة و تصرخ .. تبحث عن الماء .. وتؤكد لهم أنها لم تصب بجرح وتسأل أين والدها (يووووه يا اباه واين انت ) ثم تعود وتؤكد للمسعفين (انا ميت عطش )(مابش بيني جرح ) وهم يؤكدون لها أنهم سيفعلون فيما هم يمنعونه عنها احترازا فيما لو كانت تعاني نزيفا داخليا ، ثم تنادي سيئون وترجوهم على الأقل أن " يعطوها ماء لبل فمها فقط ).. وهي حالة تشبه إلى حد ما طلب أحد أخوتها الى المسعفين أن يبلوا الأحجار الكبيرة التي تحتجزه ، كانت سيئون بين كل خطوة وأخرى للمسعفين تذكرهم ( رجلها او يدها ) وأن ينتبهوا حين يزيحون الانقاض ، ثم تكرر عليهم بإلحاح. . طلب الماء . " ادي لي ماء ادي لي ماء " .. ويواصل المسعفون جهودهم حتى تكللت بانتشال الطفلة الثالثة وهي تحمد الله ومضى الوقت و أشرقت الشمس وماتزال (صمود_ 8 شهور ) تحت الأنقاض ..
وقريبا منها شقيقتها أفراح والمسبحة بين يديها ، ربما أخذتها ليلا من والدها ، ربما من والدتها .. المهم لقد كانت تسبح الله تعالى ، وفي فعلها الذي تعودت عليه من أسرتها دعوة للشعب اليمني إلى مواصلة صبره الإستراتيجي إزاء سياسة العدوان التي تتعمد تركيعه لقوى الشر والتوحش ، أما شقيقتها (صمود ) فقد كان اسمها نابع من أهم أولوية للشعب اليمني في هذه المرحلة من النزال لأجل الكرامة والحياة الكريمة وهي (الصمود الإستراتيجي ) هذا المواطن الذي كان يقاتل في سبيل أسرته كان يعرف أن قوات واشنطن والرياض تنظر إلى حياة اليمنيين على أنها هامشية تماما وغير
مهمة وأن هذين النظامين يستخدمان المجزرة كسلاح وأنهما خاضا ويخوضان معركة زعزعة المعنويات قبل المعركة العسكرية نفسها ومن هنا سمى أخر هبات الله له بصمود التي استشهدت ومات كل العالم ... ولقد تركت لليمن باسمها وصية مفادها ضرورة الصمود وضرورة دعم مقومات الصمود .. حين استشهدت صمود ومات كل العالم ..