المؤتمر نت- هشام شمسان -
عن الالتزام والحرية في القصيدة الحديثة وواقع النص الجديد(1-2)
" وصل إلينا الشعر العربي وهو يحمل بين سطوره حضارات قرون عديدة وثقافات مختلفة وتجارب متنوعة فيها الجيد الذي يمكننا الاستفادة منه وفيها الغث الذي يمكن إبعاده ونسيانه ، وتلك طبيعة الحياة نأخذ منها ما يلائمها ونترك ما لا يساير مسيرتنا الحضارية"( ) ؛ لذلك فشعرنا العربي جاء قوياً في بنائه و في معانيه ولغته . وكان للتطور المنحدر جذوره من العصر الجاهلي مروراً بالعصر الإسلامي والأموي ثم العباسي أثره البالغ في مسار القصيدة ؛ إذ كان لكل عصر أفكاره ورغباته ، وتمخضت أغراض عديدة للشعر ولكنه –مع ذلك- ظل محتفظا بأصوله الأولى: نظير الموسيقى الإيقاعية والعروضية؛ كما ظل محتفظاً بكل مقومات القصيدة.. وجاء زمن وعصر آخر سبت فيه المسلمون ، وطالت إغفاءتهم حيث بدت سيطرة الغرب على الشرق تتجلى فيما بعد مما نتج عنه احتكاك مباشر بالغرب وتمخض عن ذلك أشياء كثيرة عكست ظلالها على الإنسان العربي وحسبنا –هنا – أن نورد قضيةالثقافة و "الشعر" خاصة ؛ إذْ حين شعر الإنسان العربي بالخطر هبَّ عاكفاً على إحياء تراثه وبعثه من جديد ، وكان عصر الإحياء والتجديد شاهداً على ذلك ،ولعلنا لا نستطيع حصر جميع رجالات الثقافة والأدب في تلك الفترة وحسبنا أن نذكر منها في المجال الأدبي "سامي البارودي" الكلاسيكي وبعده يجيء "أحمد شوقي"هذا-الأخير- الذي حاول أن يتخلص يوما من كلاسيكيته، والخروج من سجن القصيدة القديمة إلى اليسر والإبانة "لدرجة أنه قام بمحاكمة "لافونتين" الفرنسي عندما نظم قصص للأطفال مقلدا بذلك خرافات لافونتين"( ) وقام بتحديد أصول وقواعد على ضوئها يسير الشاعر فقال:
-"أن يكون الشاعر أصيلاً. وله سليقة مواتية".
-"أن يتعهد رواد الشعراء صغار الشعراء".
-"العناية بالشعر عناية كبيرة.
-"أن يكون الشاعر متسع المعارف الثقافية والأدبية"( ).
وقد حاول البارودي نظم قصائد جديدة في أوزان جديدة من ذلك قوله: "مال واحتجب.. وادعى الغضب" (فاعلن. فعو فاعلن فعو)( ) وقوله "طال عليها القدم فهي وجود عدم" (مستعلن فاعلن مستعلن فاعلن).
وجاء شعراء آخرون يحاكون التجديد والتطور مستفيدين من الرقعة التراثية للشعر العربي فإلى أين وصلت المسيرة؟
شعر التفعيلة أو الشعر الحر
يجدر بنا أن نشير إلى أهم نقلة في تاريخ الشعر العربي وأخطر نقلة مرت به وتلكم هي "شعر التفعيلة" أو ما سمى بالشعر الحر؛ حيث زحف التطور ليأخذ مسارا نوعياً يتباين عما سبق حيث وجد الشعراء أنفسهم وجهاً لوجه أمام مأزق "لأن المجددين –في البداية- لم يستطيعوا الاتفاق على معاني الشعر الجديد وظنوا بأن الشعر الحر هو الذي يتحرر من القافية أو هو الشعر الذي يغير البحور في قصيدة واحدة أو أنه الشعر الذي يغير عدد التفاعيل من بيت لآخر1) وظن آخرون بأنه: الشعر الذي يتخلص من الوزن والقافية معاً. ولم يكونوا يعلمون بأن الشاعر الإنجليزي "تي . سي اليوت" عندما أراد لهذا التجديد أن يشرئب بعنقه لم يكن يعني ما عناه البعض إذ أن الشعر الحر لديه يعني: المتحرر من أي إيقاع أو ترتيب موسيقي معين ووقع بعض الشعراء العرب في تصنيف تي . سي اليوت بالرغم من أنه يرى "بأن التحرر يجب أن يسير وفق قاعدة فنية وأدبية وقال: بأن الشاعر الرديء وحده من يحاول التخلص من الشكل الموزون( )
وفي هذا الجو الملبَّد بالغيوم كان الشاعر العربي يفكِّر جدياً في التخلص من روتين القصيدة العمودية أو المقفاة.
واقع القصيدة الحديثة:
عندما أراد الشاعر المعاصر أو المجدد التخلص من القصيدة البيتية كان أمامه طريقان:التخلص من مستلزمات القصيدة التراثية من وزن وموسيقى ومعنى وبناء أو الأخذ بفكرة "الشعر الحر" مع الاحتفاظ بالموسيقى والبقاء على العروض كسمة أساسية لها ، وانقسم الأدباء إلى معارض لفكرة التحرر من نظام البيت والتجديد في إطار العمود الشعري وإلى مؤيد لذلك شرط البقاء على العروض وظهر آخرون من محبي اليسر والسهولة والتقليد – يؤيدون فكرة الحرية بلا ضابط أو تحديد لمعنى الشعر ، وأنبثق عن ذلك فريق يعمل بصمت واضعاً قواعد محددة لمعنى الشعر الحر وتعريفه ، وحاك ثوبا قشيباً لهذا التجديد نسجت خيوطه من عمق التراث والتاريخ الأدبي لهذه الأمة وخرجت القصيدة الجديدة من "الفراهيدي وعروضه" لا من عبثية "ت . س اليوت" أو "كيتس" و "شيلي" أو "سوزان برنار" ، كما لم تأت من فراغ الناقد الإنجليزي "هازلت" بل من معلقة "امريء القيس" و "دلالات المتنبي( ) ويخطىءالكثيرممن يحاول القول: بأن القصيدة الحرة المجاوزة– قصيدة التفعيلة – تعني الحرية في عروض الفراهيدي والعبث في موسيقى الشعر والتمرد عليها ؛ لأن ذلك معناه السخف برمته وكثيرون هم أولئك الذين نراهم الآن ينثرون وينثرون ظنا منهم بأن ما يصدر عنهم هو الشعر متجاهلين ماهية القصيدة ولزومياتها الأساسية مما مهد الطريق لأسماء تطلق على نفسها شعراء "القصيدة المنثورة"أوقصيدةالنثر ؛ غير مدركين بأن الشعر لا يلتقي مع النثر. وبالرغم من شيوع التسمية وطغيانها الآني في معظم الكتابات الشعرية إلا أن النثر سيظل نثراً والشعر سيظل شعراً مهما حاولنا أن نلتف وندور حول أنفسنا .. ولو جاز أن نطلق على بعض الخواطر شعراً ، لجاز أن نطلق على مقالة سياسية مؤثرة شعراً أو مقالاً اجتماعياً عاطفياً – كذلك -
وما دمنا بصدد الحديث عن ما يسمى بقصيدة النثر فلا يفوتنا أن نأتي بنموذج من ذلك فهذا شاعر ذاعت شهرته وتقرأ إحدى قصائده – كما سماها – وتلمح عليها اسم "المعلقة" هكذا لقب قصيدته لنر كيف ينثر كلماته:
"هنا نحل ، وهناك أزهار
ومع ذلك فالعلقم يملأ فمي
هناك طرف وأعراس ومهرجون
ومع ذلك فالنحيب يملأ قلبي
أيها الحارث العجوز يا جدي
أعطني كلبك السلوقي لأتعقب حزني"( )
إنها موسيقى ولكنها ليست موسيقى الخضوع للإيقاع العروضي ، لأن لا إطار موسيقي لها سوى جرس داخلي لا يفي بالغرض الشعري الذي نبحث عنه.. فهل هذا هو كل الشعر– أيها السادة ؟