الناطق الرسمي باسم المؤتمر الشعبي العام- اليمن
التاريخ: الأحد, 24-نوفمبر-2024 الساعة: 12:20 ص
ابحث ابحث عن:
ثقافة

الاديبة فاطمة ناعوت تكتب لـ(المؤتمرنت)

الخميس, 14-أكتوبر-2004
المؤتمر نت - الاديبة فاطمة ناعوت المؤتمر نت-القاهرة-خاص -
لم تزل في سماء صنعاء غيمات كثيرة تزخر بالثراء
القارئ الكلاسيكي الجميل الذي تعوّد على ملمس الورق واحتواء الكتاب واعتباره الملاذ الحقيقيّ من تعب الحياة، والمرجع الأول للمعلومة والتسريّة عن النفس، ووسيلته الأقرب لشحذ الذهن وصقل الوعي، القارئ الذي لم تأسره ثقافة الصورة وحدها وبريق الإلكترون الأزرق، القارئ الذي أعلنتُ في أحد مقالاتي السابقة أنه مات ولا عزاء للشعراء، لم يمت تماما بعد فيما يبدو. أثبت معرض صنعاء الدولي الحادي والعشرين للكتاب، الذي تقاطع هذا العام مع "صنعاء عاصمة للثقافة العربية 2004"، أن ثمة قارئًا قويًّا في اليمن. إذ توافد ما معدلّه مائة ألف قارئ يوميًّا. ولم يكتف رواد المعرض من شباب وشابات اليمن، جاءوا من جميع محافظات البلاد، بالتجول بين أركان الكتب وانتقاء ما يلتقي ومتطلباتهم الثقافية، بل حرصوا على حضور الفعاليات الثقافية والإبداعية التي أقيمت على هامش المعرض من ندوات فكرية وإبداعية في قاعتيْ "إكسبو صنعاء" و"بيت الثقافة". الأمر الذي أعلن بجلاء عن اتساع ثقافة الشباب اليماني وإقباله على المعرفة نهلا من القراءة والاطلاع والانفتاح على العالم من أجل تطوير معارفه وصقل وعيه. المعرض الذي كان مقررا أن يمتد من الثاني والعشرين من سبتمبر حتى الثالث من أكتوبر طالب جمهور القراء بمد فترته لينتهي يوم الخامس من ذات الشهر رغم الإقبال وحجم المبيعات.
وقد أعلن عبد الملك القطّاع، مدير عام معرض صنعاء الدولي للكتاب، أن من بين الحضور العديد والبارز من الشخصيات العامة سياسيًّا وفكريًّا وإبداعيًّا وفنيًّا والعديد من ممثلي المؤسسات الرسمية والأهلية والمؤسسات الثقافية التي تعنى بشئون الثقافة والمعرفة، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من طلاب المدارس الحكومية والأهلية والجامعات من مختلف محافظات الجمهورية الذين جاءوا ضمن برامج منسقة مع إدارة المعرض. وقد لوحظ أن الإقبال الأكبر كان على جناح وزارة الثقافة والسياحة وخاصة إصدارات مشروع صنعاء عاصمة الثقافة العربية التي شملت قرابة 200 عنوان حديث منها طباعة مخطوطات وكتب تاريخية ومعرفية وعلمية وإبداعيّة.
وليس غريبًا أن يكون معرض الكتاب هذا العام هو الأنجح في ظل رعاية محبٍّ حقيقيّ للثقافة مثل خالد الرويشان الذي بدا واضحًا أنه بصدد تفجير ثورة ثقافية شاملة وحقيقية في اليمن. يكفي أن نعلم أنه أنشأ، خلال السنوات الخمس التي رئس خلالها الهيئة العامة للكتاب، ثلاثين مكتبة عامة في أنحاء اليمن بكل تجهيزاتها، كما أنشأ "بيت الثقافة" ومكانا خاصًا للهيئة العامة للكتاب، وأصدر خلال تلك الفترة العديد من عناوين الكتب المهمة سواء الحديث منها أو إعادة طباعة لأمهات الكتب. أذكر منها "الجامع"، ذلك السِّفر الذي ضم بين دفتيه أعلام العرب والمسلمين المنتسبين إلى اليمن من علماء وشعراء وفاتحين وقادة مثل الرئيس جمال عبد الناصر الذي ينتسب إلى قبيلة "بني مر" القحطانية. هذا المعجم لمؤلفه عبد القادر بامطرف، الذي قال في مقدمته حين سُئل عن السبب الذي حمله على وضع ذلك الكتاب أنه ألّفه لأن أحدا قبله لم يسبقه إلى تأليفه، كان صدر في العراق قديمًا وفُقد إلى أن حصل الرويشان على نسخة نادرة منه فأعاد طباعته في مجلد أنيق نفد في طبعتيه وباع أكثر من عشرة آلاف نسخة خلال عام. ويذكر الرويشان في تصديره الضافي للكتاب "أن الجامع قد جمع التاريخَ بالأدب، والترجمة بالوقائع، وجغرافية الدول والمدن بجغرافية الأعلام والقبائل، والشعرَ بالحكايات،(...) وأن الحاجة ملّحة في الوطن العربي، خاصة لدى الأجيال الجديدة، إلى نماذج ولو قديمة للبطولة والأبطال سيما في هذه اللحظة البائسة اليائسة من التاريخ العربي، فلعل الكتاب وهو يفيض بالأبطال الناجحين أن يوقد همّة أو يشعل عزيمة."
وتشي مثل تلك المبادرة وغيرها الكثير أن خالد الرويشان يضع رهاناته جميعها على المستقبل والجيل الجديد لكن عبر الطريق الأصعب والبوابة الأصعب: المراهنة على المستقبل مع القبض على جمرة التراث المستنيرة. رصدتُ ذلك الملمح بوضوح حين تأملتُ بانوراما ذلك العام الاستثنائي في تاريخ صنعاء، عام تتويجها عاصمة للثقافة العربية، وكذا خلال زيارتيْ لصنعاء مرةً في أبريل الماضي ومرة في معرض الكتاب الحالي. حين تفكرّت في الأمر أرجعته لمعطيات عديدة: ربما بسبب توليه مهام منصبه في مقتبل عمره إذ تولى رئاسة هيئة الكتاب وهو في الثلاثينات واختير وزيرا وهو بعد لم يخطو إلى الأربعين من عمره، وربما لكونه مبدعا روائيًّا في الأساس، وربما لولعه الطبيعي بالتراث العربي مع اقترابه الحميم من شباب بلاده من مثقفين ومبدعين في آن. حتى أن جلَّ القائمين على ذلك العمل الضخم والمميز الذي أنجزته صنعاء هذا العام من الشباب الواعد أذكر منهم بغير حصر سعيد الشدّادي وأحمد السلامي، علي المقري، على الحُميدي، علي الأديب، جميل مفرّح، محمد حسين هيثم، عبد الرحمن غيلان، أحمد الشلفي، عائد الشوافي وغيرهم من الطليعة كانوا جميعا يدًا يمنى للوزير بحبٍ وحماس لمشروعهم الرفيع. فلا تكاد ترى بين رجالات منجزي فعاليات صنعاء عاصمة للثقافة، سواء تقنيا أو تنظيميا أو أمنيًّا أو فنيًّا، أيًّا من هؤلاء الكهول الذين نراهم في كل بلد عربي يحاولون جرَّ العربة إلى الوراء. هل نقول أنهم قومٌ محظوظون إذ حظوا بمثل تلك الروح الناهضة، حتى أن كبير شعرائهم وبوابة اليمن الثانية د. عبد العزيز المقالح نموذج فريد للتقدمية والاستنارة والمراهنة على الجديد و "الأجد" بتعبيره، حدَّ أنه فاق الشعراء الشباب شبابًا؟ أم هم محظوظون بذلك الوزير الذي حاول ونجح في حل المعادلة الأصعب: الرهان على المستقبل مع عدم الوقوع في شرك هجر التراث قطعيًّا؟ والشاهد أنني لم أر وزيرا مُتفقًا عليه إجماعا مثل الرويشان. كنت أظن أنه محبوب ومبارك من قِبل المثقفين العرب وحسب بوصفهم خارج المشهد اليمني ومن ثم يرون التجليات الإيجابية ولا يكادون يلمسون مطبخ العملية وسلبياتها كما هو الحال دوما، لكن المدهش أن ذاك الوزير استطاع بقوة ما صنع أن يحوز حب مواطنيه ومباركتهم، فلا تكاد ترى مثقفا يمنيا أو شابا أو صحافيًّا أو قارئًا أو مواطنًا بسيطًا لا يتكلم بحب وحماس عن ذلك الرجل. ومما يؤكد رهانه على الطليعة والشباب ما أقدم عليه من مجازفة تحسب له طويلا في ملتقى صنعاء الأول للشعراء الشباب في أبريل الماضي. إذ وضع هؤلاء الصغار في متن الحدث وجعل الكبار في الخلفية كآباء روحيين يقدمون الجيل الجديد للمشهد بمباركتهم. وهو ما خالف أعراف جميع المهرجانات الشعرية السابقة التي تعنى بالرموز والأسماء الكبيرة مخافة المخاطرة بتقديم أسماء بعد لم تستقر فيُزج بها دومًا في هامش المشهد. كذلك دعوته احتفال جامعة الدول العربية بيوم الطفل العربي منذ أيام. ذاك الملتقى الذي نجح نجاحا مذهلا إذ حقق الأطفال الوحدة التي فشلنا نحن الكبار شعوبا وحكومات في خلقها. ولم ينس الوزير أن يكرّم كل الأطفال الذين توافدوا من أقطار العروبة. وفي مشهد أبوي جميل حمل الرويشان الطفلة "ملاذ" ذات الأعوام الثلاثة التي بكت تفاعلا مع بكاء الأطفال على المسرح حتى دون أن تعي ما يجري، حملها وقبلّ طفولتها ورهانه على غدها. راهنت صنعاء إذًا على الطفل والشاب، ولم تغفل الأصيل من التراث والمنجز القديم الخالد وتلك هي المعادلة الأصعب.
أذكر أنه في إحدى الأمسيات الختامية لمعرض الكتاب، وكان حفل عشاء في قاعة فندق حدّة على أنغام فرقة المنشدين اليمنيين بصنعاء، وحين شرع الجميع في تناول الطعام، ظل الوزير صامتا يستمع باحترام إلى الفرقة التراثية الجميلة، ولم يبدأ في تناول الطعام إلا حين انتهت فقراتها كاملة.
// يا أحبّة ربا صنعا / رعى الله صنعا / كيف ذاك الرُّبى لازال للغيد مرعى؟ / ليت شعري / متى شالقي عَصاة المسافر / وأيّ حين شا يعود لي عيش قد كان / وأي حين شا تخطّر بين تلك المناظر / هو قريب ذا على الله إن يقل له يكن...... // ما لي أرى الخصر ينحل / من لمس بعض الأيادي أصبح الخصرُ / ما هكذا الغزلان بالخصر/ جسمي غدى عندما أنحلتَه في انتحال.
تراث الشعوب من تواشيح وإنشاد يمثّل منجز الوطن وديوانها وحافظة ذاكرتها لدى الأجيال المتعاقبة. والموشح اليمني يعد من أعرق الفنون في تاريخ الموشحات وأحد أهم المرجعيات لمعظم الموشحات فلا نكاد نجد موشحاً في العالم العربي إلا وله خيط تقاطع مع الموشح اليمني وشعرائه وملحنيه ولهذا اكتسب شهرة واسعة قديما وحديثا. ولأنه يحمل بين طياته ملامح وهوية الفرد اليمني تم إنشاء جمعية المنشدين اليمنيين عام 1989 لرئيسها علي محسن الأكوع بهدف حماية التراث وتجديده بما يحفظ له أصالته وتاريخه والعمل على نشر التراث الإنشادي بين أنحاء اليمن كي تظل الأجيال علي صلة وثيقة بأمسها الذي زخر بأرفع الفنون التراثية مخافة أن ينقرض أو تطمره جارفة النسيان. ويربط البعض بين بداية نشوء الموشح العربي وبين يوم استقبال الأنصارُ للرسول والمهاجرين بأغنية "طلع البدرُ علينا من ثنيّات الوداع". أما الموشح اليمني فترجعه كتب التأريخ والتراجم إلى خمسمائة عام خلت. ويقول المنشد الأول في الجمعية الأستاذ علي الأكوع إن جابر رزق هو أبرز من أنشد ولحّن الموشح اليمني فقد كان يكتب القصيدة ويؤلف موسيقاها وينشدها، كذلك عبد الرحيم البرعي الذي كتب الوعظ والغزل والمديح في الذات الإلهية. ويحظى المنشدون بجماهيرية لافتة سواء من أبناء الوطن أو من الوافدين داخل البلد وفي جولاتهم عبر العالم. ربما بسبب أصواتهم المميزة وكلمات موشحاتهم الرفيعة وربما كذلك بسبب معاييرهم الحاسمة التي يحددون بها شروط الانضمام إلى جمعيتهم، فلابد من التحلي بخلفية ثقافية تراثية وخلق حسن كذلك حفظ جزء على الأقل من القرآن الكريم لضبط اللسان العربي. وليس لفريق الإنشاد آلات موسيقية ينغمّون عليها إيقاعاتهم، بل يحملون موسيقاهم في حلوقهم وأصواتهم الماسّة للقلب من خلال تماوجاتها المحسوبة علوًّا وخفوتًا، جوابًا وقرارا، اتساعا وحدّة، سوبرانو وكورال، فتجد ميزانا موسيقيا دقيقا ينساب في ليل صنعاء البهي فيزيده بهاءً.






أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر