نزار العبادي/ عصام السفياني - مَتـاحـف صَنعـاء .. أسـطورة تنتظر من يحكيها للعالم حضارة بعمر التاريخ ، ومدن تفوح آثارها بعبق المجد، كما تفوح جدران الطين بنكهة البُن اليمني.. ولا يكاد حجر في ربوع السعيدة بغير قصة يسردها للأجيال.. هنا أرض سبأ.. هنا حلق رسول سليمان.. هنا أرق القلوب ، وألين الأفئدة.. وهنا تختلج العبرات أيضاً إذْ يطويها التيه في أسفار البحث عن قرار.
الكل تشده الحضارة الأسطورية لنقل الخطى نحو اليمن، وتغريه مواسم العاصمة الثقافية العربية للتجوال بين سطور التاريخ ، وغرس الحدقات في ألق الإبداع اليماني المتجذر، في وحي الإنسانية.. لكن صنعاء- هذه المتجبرة اللاهية بكبريائها التليد- تأبى إلاَّ أن تصد الجميع ، وتضرم الجدل حول جدوى أن تبقى مفاتن التاريخ خلف النقاب ، تلوذ في الأقبية يبتلعها سكون المتاحف الموصدة الأبواب..!
الوافد على صنعاء يتوقع أنه لن يجد متسعاً لإقناع ناظريه بكل خزائن المتاحف اليمنية النفيسة ، لكنه منذ الوهلة الأولى تصعقه الحقيقة الأخرى..
فوزارة الثقافة والسياحة قررت هذا العام الاستفادة من مناسبة صنعاء عاصمة للثقافة العربية في الترويج للسياحة اليمنية.. ولكن على طريقتها الخاصة- فقد أغلقت الوزارة (المتحف الوطني) منذ بداية العام بذريعة بناء مخزن أرضي، فيما باشرت القيام بأعمال ترميم وتوسيع وصيانة في متحف (التراث الشعبي)، وبهذا لم يعد من حق أحد الاعتراض على عدم وجود زيارات للمتاحف ضمن برامج الوفود القادمة للاحتفاء بالمناسبة.
وعلى ما يبدو أن نهج السياسة الدفاعية المتبعة من قِبل الحكومة اليمنية ترجمت نفسها حتى في صناعة السياحة ، إذْ أنَّ وزارة الدفاع – ممثلة بدائرة التوجيه المعنوي- بادرت للدفاع عن السياحة والتاريخ معا ً، فأولت (المتحف الحربي) عناية خاصة كفيلة بشغر الفراغ الذي خلفته وزارة الثقافة والسياحة.
فقد استقبل المتحف الحربي خلال الفترة من يناير إلى 26 يوليو (121.434) زائراً، منهم (1087) أجانب. في حين بلغ مجموع زوار متحف التراث الشعبي للفترة ذاتها (10.026) زائراً، بينهم (403) أجانب. أما المتحف الوطني فما زال موصد الأبواب.
ومع أن هذه الأرقام غير ذات قيمة لبلد بحجم تاريخ وحضارة اليمن ، إلاَّ أن المقدم ركن شرف غالب لقمان- مدير المتحف الحربي- يبرر ذلك بالقول: (إنها جزء من حالة دولية عامة ، فالسياحة في جميع أنحاء العالم تأثرت بالإرهاب ، والتوترات الساخنة التي تشهدها بقاع عديدة من العالم).
أما السيدة جميلة الديلي-مديرة متحف التراث الشعبي- فقد عللت قلة أعداد الزوار للمتحف بـ(الترميمات والإصلاحات التي جعلت البعض يعتقد أنه مغلق) ، ثم أوعزت أغلب الأسباب إلى (الخطط الوزارية)، و(عدم الأخذ بالمقترحات التي تقدمها).
لكننا حين أمعنا النظر بالجناح المخصص لإدارة متحف التراث الشعبي، وتأملنا في مكتب السيدة الديلي، وأثاثه البسيط جداً، الذي لا يُقارن بأثاث أبسط المكاتب السياحية الخاصة ، أو حتى مكاتب إدارات وزارة الثقافة الأخرى ، تمالكنا الإحساس أن المتحف أمر ضمن الاهتمامات الثانوية للوزارة.
يعتقد المقدم ركن/ لقمان أن زوار المتحف الحربي (يبلغون أعلى المعدلات خلال فترة العطلة الصيفية)، ويقول: (الكثير من طلاب الجامعات يرتادون المتحف الحربي خلال العطلة من أجل عمل الدراسات والبحوث التاريخية)، إلى جانب (الكثير من العوائل ترى في المتحف مكاناً مناسباً لاصطحاب أبنائهم إليه خلال العطلة المدرسية).
ويتفق كلاً من المقدم/ لقمان والسيدة جميلة الديلي بأنهما بحاجة إلى إصدار دليل خاص بالمتحف ، وأنهما بصدد القيام بذلك باعتبار أن الدليل (وسيلة جيدة للترويج للمتاحف عبر مكاتب السياحة)، وعلى الأرجح أن المتحف الحربي سيقهر الثقافة حتى بالدليل ، إذْ أنه قيد المراجعة الآن.
من جهة أخرى يضيف لقمان سبباً جديداَ لضعف أرقام الزيارات من قِبل الأجانب وهو: (عند ما يقرأ السائح اسم المتحف Military Museum يساوره الاعتقاد أن المتحف مختص بالأسلحة ، ومعدات القتال، ومتعلقات الحرب ، ولا يخطر في باله أنه يشتمل على آثار تاريخية ، ومقتنيات من الحضارات القديمة ، وتاريخ اليمن السياسي وغيره).
أحد الموظفين في متحف التراث الشعبي أرجأ قلة الزيارات للمتحف إلى (أن موقع المتحف منزوي ، وتغطية الأبنية المجاورة له ، ولا يمكن للسائح أن يتوقع أن البوابة الخشبية القديمة التي يراها عندما يخرج من النفق هي مدخل متحف.. فليس هناك ما يشير إلى أن هذا المكان مؤسسة مهمة).
ويضيف: (الجهات الرسمية غير مهتمة بالمتحف أبداً، ولم يسبق لأحد أن أحضر وفد رسمي من الضيوف الوافدين على اليمن إلى المتحف لزيارته ، وليس هناك أية إعلانات عنه ، أو أية جهود رسمية لتعريف الناس بالمتحف ، وحثهم على زيارته).
فيما تشير السيدة جميلة الديلي إلى : (قمت بزيارة بعض المعارض التي أُقيمت بمناسبة صنعاء عاصمة للثقافة العربية ، ورأيت في عدد من مهرجانات المحافظات قطعاً تراثية نادرة واقترحت على الوزارة أن تقوم بشراء بعض القطع التي تُعرض ، لكن لم يتم الأخذ بمقترحي).
وعلى العكس من ذلك تماما ً، يشكو المقدم لقمان – مدير المتحف الحربي من ضخامة المقتنيات الأثرية الموجودة لديه ، والمكدسة في المخازن ، والتي لا يستطيع عرضها بسبب ضيق المساحة ، وهو يتحدث اليوم عن خطة وافقت عليها إدارة التوجيه المعنوي لتوسيع مباني المتحف .. وهو صباح يوم الرابع عشر من أكتوبر احتفل بافتتاح (جناح أكتوبر) الخاص بنضال أبناء الشعب اليمني في الجنوب ، وثوراته الخالدة.. في الوقت الذي أوصد متحف التراث الشعبي أبوابه باعتبار ذلك عطلة رسمية ، من غير الالتفات إلى حقيقة أن الناس لن يكون بمقدورها ارتياد مثل هذه الأماكن في غير أيام الإجازات والعطل الرسمية.
وعلى الرغم من كون زوار المتحف الحربي أكثر من زوار متحف التراث الشعبي بنحو (12) مرة ضعف ، إلاَّ أنَّ ما لفت انتباهنا هو أن المواد التي يستخدمها المتحف الحربي لإدامة القطع الأثرية النفيسة – التي تقدر أثمانها بعشرات أضعاف ميزانية الدولة اليمنية- هي نفس المواد التي أمده بها الرئيس علي عبد الله صالح عام 1984 عند تأسيسه للمتحف ، وأن إدارة المتحف عجزت عن الحصول على مواد جديدة من المعنيين بالأمر، وحتى جامعة صنعاء خذلتها في تزويد المتحف بمواد حافظة جديدة ، مما اضطر الأمر الخبراء الفنيين إلى مواصلة استخدام مواد عمرها (20) عاماً.
يرى الدكتور عبد المنعم محمد رزق- أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة- إن مشكلة متاحف اليمن تتلخص في : (عدم إدراجها ضمن استراتيجيات التنمية الاقتصادية الحكومية)، وينتقد الوضع الذي هي عليه من واقع ما رآه ، فيقول: (صحيح أن القائمين عليها يحاولون إظهارها بمنظر حسن ، لكن طريقة الحفظ- خاصة للقطع الحجرية- تفتقر للأسس العلمية ، مما يجعلها عرضة للظروف المناخية من حرارة ورطوبة ، وبكتريا يحملها الهواء قد تضرها كثيراً، ولا تصمد لسنوات طويلة).
ويعتقد أن (على وزارة الثقافة والسياحة وضع المتاحف في مقدمة جميع مهامها ، لأنها ثروة قومية، ووجه اليمن ، ويجب الإعلان عنها ، في الصحف وعلى الجدران ، وبالتلفزيون ، وفي كل مكان حتى من خلال السفارات في الخارج ، ومكاتب السياحة ، ونشر ثقافة ارتياد المتاحف بين التلاميذ ، والموظفين ، وعامة الناس حتى لو كلفها ذلك كل الميزانية.. لأنه فيما بعد ستجني اليمن ثروة منها تضاهي ما يأتيها من البترول).
فيما تقول نجاة أحمد صالح- طالبة بقسم الآثار : "معظم الناس لا يعرفون أن لدينا متاحف ، ولولا أن المتحف الحربي يقع في شارع جمال المزدحم لما عُرف به أحد"، وتضيف: "متاحفنا جميلة جدا ً، وفيها آثار فريدة من نوعها ، لكن على الحكومة اليمنية أن توصل هذه الحقيقة للناس ، وعلى وسائل الإعلام أن تكتب عن ما موجود في المتاحف ، كذلك يجب وضع إعلانات في الشوارع مكتوبة بعدة لغات ليسترشد بها السواح".
لكن إذا كان أهل العلم بالاختصاص يتناولون المتاحف بتلك اللغة ، فلا شك أن رواد المتاحف لهم لغتهم المختلفة.
يونس إبراهيم أحمد – فلسطيني- كان في زيارة للمتحف الحربي حين سألناه عن انطباع ه، فرد "المتحف ملم بجميع الأحداث من الحضارة إلى أيام عهد الإمام إلى الثورة ، شيء جميل جداً، لم بأشياء كثيرة ، وبأسلحة كثيرة ، وما موجود يعطي لأي زائر صورة لأحداث مترابطة ، والتوزيع الموجود ممتاز جداً ، ومنظم على تسلسل زمني".
وفي جانب آخر من المتحف الحربي كانت إلهام محمد – أستاذة علم نفس- تراقب بتركيز جناح الوحدة اليمنية ، قالت لنا مبهورة: (بصراحة المتحف تحفة وجداً منظم)، ولما سألناها حول قيمة المعلومات التي يقدمها المتحف الحربي ردت: (أكيد يقدم معلومات عظيمة.. أنا كنت أعيش في السعودية ، وعندما جئت وأطلعت لقيت توضيح كبير لفصول تاريخ اليمن.. فالذي لم يسبق له قراءة تاريخ اليمن بإمكانه معرفة كل شيء من المتحف).
عادل عبد الكريم منصر- طالب بثانوية عبد الناصر- كان يحملق باندهاش بصورة قطع رؤوس الثوار بيد سياف الإمام ، قال: (ما نراه تاريخ عظيم يعلمنا كيف نكون مثل الأبطال والشهداء الذين ناضلوا في رفع مكانة اليمن ضد الإمام والاستعمار).
وعند مدخل متحف التراث الشعبي كان عبد الله المطري يهم بالخروج من المتحف مع ثلاثة من أبنائه ، أخبرنا أنه حرص على اصطحاب أولاده (لكي يتعرفوا وليشوفوا تراث آبائهم وأجدادهم ، وما يضيعوا بمغريات العصر والثقافة المستوردة)، ويتمنى المطري (لو تعمل الحكومة في كل محافظة متحف مثل هذا ليطلع عليه الناس الذين لا يستطيعون المجيء إلى صنعاء).
أما السيدة "هالين تسوماسلي" –هولندية- فتقول أنها تزور المتحف للمرة الثانية ، وأن ما هو كائن هنا (يمثل ثقافة وتاريخ شعب عظيم يعرفه كل العالم ، والمتحف رائع ، ولا يُمل ) ، مضيفة: (لو كان هذا المتحف في هولندا لما بقي واحد من الهولنديين إلاّ وزاره ، والتقط صورة عند كل عرض منه ، لأنه يحكي حياة العرب وتاريخهم).
أن الحقيقة التي ظلت تفرض نفسها علينا ونحن نتجول من رواق متحف لآخر هي أن المتاحف مازالت بعيدة عن أي رهان سياحي ، رغم انبهار كل من حالفه حظ زيارتها بكنوزها الرائعة؛ فالإمكانيات المادية الضئيلة المخصصة لرعاية المتاحف ، وتطويرها ، وبطء الاستجابة لاحتياجات القائمين عليها تبقى مسألة مثيرة للجدل في ظل حديث المسئولين المتكرر عن الرهان السياحة ، وضرورات تنميتها كمصدر رئيسي للدخل القومي اليمني.
وبغض النظر عن كل جدل في هذا، يبقى اللغز الأصعب ، الذي عجز الجميع عن فك طلاسمه ، هو: لماذا كان العام الذي توجت فيه صنعاء عاصمة للثقافة العربية ، هو التوقيت الأنسب لوزارة الثقافة والسياحة لبناء مخزن للمتحف الوطني وإغلاقه ، وإجراء ترميمات وتصليحات في متحف التراث الشعبي ، وشد الخناق على زواره؟؟ فيا ترى هل سبق أن علم أحدكم بعاصمة ثقافية بلا متاحف؟!
نترك الجواب للدوائر المعنية ، ولأصحاب الرأي من قرائنا الكرام ..
|