المؤتمر نت- عبدالله مهيوب المعافري -
رحلة في جذور الصناعات الفخارية في اليمن
ما من شك أن الإنسان على مر الأزمان والدهور كان محور الحياة والإبداع على وجه البسيطة، لذا ما أنفك يفكر في كيفية البقاء والانتصار على البيئة التي وجد نفسه فيها للوهلة الأولى، ولكي نستقرى أمر استمراره إلى اليوم. لا بد أن يتبادر إلى أذهاننا أنه ينبغي عليه التكيف مع الظروف التي وجد نفسه فيها يواجه ثنائية الفناء أو البقاء. فبديهي أن يختار الثانية شأنه شأن أي كائن حيَّ آخر يؤثر البقاء والاستمرارية بشتى الوسائل الممكنة، وهذا هو ما يعرف بالتكيف وهي مسئلة عبقرية "محظة" ليس من السهل القيام بها على كثير من الناس حتى في وقتنا الراهن. إذ يعدها (إدوار سعيد) عبقرية أن ينجح الفرد في بيئة لا تساعد على النجاح. فما بالنا في البدايات الأولى للإنسان من هنا يتضح لنا أن الإنسان البدائي قد بدأ يعتمد على ما توفره الطبيعة من غذاء يجمعه ويتناوله ثم بداءت مصادر تشح فاتجه إلى البحث عن مصادر اخرى فاهتدى إلى القيد بعد أن استخدم الأداة الحجرية بشكلها الخام، ثم طورها في مراحل لاحقة كانت تنم عن تطور في معارفه نتيجة التجربة والحاجة المستمرة إلى أداة فعالة تعني بالأغراض التي صنعت لأجلها في هذه الأثناء كان الإنسان لا يزال يعيش، ويسكن الكهوف لتقيه من تقلبات الطقس المستمرة، فلما زادت الأعداد بدأ يوسع الكهف ويحيط شرفاته بسياج مبنى من الأحجار الدائرية، والسياج نفسه يأخذ الشكل الدائري.
وعندما بدأ الطقس يجف تدريجياً خرج الإنسان من الكهف ليني أكواخ دائرية يسكنها كانت تقام على أساس بني من الأحجار. داخل حفرة دائرية بمعنى أن المسكن في الأصل ما هو إلا عبارة عن حفرة دائرية طويت من الداخل بالأحجار يعلوها اللبن وسقفت بأغصان الشجر. وهنا يلح علينا السؤال بشدة عن كيفية تدبره لأمر طعامه. والجواب كما يراه الأثاريون أنه بدأ يتعرف على الحبوب في مواسم معينة فكر فيما بعد "باستئناسها" واستنزاعها بمعنى أصح، وذلك من خلال بذر البذر والعودة لحصاده.
وكان ذلك على نمط ما يعرف اليوم بالبستنة المنزلية "حدائق قريبة من المنزل" وبعد ذلك تطور الأمر فوجد الفائض مما دعت الحاجة إلى خزنه وبالتالي ألحت الحاجة إلى وجود أو أواني كبيرة يحفظ فيها الفائض من الحبوب والغذاء.
مما حدى بالإنسان إلى البحث عن تلك الأداة أو الآنية التي لم تكن من الأحجار. فلاحظ الفخار "الطين" المجفف فبدأ يصنع منه الأواني الأولى وكانت خشنة الملمس ذات نوع ساذج خالي من الزخرفة والألوان، ومؤكد أنها صنعت باليد ومع استمراره في الإنتاج توصل إلى صناعة الدولاب "أداة لإنتاج الآنية" وكان ذلك في أواخر العصر الحجري المعدني "كان الإنسان قد اكتشف المعادن".
وبصفة عامة فقد كانت البديات الأولى لإنتاج الفخار في العصر الحجري الحديث الفخاري. "إذ يقسمه علماء الآثار إلى طورين طور ما قبل الفخار، والطور الفخاري، ويمتد طور ما قبل الفخار فيما بين (8000ق.م – 7000ق.م)، ويشار إليه في المراجع الآثار بهذه العبارة (Pre- Pottery) والطور الثاني هو طور الفخار (Pottery neolethic) وهو طور العصر الحجري الحديث الذي يمثل مراحل ما بعد الألف السابقة ق.م.
التي أزد هرت فيها القرى الفلاحية الأولى شمالي العراق وزاد فيها اعتماد الإنسان على الزراعة والتدجين، للحيوان كونه مورداً هاماً من موارد الغذاء.
ويرى الدكتور "مورنكات" في كتابه تاريخ الشرق الأدنى القديم صـ25، أن اختراع الدولاب تم في الحقبة التي تشمل العصر الحجري المعدني الوسيط (5000ق.م).
المزامن مع دور العبيد الأولى والعصر الحجري المعدني الأخير (4000-3500 ق.م) أو ما يعرف بدور العبيد الثاني "إذا يقول حقاً لقد حققت صناعة الفخار تقدماً تكنيكياً جباراً خلال هذه الفترة باختراع الدولاب الذي كان يدار يدوياً ببطء" في بادئ الأمر ونستطيع أن نتتبع مراحل صناعة الفخار من خلال استقراء مواقع صناعته الأولى بداءً من فخار سكجة كوري شمالي سورية مروراً بفخار "حسونة" وفخار "سامراء" (حلف) وفخار "برسويوليس" و"السوس" وفخار "أورك" (الوركاء)، ودور جمدة نصر وصولاً إلى فخار فجر السلالات حتى الفخار "الأكدي" والبابلي القديم غيره من أنواع الفخار المرتبط بالحضارات الأولى في بلاد الرافدين والشرق الأدنى القديم عامة.
تابع الفخار حلقة في سلسلة تطور الحضارة الإنسانية
1- فخار تهامة
كنا قد أشرنا في مقدمة هذا الموضوع عن الأسباب التي قادت الإنسان إلى البحث عن أدوات مناسبة وملائمة لحاجاته المتزايدة يوما بعد يوم فاهتدى إلى صناعة الأواني الفخارية ذات النمط السمبع الخشن وتكون عادة غير مشوية بالنار ومصنوعة يدوياً، نتيجة ملاحظته للغظار عندما يجف (الطين)
والبدايات الأولى لصناعة الفخار في اليمن ترجع إلى حوالي 2600 م. بحسب اكتشافات البعثة الإيطالية في المرتفعات الوسطى بقيادة دميغريه.
وكذا الحفريات التي قام بها عبده عثمان غالب في سنة 93م أثناء رئاسته لقسم الآثار بجامعة صنعاء. اذ عثر على فخار سمج خشن الملمس من النوع البسيط جدا في صناعته أما في المناطق السهلية من اليمن وتحديداً في سهل تهامة فقد ظل الأمر مجهولا لعدم قيام أعمال تنقيب أثري منتظم بشكل علمي، وفي الأعوام 96، 97م، قامت البعثة الكندية التابعة لمتحف اونتاريو الملكي بأعمال تنقيبات في سهل تهامة بقيادة (إدوارد كيل) وتحديداً في قرية الميتنة تضمنت تحريات في تل الكتف الأحمر الكبير الذي أرخ إلى الفترة الزيادية (دولة بني زياد) بمعنى الحقبة الإسلامية.
وهذه القرية وما يجاورها بمحيطها هي ما يعرف (الفازة) الميناء القديم الذي كان يتم الدخول منه إلى زبيد وغيرها من المدن في ذلك الحين (أيام الرسوليين والبعثة في واقع الأمر كان هدفها دراسة زبيد بأوسع صورها عن طريق الصدفة عثر على موقع المدمن الذي يعد مكمل لهذه الدراسة وعلى جانب كبير من الأهمية لأنه يكشف عن تاريخ السهل أثناء فترات ما قبل الإسلام.
والمثل اليمني يقول (تهامة طرق) وما حدث يؤكد مصداقية هذا المثل فعندما انعطف مدير البعثة مع فريقه عن الطريق خطاء بعد نخيل المد من عقب نقل العمال والمعدات من قرية المتينه إلى الدمن صادف سالم عباشي شريني الذي سأله ما إذا كان يريد رؤية الأحجار (آنصاب) فذهب وإذا به موقع إثري هام جداً أجاب عن استغراب الغياب النسبي لمواقع أثرية تعود إلى فترة ما قبل الإسلام.
الفخار
أ- كيفية صناعته
كان يتم أولاً اختيار التربة المناسبة الخالية من الشوائب الكبيرة وبعد ذلك يقوم الصانع غربلة الرملة التي اختارها لصنع الأواني من الشوائب المتبقية بعد هذه الخطوة يخلطها بالقش لزيادة تماسك الطينة بعد عجنها بالماء.
ثم يصنع منها الآنية التي يحتاجها بالأشكال التي غالباً ما كانت بسيطة تتناسب وعملية الصنع اليدوي.
ثم يقوم بتجفيفها فيزيائياً (تحت أشعة الشمس) وفي المرحل المتأخرة عندما تقدمت هذه الصناعة كانت تجفف بالحرق الذي يسبقه تنعيم سطح الآنية إما بتمريرها على سطح أملس او على راحة اليد.
وكانت الأواني المستخدمة لخزن الحبوب تكون عادية لا تحرق وإن أحرقت فبنسبة متفاوتة.
أما الأواني الصغيرة التي تستخدم في الأكل والشرب وحفظ السوائل فكانت تصنع بحيث تكون أقل سامية ثم تطلى بطبقة من التزجيج تشبه الكؤوس الصينية.
ويرتبط فخار تهامة بالبيئة لأن تهامة فقيرة جداً بالجبال أو لا يوجد جبال قريبة من مناطق التجمعات السكانية مما حدا بالإنسان إلى الاعتماد على الأواني المصنوعة من الفخار بشكل كلي، وهذا ما يفسر استمرار هذه الصناعة في سهل تهامة إلى اليوم خاصة في حيس التي ينسب إليها تسمية" الحيسي" المستخدم في شرب القهوة وكذلك " الكوز" الذي يبرد فيه الماء وتلك الصحف التي تستخدم في عمل الفتة الشعبية في المطاعم اليمنية في وقتنا الحالي.
وقد عرفت بعض الأواني الصغيرة في مراحل سابقة نسبية باسم السلطاينات كانت مزججة بلون أصفر فاتح يقال أنها تعود إلى عهد الدولة الرسولية عندما بداء الفخارون يهتمون بتلوين الأواني بهذا اللون وكذلك اللون الأبيض متأثرين بالأواني المستوردة من الصين في ذلك الوقت.
نتيجة ازدهار التجارة بين الدولة الرسولية والصين.
وأما قبل ذلك فكان الفتى الفخار رذا لون أحمر غير مزجج وكم هو جميل لو أن وزارة السياحة في اليمن تشجع الفخارين اليمنيين على استمرار هذه الصناعة خاصة وأن هناك عودة كبيرة جداً لاستخدامها الصحي مقارنة بالأواني البلاستيكية والمعدنية التي لها أضرار لا تحصى خاصة وأن الفضائيات التي تثبت حلقات عن الطب البديل تؤكد على أهمية استخدام الأواني الفخارية، وقد باشر الفريق أعمال المسح الأثري في الموقع الملي بكسر الفخار الأثري إذ كان الموقع غني بالفخار وبالمناسبة فإن الفخار من أهم المواد التي تحدد ما إذا كان الموقع أثري أم لا بسهولة. لأسباب عديدة أهمها:
أ- مقاومته الشديدة لعوامل التلف والتعرية وكثرة ما يوجد من كسره حتى وإن تعرضت الأنية للكسر فإن كسرة منها تزودنا بمعلومات هامة وغزيرة.
وكانت كسر الفخار متناثرة في الموقع بمساحة تبلغ أكثر من نصف كيلو متر.
وقد دلت هذه اللقى الأثرية على مستوطنة قديمة على الرغم من عدم كشف ما تحت الكثبان الرملية، في حين أن اللقى الفخارية التي جاءت من المطقة الجنوبية الغربية للموقع فيظهر أنها تراكمت بواسطة ترسيبات مياه الفيضانات.
وعند تحري البقايا المتناثرة المختلفة في مساحة تقدر بـ(8) كيلو مترات مربعة.
وفي الموقع الرئيس كشفت التنقيبات عن أنصاب الميغاليث الجرانيتية القائمة على أدوات نحاسية وبعض مقابر الأطفال التذكارية. وكذلك الزجاج البركاني الأوبسيديان) وبعض الأدوات الحجرية لما قبل التاريخ وبدء العصور التاريخية.
· التنقيبات على ضوء الكسر الفخارية:
دلت التنقيبات على وجود أنشطة حرق تشير الى وجود مطبخ وكذلك تم العثور على مجموعة فخارية كبيرة من المنطقة ومن ضمنها اكتشفت حفرة نار واضحة المعالم لكن لم يعثر على بقايا عضوية فيها.
· تصنيف الفخار:
وجد أن كثافة الفخار الذي التقط من السطح وفخار الحفريات متساوية ، وفي بعض الحالات وجدت الأوعية الفخارية كاملة بمواضعها، وبعض الكسر ترسبت بالقرب من أماكنها الأصلية وكان ينقسم الى نوعين:-
1- الأول فخار من النوع الذي أطلقت عليه البعثة اسم فخار محطة الغاز (Gasstation) من موقع (STN) شمال زبيد الذي يعد الموقع الرئيسي الوحيد الذي زودنا بفخار ما قبل الإسلام، حسب الدراسة التي قامت بها البعثة في (10-1)/95، 1996م (keall).
صنع الفخار باليد بشكل جيد ويشابه من حيث الشكل فخار موقع صبر بمحافظة لحج الذي أشار إليه الدكتور/ فوغت في مؤتمر دراسات الجزيرة العربية، والذي ارخ الى حوالي 1300 ق.م0 900 ق.م.
استناداً الى التواريخ التي حصل عليها بواسطة الراديو كاريون المشع وهو تاريخ نسبي، ليس مطلق.
لكن وجود (غطاء مثقب) يحمل رموزاً محززة قد تعتبر مرحلة أولية لعلامات كتابية إضافة الى وجود حروف أولية سبئية على أحد النماذج يقترح التاريخ الأحدث لتلك المواد.
وقد وجدت أنواع من فخار صبر تختلف عن فخار (STN) من زبيد وغياب أنواع تشبهه ضمن فخار صبر، مما يجعلنا نتسائل إذا كانت هناك تقاليد محلية لصناعة الفخار من منطقة الى أخرى أو أن الأمر يتعلق بفترات زمنية مختلفة لكن الأرجح أنه يوجد تقاليد مختلفة محلياً من منطقة الى أخرى مرتبطة بنوع الأنشطة اليومية والاستخدامات برائي وهذا النوع الثاني الذي تحدثنا عنه آنفاً كان النوع الجيد.
ولا نزال نرى الأكواب المصنوعة في حيس تستخدم لشرب القهوة وتباع في محلات تبيع هذه الأواني، وكذا الحصير المصنوع من صعف النخيل ويطلق اليمنيون على هذه الأكواب اسم "حيسي"، وهناك نوع آخر يسمى المُصيب لا كنه يختلف من حيث شكله وصنعه حيث انه غير مذجج وغالب الظن أنه يصنع في محافظة تعز، التي سنتناول أهم صناعتها الفخارية في مقالة آخر بإذن الله.