المؤتمرنت- نزار العبادي -
حروب الإعلام من خنادق السياسة
يجهل كثيرون مدى قوة الإعلام في التأثير على الأحداث، وصنع المتغيرات. وهو في الحروب قد يتفوق على أسلحة حديثة-كتلك التي استخدمت في فتح أبواب جحيم الفلوجة أمام سرايا المارينز.
يروى أن هولاكو-قائد المغول- كان أبرع من استخدم الحرب الإعلامية في التاريخ، إذ أنه كسب الحرب على بغداد قبل أن تبدأ.. وكان ذلك بأعداد قليلة من رجاله، وثلة من العملاء ممن أشاع بين الناس أساطير -عن بسالة الجندي المغولي، وقساوة بطشه، ووحشيته مما خُيل لأهل العراق أنهم سيواجهون جيشاً من المردة!
وعندما اقتحم هولاكو بغداد عام 656هـ كان الجندي المغولي يطرق الباب فيخرج له رب الدار فيطلب منه إحضار سيفه، حتى إذا ما أتى به سلّه المغولي من غمده، وقتل به صاحبه،ومضى إلى غيره!.
ومثلما يهزم الإعلام بعض الشعوب، فإنه كذلك يفعل مع القادة أيضاً.. فالقائد الألماني (أدولف هتلر) في الحرب العالمية الأولى أغار على إنجلترا لأول مرة بـ(4.000) طائرة، فظنت الأخيرة أنها كل قوته الجوية، لكنه فاجأها بغارة قوامها (7000) طائرة، ولم يكن بوسع الإنجليز عمل الكثير حيال ذلك؛ إلاّ أن علماءهم ما لبثوا أن اخترعوا جهاز حل الشفرة، فأخذ الجيش البريطاني يتجسس على خطط الألمان الجوية، وينصب لها الكمائن ويدمرها. فأثار الأمر دهشة هتلر الذي لم يخطر بباله وجود اختراع كهذا. فكانت أن سربت الاستخبارات لإحدى وسائل الإعلام الإنجليزية خبر وجود ضباط ألمان برتب قيادية رفيعة يسربون معلومات عن حجم وتوقيت الغارات الألمانية للإنجليز.
حمل هتلر الأنباء محمل الجد، وبات يضع مساعديه في دوائر الشك، ثم أخذ بإعدام بعضهم الواحد تلو الآخر، إلى أن ورده العلم بالاختراع البريطاني الجديد.. ولكن بعد أن خسر قيادات عسكرية بارزة، وضعفت خططه، وتمرد بعض ضباطه بسبب الإعدامات، فكان ذلك أحد أسباب خسارته.. ولم تكن الشرارة الأولى سوى "خبر في صحيفة".
أما في شطر اليمن الجنوبي (سابقاً)، فقد استخدم الرئيس علي ناصر محمد الإعلام في إعداد ميدان المواجهة مع خصومه. فقد أفشى لوسائل الإعلام بطريقة ذكية أن هناك خططاً إسرائيلية لضرب منظمة التحرير الفلسطينية في عدن.. الأمر الذي سمح له لاحقاً بتحريك بعض وحداته العسكرية داخل مدينة عدن، ونشرها في مواقع مهمة دون أن يثير ريبة عبدالفتاح إسماعيل وبقية القادة في جناحه، فكان الإعلام لاعباً رقم واحد في أحداث الثالث عشر من يناير 1986م الدامية.
وفي الوقت الحاضر نجد أن وسائل الإعلام الأمريكية تتحكم بجزء كبير من سياسة الولايات المتحدة، وربما تصبح عوامل نجاح أو إخفاق مخططات الرئيس "بوش" رهن تلك الوسائل في بعض الأحيان.. فالمخاوف الكبيرة التي زرعها الإعلام في نفوس الشعب الأمريكي من أسلحة الدمار الشامل العراقية، والتهديد الذي تمثله على حياتهم منح إدارة بوش التأييد الشعبي الأمريكي لاحتلال العراق.. فيما كان الهلع الذي تسببت به سيناريوهات (الإنثراكس)المرسل بطرد بريدي لإحدى وسائل الإعلام، ثم المنثور داخل البيت الأبيض، كان مبرراً للإبادة الوحشية في أفغانستان آنذاك، وللاعتقالات الجزافية للعرب المسلمين داخل الولايات المتحدة، ثم للوصاية الأمريكية على شعوب العالم.. والفضل كله لدوائر الترويج الإعلامي الموجّه..!
لاشك أن دور الإعلام، وتأثيره أقوى بكثير مما تستطيع بلورته الأمثلة السابقة، وإلاَّ لما حرصت المؤسسات العسكرية في مختلف أرجاء العالم على إقامة دوائر (توجيه معنوي)، وكذلك شُعب (الحرب النفسية) الملحقة بها، وجعل جنودها موضع برامج تعبوية مكثفة.
ولكن السؤال الأهم هو: من أين يكتسب الإعلام كل هذه القوة والتأثير في صناعة الأحداث، أو تغير مساراتها!؟ وهل بمقدوره بناء حصانة نسبية للمجتمع من عدوى الإعلام المضاد!؟
من المؤكد أن الإعلام يستوحي أدواره من علاقته بالرأي العام، وبالقدر الذي يكون الارتباط عليه وثيقاً، يتحدد مستوى القوة والتأثير –سواء سلباً أم إيجاباً- وهو بالتالي أمر مكفول بحجم الثقة التي يستطيع الإعلام بناءها مع جمهور المتلقين، وتشكيل رأي عام منها، وهنا تكمن الإشكالية التي يعاني منها واقع الإعلام العربي قاطبة- بما فيه إعلام دول الديمقراطيات الناشئة، كاليمن، والمغرب، والأردن، والبحرين.
إن بناء جسور الثقة بين الإعلام وجمهور المتلقين ليس بالأمر السهل؛ إذْ يستدعي ذلك خصائص عديدة منها: استراتيجية عمل واضحة، ومهنية أكاديمية عالية، وتأهيل بشري مستمر، تتنامى به الخبرات بما يواكب الاتجاهات العالمية، فضلاً عمّا تمليه الخصوصيات الوطنية من أولويات تلامس حاجة الواقع، وتعمق أواصر الجذب بين الوسيلة الإعلامية وجمهورها المتلقي.. وهي خصائص تفتقر إليها معظم الوسائل في ظل تجاهلها لوظيفتها الحقيقية، وانصهارها في قوالب سلوكية ضيقة-غالباً حزبية أو سلطوية- تحاصر أنشطتها، وتقصيها نحو طرف ما من مسارات ساحة العمل الوطني.
وفي ظل حالة الضعف التي تؤول إليها المؤسسات الإعلامية، فإنها –حتماً- ستعجز عن تحصين المجتمع من الإعلام المضاد، وصولات (الحرب النفسية) التي تطول اتجاهات الرأي العام.. فالحصانة مسألة لا يكتسبها الفرد، أو المجتمع في ظرف يوم، أو أسابيع، أو شهر، بقدر ما هي خلاصة جهود مضنية، ومستمرة ، ترافق المرء حتى آخر لحظة من حياته، لتمثل مستوى وعيه، وثقافته، وخبراته المعرفية المتراكة التي يستخلص من علاقاتها المتشابكة تحليلاته لمنطق ما يُستحدث من فعل، وردود فعله الجديدة التي يُنتظر أن تأتي متوازنة، ومستقرة.
وعليه فإن إخفاق الإعلام الوطني في مد جسور الثقة مع ساحته يدفع الملتقى للبحث عن وسائل أخرى –خارجية- تساعدها مهاراتها وإمكانياتها في دغدغة مشاعره، وكسب وده، ومن ثم جعله إحدى أدواتها في نشر ما تروج له- سواءً كان فكراً صالحاً أم طالحاً- وذلك هو مصدر القلق الحقيقي ، لأنه يمثل حالة اغتراب عن الوطن والواقع يبدد الجهود الحكومية في تعبئة مواطنيها لبرامجها التنموية، أو لمشاركة محددة ضمن موقف ما، خاصة عند الأزمات الساسية، والحروب، وغيرها.
اعتقد أن اليمن ليست بمنأى عن دائرة استهداف الإعلام المضاد (المعادي)، الذي يسعى لتشويه صورتها، وتعكير صفو أمنها واستقرارها، ونسف مشروعها الديمقراطي. وأعتقد أيضاً أن الجبهة التي فتحتها قناة "المستقلة" الفضائية على مدى الشهرين الماضيين كانت تستحق من وسائل الإعلام اليمنية الرد على مصادر سمومها الحاقدة، ولجم أفواهها بما يستحق هذا الوطن من وفاء وإخلاص، وتضحية.. ولو بمفردات قلم شريف لا يسمح لسُرّاق التاريخ إعادة كتابته من وحي اللصوصية..!!
* * *