المؤتمرنت-تحقيق: نزار العبادي -
أعياد المسيح ترفل بسلام المآذن بصنعاء
لعل أصوات المآذن وحدها من جددت في نفوسهم رغبة الاحتفال خارج أسوار البيوت، أو السفارات المحاطة بالحراسات، فهم يؤمنون أن ليس هناك ما هو اعظم من الفرح غير أن تتشاطره مع الآخرين.. ولاشك أن المسيحيين المقيمين في صنعاء كانوا متأكدين أن هذه المآذن كانت ذات يوم أول من استقبلهم بالتكبيرات التي تهادت إلى قلوبهم عبر الأثير فبددت وحشة الاغتراب، وأسكنت السلام في النفوس.. فاليمنيون علمهم الرب الواحد قوله: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).. فلا عجب إن وجد المسيحيون في تلك الثقافة رخصة الاستمتاع بأعياد ميلاد السيد المسيح-عليه السلام- على نحو لم تشهد اليمن له من قبل مثيل..
مارغريتا سبونسون- امرأة هولندية- كانت مساء الأربعاء الماضي في أسواق (الهدى) بشارع الزبيري- تتحرك بين المعروضات كما لو أنها في مهمة استثنائية، ولم يوقف أكفها عن تقليب علب وأكياس الزينة الخاصة بلوازم الميلاد غير سماعها لكلمة (صحافة Press) واحترامها لهذه المهنة.. وكانت السعادة تغشى ملامح وجهها حين أخبرتني: (إنها المرة الأولى التي سنحتفل بعيد الميلاد بمعزل عن الأسرة في الوطن.. الجو هنا رائع ويشجع على القيام بالكثير في ليلة رأس السنة.. لقد اشتريت بطاقة يمنية بريدية جميلة وأرسلتها لأبي، فهو سيحبها كثيراً).
وتذكر "مارغريتا" أنها والكثير من الأصدقاء حجزوا صالة مطعم مفتوح في "حدة"، وسيقضون وقتاً ممتعاً فيه مساء الجمعة، وحين سألتها عن مدى قلقها من أي اعتداء محتمل، ضحكت بصوت عال لفت انتباه عائلة كانت بالجوار، وقال: (الخوف موجود على صفحات صحفكم فقط، لكننا لم نتعرف عليه بعد، ووسائل الإعلام تبالغ كثيراً من أجل الإثارة). ولما طلبت منها أن تكشف عن أمنيتها للعام الجديد، قالت بملامح جادة: (السعادة والسلام لكل شعوب العالم).
يقول العاملون في أسواق "الهدى" إن البضائع التي استعد بها السوق من أجل أعياد الميلاد لهذا العام لم يسبق لهم أن تجهزوا بمثلها، أو بحجمها، ويعتقدون أنها لم تكن مجازفة، بل "قراءة موفقة لطلب كبير متوقع، ثم قياسه وفقاً لمعدلات الزبائن الأجانب وغير اليمنيين الذين يرتادون السوق على امتداد العام.
"صميم حنا"-دكتور عراقي مسيحي- يؤكد (هذه السنة وجدنا أن التجار اليمنيون تعاملوا بذكاء؛ حيث أنهم أدركوا أن في بلادهم أعداد كبيرة من الأجانب والعرب غير المسلمين الذين يعملون في مختلف الشركات والمشاريع والمستشفيات، وهؤلاء لديهم احتياجات قد تكون خاصة لا يطلبها المواطن اليمني –على سبيل المثال الزينة والهدايا وبعض أصناف المواد الغذائية الخاصة بالكرسماس- ويعتقد الدكتور صميم أنه وبعض أصدقائه متحمسون للاحتفال بالكرسماس كثيراً، لكنهم لا يعرفون لماذا هم متحمسون، إلاَّ أنه يذكر: (ربما لأننا في بلد يحترم حريات الآخرين ويتفهم حاجاتهم، ولا يضايقه أن نعيش بينه رغم أننا غير مسلمين).
أما علوي السباعي-مدير الخطوط الجوية اليمنية-فرع الزبيري- فإنه يرى أن (هذا العالم لم تحدث حركة سفر نشطة في الفترة السابقة لأعياد الميلاد، كما هو معتاد، ويعتقد: بلادنا فيها أمان واستقرار كبير جداً وهذا وحده يشجع الأجانب على إحياء احتفالاتهم في أي مكان يرغبون فيه داخل اليمن. وبعد أن راجع جداول الحجز للأيام الأخيرة من ديسمبر أكد أن (الرحلات إلى روما، وهولندا، وفرانكفورت) فارغة تماماً، لكن هناك أعداد قليلة من الفرنسيين لديهم حجوزات خلال هذه الأيام.
السيد "بوشر رولتمان" وزوجته –من ألمانيا- ذكر أنها "المرة الثانية التي سنحضر أعياد الميلاد في اليمن، وكانت المرة الأولى عام 2000م، وهما متفائلان بأنهما سيستمتعان كثيراً بالوقت في اليمن.
وذكرت زوجته أن ابنتهما "أرسلت لنا شجرة ميلاد رائعة مع أصدقاء وبعض الحلوى.. أنني أحبها كثيراً فهي ابنة حميمة).
ويؤكد السيد "رولتمان" (خططنا مع أصدقائنا للاحتفال معاً خارج المنازل في إحدى قاعات صنعاء السياحية)، ويقول إن أمنيته للعالم الجديد (أن تسود المحبة العالم)، اما زوجته فهي تتمنى "السلام.. لاشيء غير السلام".
أما فندق "تاج سبأ" الذي يرتاده أغلب ضيوف اليمن، فقد كانت هناك استعدادات واضحة للعيان، فقد تم تعليق الزينة، ووقف "بابا نويل" عند بوابة إحدى الصالات المغلقة وحوله بعض الكرات الملونة وزينة مختلفة وهدايا، فضلاً عن شجرة الميلاد (Mat- Tree).
ويذكر "فرنيس فرناندس" –مدير صالة الاحتفالات بالفندق: (لقد أعددنا برنامجاً حافلاً لمساء يوم الجمعة للاحتفال بالكريسماس إيف.. لدينا الآن فرقاً فنية تستعد داخل الصالة لتقديم عروض مختلفة، كما أن كل شيء سيكون حينها مهيأ على طاولات الزبائن، وسنقوم بتقديم هدايا أيضاً بالمناسبة، ويتوقع السيد فرناندس (هناك أعداد كبيرة جداً ستحضر للاحتفال بصالة الفندق. ويشير إلى أن الإدارة (أعدت برنامجاً خاصاً بالسنة الجديدة عشية الأول من يناير، وستقام حفلة يحيها فنانون جاءوا من خارج اليمن خصيصاً لهذه المناسبة).
من جهة أخرى يؤكد قنصل دولة غربية – فضل عدم ذكر اسمه- (أننا مبتهجون لأننا سنقيم احتفالنا خارج مبنى السفارة، وبعيداً عن أجواء العمل اليومي الذي اعتدنا مشاهدته كل يوم، وعندما سألته ما الذي كان يحول دون ذلك في الأعوام السابقة قال مبتسماً: (لاشيء سوى أن بعض التقارير المقلقة كانت تضطرنا للالتزام بتعليمات بلداننا.. لكننا في النهاية اكتشفنا أن التهديدات التي كانوا يحذرونا أحياناً منها غير موجودة في اليمن، وإنما موجودة في مخيلة المسئول الأمني الذي لا يعرف كيف يثبت لقيادته إنه يعمل، ومجتهد في عمله).
وأضاف القنصل: معظم السفارات الصديقة لنا ستخرج عن التقليد وبعضنا سيشترك سوية في حفلة واحدة بمكان واحد.. رغم وجود توتر وعنف في أماكن كثيرة من الشرق الأوسط، لكن نعتقد أن اليمن بلد آمنة وتغلبت على مشاكلها، ونحن جميعاً وقفنا معها لأن لدينا صداقة قوية مع حكومتها وشعبها).
فيما وجدنا (أناهيد نرسيس)- أرمنية- في ركن شارع جمال تنظر من خلال واجهة أحد متاجر بيع الإكسسوارات، قال إنها تبحث عن نوع مميز لها من مساحيق الوجه، لكنها لم تعثر عليه، وكانت تفكر بالذهاب إلى المجمع الليبي، أو أسواق "شمّر" بمنطقة "حدة".
أخبرتني أناهيد: (تلقيت دعوة من أصدقاء عرب-سوريين ولبنانيين- وسأحتفل بأعياد الميلاد برفقتهم، فهم أصدقاء مخلصين وعوائلهم مميزة.. اعتقد سيكون الأمير مثيراً بالنسبة لي، أما أمنيتها للعام الجديد فهي: (أن يرحم الرّب البشرية باستئصال نزعات الشر من قلوبها وإبدالها بالمحبة).
وعلى الرغم من أن اليمن مشهورة بإسلامها، وتمتاز عن سواها بأنها أول من قدم على الرسول (ص) بالمصافحة، وأنها آخت بين الأوس والخزرج، وكان لأهلها شرف حمل راية الفتوحات الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، إلاّ أن ذلك الفضل لم يمنع وجود اليهود على أرضها ضمن نفس دائرة عيش المسلمين، أما المسيحيين فلا يكاد يرد لهم ذكر، ومع هذا فإننا عندما سألنا الشيخ محمد عبدالعظيم-أحد رجال الدين- عند مدى قبوله بإقامة المسيحيين احتفالاتهم بأعياد الميلاد في قلب العاصمة قال: (هم أحرار بأنفسهم وعباداتهم وتقاليدهم) بالاستناد إلى قوله تعالى "لكم دينكم ولي دين"، ولا يجوز منعم من شيء أو فعل مادام ذلك لا يلحق أذى أو ضرراً بالمسلمين، وما داموا يراعون حرمة البلد وعرف أهلها وتقاليدهم.. ويجب أن لا نغفل أنهم أهل ذمة، ومعنى هذا أنهم عندما يكونوا في بلاد المسلمين يصبحوا أمانة في أعناقهم حتى يغادروها.
لاشك أن رجال الدين لهم ثقافتهم الرفيعة التي قد يفتقر لرؤاها المواطن العادي، لذلك انتهزت وجودي في سيارة أجرة لأسأل سائقها علي عبدالستار الشعذري –28 عاماً- نفس السؤال السابق، فرد بالقول: (عادي.. مادخلنا فيهم.. أين مايريدوا يجلسوا، ويحتفلوا أهلاً وسهلاً فيهم، لكن ما بيننا خمرة، وسُكر.. عليهم أن يحافظوا على طهارة البلاد، وتقاليد أهلها.. غير هذا ما نقول غير: أرحبوا !).
تقول مصادر مطلعة أن الغالبية العظمى من الأجانب والعرب غير المسلمين المقيمين في اليمن هم من العاملين في السلك الدبلوماسي، والشركات الاستثمارية الأجنبية –خاصة النفطية- أو بعض منشئات القطاع الخاص، التي تتطلب خبرات ومهارات فنية غير متوفرة في اليمن، إلى جانب وجود عدد من العاملين في المنظمات الدولية سواء التابعة للأمم المتحدة، أم المستقلة، فيما تبقى هناك نسبة قليلة أخرى هم من السياح الذين يتوافدون على اليمن للاستمتاع بمعالمها التاريخية والحضارية.. كما تشير إلى أن هناك أعداد من العرب في الأغلب تأثروا بحياة وقيم المجتمع اليمني المسلم فدخلوا الإسلام، لكن لم يحدث العكس إطلاقاً.
وعلى كل حال فإن ضيوف اليمن آثروا هذا العام إحياء شعائرهم واحتفالاتهم بأعياد "الكريسماس" ورأس السنة الميلادية في أماكن مختلفة عّما عهدوه في الأعوام القليلة الماضية، حتى أن الأمر اقتضى حجز صالات العديد من المطاعم العادية مثل "المنقل- الخيمة- الفانون- الديوان"، وغيرها ..
أنه مشهد فريد يبعث في نفوسنا فضول التساؤل: ياترى أي سر حملته تكبيرات المآذن، وتراتيل المساجد لتبلغ حكمة السكينة والسلام التي تبسَّم لها ثغر السيدة العذراء في يوم أحيا المسيحيون فيه ذكرى مولد عيسى بصنعاء فابتهل يمن الإيمان، يتلو : (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حّيا)*.
*- سورة مريم/ آية 15.